عندما قبضتُ راتبي الأوّل، شعرتُ ولأوّل مرّة في حياتي، أنّني حيّة ومُنتِجة وصاحبة قراري. فلَم يعُد أحد مسؤول عن إطعامي وإلباسي أو عليّ أن أكون مُدينة له أو مُتعلّقة بمزاجه. لا بل صِرتُ أخيرًا سيّدة نفسي. أعطَيتُ بعض المال لأهلي الذين توقّفوا فجأة عن ممانعة عمَلي بل صاروا يُشجعّوني على المثابرة. ضحكتُ في سرّي، فلِلمال قوّة شبه سحريّة تستطيع تغيير النفوس بلحظة. وكان السيّد مجد جادًّا حين قال إنّ الراتب جيّد، فهو كان يدري أنّ عليه أن يُدلِّل خيّاطاته ليحصل على النتيجة المرجوّة وإلا توقّفَ عمله وخسِرَ شهرته.
بعد أشهر، زفَّيتُ لأهلي خبَر إيجادي شقّة صغيرة ونيّتي الإنتقال وأولادي إليها. فكان دوام عمَلي نهاريًّا، أيّ أنّني أتركُ المشغل في الوقت المُناسب لأكون في البيت عندما يعود أولادي مِن المدرسة. كنتُ قادرة على الإعتناء بهم مِن دون مُساعدة أحد، وهذا ما كنتُ مُصرّة عليه. فيُمكنُ للمرأة أن تكون أمًّا ورّبة منزل ويكون لها في الوقت نفسه عمل. كفى استهزاءً بقدراتنا!
الشقّة لَم تكن بعيدة عن بيت أهلي أو مدارس الأولاد... أو عن ميرفَت التي صارَت عزيزة وُمهّمّة للغاية بالنسبة لي. كنتُ أستمدُّ منها قوّتي وفرَحي وآمالي ويا ليتَ أمثالها كثيرات!
خبَر خروجي مِن البيت الأهليّ وصَلَ إلى أذنَي وائل، زوجي السابق، ولَم يُسَرّ كثيرًا. لِذا، جاء يدقّ بابي بعد عودتي مِن عمَلي وقبل وصول الأولاد. تفاجأتُ به كثيرًا، فلَم أرَ وجه الخائن منذ حوالي السنتَين. هو قال لي ولا يزال واقفًا عند الباب:
ـ جئتُ أرى أولادي.
ـ ليسوا هنا. الآن تذكَّرتَهم؟ فأنتَ لَم تسأل عنهم ولو مرّة واحدة!
ـ ألا أبعثُ لهم المال؟
ـ أنتَ لستَ فقط زوجًا سيّئًا، بل أب فاشل.
ـ هذا ليس حديث زوجتي الجديدة! فهي ممنمّة منّي كثيرًا. إنّها حامل الآن.
ـ بالطبع هي حامل، فالمرأة بالنسبة لك هي مكنة تفقيس.
ـ ألن تدعيني للدخول؟ أُريدُ أن أرى أين يعيش أولادي، فمِن حقّي أن أطمئنّ عليهم.
أدخلتُ وائل لكننّي لَم أقدّم له شيئًا كي لا يُطيل المكوث. جالَ في الشقّة المُزيّنة بذوق بالرغم مِن صغرها، وهزّ برأسه لكثرة إعجابه بها. ثمّ استدارَ نحوي وقال:
ـ هناك شيء مختلِف بكِ... تبدين مُشرِقة وواثقة مِن نفسكِ. في ما مضى كان شغلكِ الشاغل التحسّر على نفسكِ.
ـ هذا لأنّني لَم أعُد معكَ يا عزيزي.
ـ إنتبهي لكلامكِ، يا عزيزتي، فبإمكاني تحطيم حياتكِ الجميلة هذه بأخذ الأولاد، أو البعض منهم على الأقلّ.
ـ لن تعود زوجتكَ ممنونة منكَ، صدّقني.
ـ سأُعطيهم لأهلي.
ـ أنا جاهزة لِلقائكَ في المحكمة إن شئتَ.
ـ ما هذا! لَم أعُد أعرفكِ بتاتًا! أنا منبهرٌ بكِ. لو كنتِ هكذا منذ البدء لمَا تركتُكِ.
ـ لا بل لَم تكن لتتزوّجني! أنتَ تُحبّ المرأة الخاضعة. على كلّ الأحوال، لو كنتُ أعلَم مَن أنا وما بإمكاني فعله منذ البدء، لَما تزوّجتُكَ! الآن عليكَ أن ترحَل.
ـ أُريدُ أن أرى أولادي.
ـ في وقت لاحق. هيّا، عُد إلى زوجتكَ الحامل.
حين أقفلتُ الباب وراء وائل، كنتُ أرتجفُ مِن الغضب والإثارة لتمكّني مِن الوقوف في وجهه هكذا، فهو كان على حقّ بشيء واحد: لَم أعُد تلك التي تزوّجَها.
