من المتحكّم بالمصير؟

عندما كنتُ صغيرة إعتقد الناس أنني بسيطة ربما لأن أمور كثيرة لم تكن تهمّني وفضّلتُ الغرق بعالم إخترعته لنفسي. أصيب أهلي بخيبة أمل لأنني كنتُ إبنتهم الوحيدة وكانوا قد علّقوا آمالهم عليّ فمن سيريد الزواج من فتاة مثلي؟ فوضعوني جانباً أقوم بالأعمال المنزليّة ولم يعبؤوا حتى بإرسالي الى المدرسة. ولكنني كنتُ طموحة ولم أقبل أن يفوتني شيء مدركة أنّ العالم واسع وفيه أسرار كثيرة عليّ إكتشافها حتى من دون مساعدة أمي وأبي. كان لي صديق من عمري ألعب معه في الحيّ وكان هو يرتاد إلى المدرسة فطلبتُ منه ان يعلّمني القراءة والكتابة وكل يوم بعد إنتهاء دروسه كنّا نلتقي سرّاً ليدرّسني. وشغفي للعلم دفعني لأكون تلميذة مشتهدة وسرعان ما أصبحتُ قادرة على قراءة أيّ نصّ لو كان مخصصاً للكبار فكنتُ لأتمرّن أسرق الجرائد الملقاة هنا وهناك وأختبئ تحت الدرج أتصفّحها. وكبرتُ وباتت لي معرفة  واسعة تفوق تصوّر أي شخص يعرفني وبدل أن يفرح أهلي للأمر زاد إستيائهم لي وكأنني في طريقة ما كنتُ قد خنتهم وأثبتّ أنّهم أخطؤوا بالحكم عليّ فقرروا إبعادي عنهم بإرسالي عند قريبة لهم في المدينة. لم أحزن أبداً لأن حلمي كان ترك تلك الضيعة التي تحجّم الإنسان والذهاب الى حيث العلم والنور والمعرفة. وعندما رأيتُ العاصمة لأوّل مّرة كنتُ في الحادية والعشرين من عمري وذُهلتُ لكبر مبانيها‫ وكثرة سكّانها وسيّاراتها وتأكدتُ حينها أن هذا المكان واسع كفاية لأفتح فيه جناحيّ.

مكثتُ عند إبنة عمّ أمّي وزوجها وكانا أناساً طيّبين فعلوا ما بوسعهما لإسعادي حتى أنّهم إستطاعوا إيجاد عملاً لي في صحيفة كبيرة أجيبُ فيها على الهاتف وآخُذ المواعيد. طرتُ من الفرح! وأخيراً كنتُ سألتقي بأشخاص مثقّفة  لديها أشياء مهمّة تقولها، ومنذ اليوم الأول في العمل شعرتُ أنني وجدتُ مكاني. صحيح أن عملي كان بسيطاً ولكن كنتُ أسمع طوال النهار أحاديث عن مقالات وتحاليل كُتِبَت عن أحداث حصلَت هنا وهناك.

 كان رئيس التحرير رجل مسنّ وذات طبع حاد يمارس سلطته على المحررين طوال النهار وكان الكل يخاف منه. لم يلاحظ وجودي يوماً مع أنني كنتُ التي تحّول له المخابرات وتذكّره بالمواعيد فكنتُ بالنسبة له مجرّد صوت عبر الهاتف.

وفي أحد الأيّام سمعتُ صراخاً يخرج من مكتبه فركضتُ لأرى ما الذي يجري ووجدتُ محرّراً يتلقّى التوبيخ:

- أيّها الغبي! كيف تكتبُ هذه المقالة دون أن تجري أبحاثاً عن موضوع غلاء المعيشة؟ هل تخال أنّ القرّاء جاهلون؟ إذهب من هنا فوراً ولا تعود إلاّ ومعكَ معلومات كافية!

ثم إستدار نحوي ورآني واقفة على الباب فصرخ:

- من أنتِ وماذا تفعلين هنا؟

قلتُ له بهدوء:

- أنا عاملة الهاتف سيّدي ألا تعرفني؟ أعمل هنا منذ أكثر من ستة أشهر.

أحرِجَ من جوابي فأخذ الباب وأقفله بوجهي.