أخبرتُ ميرفَت عن الحديث الذي دارَ بيني وبين وائل، وهي طمأنَتني طالبةً منّي التركيز على حياتي الجديدة، ومؤكّدةً لي بأنّنا سنتصرّف إن قرَّرَ أب أولادي استرجاعهم. لَم أُخبِر أولادي عن زيارة أبيهم، فهم بدأوا ينسون أنّه موجود، ولَم أرِد أن يتأمّلوا بشيء، فهكذا إنسان لا يُفكّر سوى بنفسه. أسفتُ على زوجته الحاليّة فهي لا تعلم أنّ وائل لن يُحبّها يومًا.
مضَت سنة أخرى حين أخبرَنا السيّد مجد أنّ الوقت حان للعمل مِن أجل تقديم مجموعة جديدة مِن الأزياء، وأنّ علينا العمَل بكدّ لإنجاح العرض. بعد ذلك، هو قسّمَنا إلى مجموعات وأعطانا توقيت عمَلنا. أسفتُ أن أكون في المجموعة المسائيّة، فكان ذلك يعني أنّني لن أعود حاضرة مع أولادي بعد عودتهم مِن المدرسة، وهم كانوا لا يزالون صغارًا للبقاء لوحدهم.
إستنجَدتُ بأمّي وهي قبِلَت أن تهتمّ بهم لمدّة ثلاثة أشهر. تنفّستُ الصعداء، واستطعتُ التركيز على عمَلي للعرض الذي كان سيُثبّتني نهائيًّا في المشغل ويدرُّ عليّ المزيد مِن المال كما تجري العادة في هكذا مُناسبة.
كنت قد وثقتُ بالتي أعطَتني الحياة وهي خانَت هذه الثقة.
لماذا لا تتكاتف النساء مع بعضهنّ؟ لغز لَم أجِد جوابًا له. فوالدتي التي لَم تستوعِب أن تكون إبنتها إمرأة حرّة ومُنتِجة، إتّصلَت بزوجي السابق لإعطائه أولادنا بذريعة أنّه أكثر مسؤوليّة منّي في تربيتهم. وهو لَم يتردّد في تلبية النداء. تخيّلوا ردّة فعل صغاري عندما جاء رجل شبه غريب بالنسبة لهم ليأخذهم بعيدًا عن كلّ الذي عرفوه! حصَلَ ذلك بسرعة لِدرجة أنّني لَم أصدّق الخبَر بل خلتُ نفسي أحلم!
تشاجرتُ مع أمّي التي قالَت لي بوقاحة إنّ تطليق زوجي لي كان في مكانه، وإنّها لا تعلَم كيف أنجبَت وربَّت إبنة مثلي. بكيتُ كثيرًا والتجأتُ إلى ميرفَت التي غضِبَت لأقصى حدّ وعانقَتني مُطوّلاً. يا ليتها كانت هي أمّي! لكنّنا لا نختار أهلنا أو العائلة والمحيط الذي نولد فيه... للأسف.
رحتُ أدقّ باب وائل لأسترجع أولادي، إلا أنّه لَم يفتَح لي بل صَرَخَ مِن خلف الباب: "لاقيني في المحكمة يا شاطرة!".
لَم توافقني ميرفَت بما يخصّ ذهابي إلى وائل قائلة:
ـ إيّاكِ أن تذلّي نفسكِ مُجدّدًا! توسّلكِ لهذا الماكر سيزيدُه قوّة وإصرارًا، وهذا تمامًا ما يُريد. عليه أن يخافَ منكِ وهذا ما سنفعله. لديّ معارف كثيرة مِن بينهم محامون. لا تخافي مِن شيء أو أحد.
ـ لا أملكُ المال الكافي.
ـ ومَن ذكَرَ موضوع المال؟ يا حبيبتي، العلاقات العامة هي ثروة بحدّ ذاتها. في أيّامنا هذه، مَن تعرفين أهمّ مِن كَم تملكين، لا تنسي ذلك أبدًا. أنتِ تعرفيني وأنا أعرفُهم. عودي إلى العمَل، فذلك هو مستقبلكِ وكلّ ما تملكينه في الوقت الحاضر. هيّا.
فعلتُ كما قالَت لي تلك المرأة الطيّبة، وعمِلتُ جهدي للتركيز على الخياطة، فما ذنب السيّد مجد في مشاكلي الشخصيّة، ألا يكفي أنّه أعطاني تذكرتي للحرّيّة؟
بقيتُ على اتّصال هاتفيّ بأولادي، فلَم يكن يحقّ لوائل حرماني مِن التكلّم معهم، فأكّدتُ لصغاري أنّنا سنعود كما في السابق قريبًا. هم اشتكوا لي مِن زوجة أبيهم التي كانت تصرخُ عليهم بصورة دائمة، وتحرمهم مِن الجلوس معها وزوجها بل تُجبرهم على البقاء في غرفتهم. أخبروني أيضًا أنّ تلك المرأة تتشاجر يوميًّا مع أبيهم وتُهدّده بتركه إن لَم يجِد حلاً لهم، وهو وعدها بإرسالهم إلى أهله في قرية بعيدة كلّ البُعد عنّي. بكوا كثيرًا وبالكاد إستطعتُ طمأنتهم. فأنا لَم أكن أعلَم كيف ستجري الأمور، لكنّني وثقتُ بميرفَت التي لَم تخلِف يومًا بوعودها لي.