 لا أدري لماذا فعلتُ ذلك ولكن في المساء ذهبتُ إلى المنزل وكتبتُ نصّاً عن الأوضاع المعيشيّة وعلاقتها بسياسة المنطقة. لم أحتاج إلى التفتيش عن مراجع فكان لديّ كل المعطيات من الصحف التي قرأتها. لم أوقّع بإسمي بل إبتكرتُ إسماً ذكوريّاً مستعاراً لأنني كنتُ مدركة أنّ لا أحد سيأخذني على محمل الجّد. وفي الصباح قبل أن يصل الجميع إلى العمل وضعتُ مقالي على مكتب رئيس التحرير.

ولم تمرّ دقائق على وصوله حتى خرج من مكتبه يسأل بصوت عالٍ عن هويّة الفاعل. بالطبع لم بجب أحداً وأنا لم أجرؤ على التكلّم ما زاده غضباً:

- أريد صاحب هذه المقالة حالاً وإلاّ طردته!

إنتظر دقائق طويلة ثم دخل إلى مكتبه قائلاً:

- أنتَ مطرود ولكنني سأطبع مقالتَكَ أوّلاً.

وهنا بدأت لعبة غريبة في الجريدة. كل صباح كان يقف المدير أمام بابه ويصرخ عالياَ عنوان موضوع يريده أن يُكتَب ويجده جاهزاً في اليوم التالي. الكل كان يتساءل من هو المحرر البارع الذي كان بإستطاعته تلبية طلبات المدير على إختلافها وإكتشاف هويّته بات شغلهم الشاغل حتى أنّهم باتوا يراهنون على هذا أو ذاكَ. حتى القرّاء أصبحوا ينتظرون إصدار الجريدة بفارغ الصبر لقراءة آراءه.

ولتضليل زملائي كنتُ أنا أيضاً أعطي ترجيحاتي وأبدي إعجابي به.

ولكن بعد مدّة لم أعد أحترسُ كالسابق معتقدة أنني بعيدة عن الشبوهات وأدخلتُ في أحد مقالاتي جملة من فم المدير لم يسمعها أحداً غيري لأنّه قالها لي عبر الهاتف وهذا ما جعله يشكّ بي. فنصَبَ لي فخّاً وقعتُ به كالمبتدئة: في أحد الأيّام عند إنتهاء الدوام سألني عن مواعيد اليوم التالي وقال أنّه ذاهب إلى منزله ولكنّه طلب منّي التأكّد حالاً إن كانت خرطوشة آلة التصوير فارغة. فعلتُ ما طلبه منّي وعدتُ وإتصلتُ بمكتبه لأعطيه الجواب ولكنّه لم يجب فأعتقدتُ أنّه رحل ولكنه كان بإنتظاري في الداخل. وحين دخلتُ ككل ليلة لتسليم نصّي أضاء النور وصرخ:

- كنتُ على حقّ! لعبتِ عليّ مدّة طويلة ولم أشكّ فيكِ حتى البارحة. أنتِ تعلمين أنّكِ مطرودة أليس كذلك؟

- نعم سيّدي... ولستُ نادمة على شيء لأنني إستمتعتُ بالكتابة حتى لو كان هذا لمدّة قصيرة.

- لماذا كل هذا الغموض فأنتِ تبرعين كمحررة.

- أنا فتاة أميّة لم تطأ رجلي أرض المدرسة. لو قلتُ لكَ أنني أريد الكتابة لضحكتَ عليّ وأستهزأ بي زملائي.

- أنتِ على حق. ولكنّكِ ما زلتِ مطرودة.

- أعلم هذا... سآخذ أغراضي وأرحل في الحال.

- ألى أين؟ أنتِ مطرودة كعاملة هاتف ولكنّكِ باقية كمحررة.

وهكذا بدأت مسيرتي الصحافيّة وبقيتُ أستعمل إسمي المستعار لفترة ثم بدأتُ أستبدله تدريجيّاً بإسمي الحقيقي. اليوم لديّ عائلة وأولادي يعرفون قصّتي. رويتُها لهم ليعلموا أنّه بإمكانهم تغيير مصيرهم وتحدّي الظروف العصيبة إن أرادوا ذلك وإن عمِلوا بجهد.


حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button