إقترَبَ موعد عرض المجموعة، وكنتُ مُنهكة مِن العمل بكدّ ومِن الهمّ على أولادي. خسِرتُ الكثير مِن الوزن وصرتُ شاحبة اللون. إلا أنّني لَم أغِب عن المشغل بل العكس، أخذتُ دوامًا ثانيًا، فما عساي أفعل لوحدي في بيت فارغ؟ لو قال لي أحد إنّني أملكُ هذا القدر مِن الطاقة والتصميم والإصرار، لضحِكتُ عاليًا. إكتشفتُ أنّ لا حدود لقدراتي بتاتًا.
قُدِّمَ العرض ولاقى نجاحًا فائقًا، فكان السيّد مجد مُصمّمًا بارعًا ولدَيه فريق عمَل أيضًا بارع، وافتخرتُ أن أكون فردًا مِن هذه المجموعة. وفي اليوم التالي، إتّصلَت بي ميرفَت طالبةً منّي أن آتي إليها.
وكم كانت مُفاجأتي كبيرة عندما رأيتُ أولادي عندها! تعانَقنا وبكينا، واستمعتُ لأخبارهم ومِن ثمّ هدئوا وناموا. نظرتُ إلى مُنقذتي مُستفسرةً وهي قالَت:
ـ أعادَ وائل الأولاد بنفسه إلى هنا مُعتذرًا عن الأسى الذي سبّبَه.
ـ ماذا؟!؟ كيف حصَلَ ذلك؟
ـ بفضل معارفي... في المصارف والمحاكم والشركات. فلقد أحطَّ وائل مِن كلّ الجهات ليعلَم أنّنا لا نُمازحه بل أنّنا جادَّتان للغاية. فتوقّف فجأة التمويل المصرفيّ الذي كان هو بحاجة إليه، وخابرَه المحامي الذي أوكلتُه للدفاع عنكِ، ودعاه مُديره في مقرّ عمله ليُؤنّبه على سلوكه. وكيف لا تُريدينَه أن يستسلم؟!؟
ـ يا ملاكي الحارس أنتِ! ماذا كنتُ سأفعَل مِن دونكِ؟ وماذا تفعل النساء اللواتي في حالتي وليس لدَيهنّ ميرفَت؟
ـ لكلّ مُشكلة حلّ يا حبيبتي، وبإمكاننا إخراج أنفسنا بنفسنا، أوّلاً بعدَم دخول مشاريع فاشلة كالزواج للزواج، وثانيًا بالتعلّم والعمَل و...
ـ والمعارف!
ـ تمامًا!
ـ مُحاربة الذلّ مهمّة لنُحافظ على كياننا، فالمرأة نصف المُجتمع وليس أقلّ.
بعد يومَين، طلَبني السيّد مجد إلى مكتبه وقال لي:
ـ لقد برهنتِ عن مقوّمات أبحثُ عنها منذ فترة طويلة. كنتُ على علم بما مرَّيتِ به، وبالرغم مِن ذلك بقيتِ تعمَلين بكّد لا بل أكثر مِن ذلك، لأنّكِ أدركتِ أهميّة عملكِ بالنسبة لكِ ولي. رأيتُ عندكِ وفاءًا كبيرًا وأُريدُ أن أُكافئكِ على ذلك. سأُعيّنُكِ مسؤولة عن الخيّاطات وعليكِ تعليمهنّ كلّ ما عندكِ مِن مقوّمات.
ـ لكن يا سيّدي، هناك مَن هنّ أبرَع منّي بالعمَل ولدَيهنّ خبرة أقدم.
ـ صحيح ذلك، لكن لدَيكِ ما يُنجِح عملي. سيزيدُ راتبكِ أضعافًا. مبروك عليكِ نجاحكِ، فلقد استحقَّيتِه بالفعل.
صِرتُ مسؤولة عن المشغل وقمتُ بواجباتي على أكمَل وجه. لَم يخِب ظنّ أحد بي بل العكس. وهناك خيّاطة ذكّرَتني بنفسي كما كنتُ سابقًا، أي قبل أن أتعرّف إلى ميرفَت وصِرتُ بدوري ملاكها الحارس. فهذا ما علينا فعله: أن نُساعد بعضنا ولو معنويًّا إن لَم نكن قادرين على فعل أكثر مِن ذلك.
أصبحَت ميرفَت عجوزًا، إلا أنّها حافظَت على شباب روحها كما يحصل للناس الأحرار والطموحين والذين لا يستسلمون أبدًا.
حاورتها بولا جهشان