يوم زفافي كنتُ سعيدة للغاية، فلقد ارتدَيتُ فستانًا أبيض جميلاً وتزيَّنَ البيت بِسِلال الزهور والورود وسط زغاريد الفرَح. أليس ذلك المشهد حلم كلّ فتاة؟ لقد صوّروا لنا الزواج وكأنّه غاية يجب الوصول إليها، بعد تحضير يدوم سنوات. فعلى الفتاة أن تجد عريسًا وتُنجِب، وبأسرع وقت طبعًا، لهذا يضعون بين يدَينا العرائس الجميلة ويطلبون منّا الإهتمام بها: تمرين للإنجاب وليس أكثر. لكن ما مِن أحد قال لي ماذا يحدث بعد يوم الزفاف، وكيف سأقضي عشرات السنوات بِـ"العمَل" لدى رجل إسمه زوجي ومِن أجل أولادي. أين أنا وسط هذه المُعادلة؟ أين الشخص الذي قد يكون له أحلام وطموحات؟ هل عليّ أن أتخلّى عن كياني كي يُتابِع المجتمع مسيرته العمياء، ويكون مُمتنّا منّي وإلا... وإلا ماذا؟!؟ إنّ إيجاد النفس أغلى مِن أيّ شيء آخر وقد يكون الثمن باهظًا.
هل أحبَبتُ زوجي؟ لستُ أدري، فقد قيل لي إنّه إنسان جيّد وخلوق وابن عائلة مُحترمة، وإنّه سيُؤمّن لي حياة مُريحة. كان وائل لطيف الملامح والقوام، أيّ أنّني لَم أجِد صعوبة بقبول الزواج منه، خاصّة أنّ الكّل مِن حولي كان يُريدُني أنّ أقبَل به.
ليلتنا الأولى كانت مِن دون طعم أو لون. ففعلتُ كالعديد مِن النساء وادّعَيتُ أنّني استمتعتُ للغاية، الأمر الذي كرّرتُه مدى زواجي. فلقد علّمونا أيضًا أنّ على الرجل أن يصِلَ إلى الذروة خلال ممارسته الجنس، أمّا بالنسبة للمرأة، فعلى ذلك أن يكون كافيًا لها إذ أنّها قامَت بواجباتها كما يجب. واجبات زوجيّة... كلمة تحمل معناها.
عادَ وائل إلى نمَط حياته المُعتاد بعد شهر عسلنا، وأنا بدأتُ مرحلة جديدة، إذ كان عليّ الاهتمام بالطهو والتنظيف واستقبال الأهل والجيران الجدد، وذلك حتى يعود زوجي مساءً ليجد كلّ شيء حاضرًا له وينعَم بجسدي ليلاً... ثمّ يغفو. حياة لَم تجلِبَ لي شيئًا سوى التعَب والملَل، فقلتُ لنفسي إنّ طفلاً سيُضفي على حياتي بعض الإثارة والحنان، فزوجي لَم يكن مِن الذين يُظهرون عواطفهم. حمِلتُ وأنجبتُ وصرتُ أمًّا، وأعترفُ أنّ ولادة إبني شغلَتني وأعطَتني ما كنتُ أنتظرُه، فلَم يعُد يهمّني أن أكون عاملة منزل/طبّاخة/ أداة مُتعة/ لرجل لَم أكن أعلَم بوجوده قبل سنة، وصبَبتُ إهتمامي كلّه على ذلك المخلوق الصغير. بعد سنة، حمِلتُ مِن جديد، فكان على إبني أن يكون له أخ أو أخت كي لا يشعر بالوحدة. إلا أنّ زوجي كان يُريدُ عائلة كبيرة، ولَم يهمّه أنّ على جسدي أن يرتاح وعليّ أنا أيضًا أن أرتاح. بعد أربعة أولاد وقفتُ أخيرًا في وجه وائل، وهدّدتُه بمَنعه مِن لمسي نهائيًّا إن لَم يكفّ عن التخطيط للإنجاب. وكانت هذه الخطوة بالذات هي التي فتحَت الباب لباقي الأحداث.
إتّخذَ وائل قراري هذا حجّة ليُعاشر غيري، بدلاً مِن أن يلبسَ واقيًا أو يقبل بأن آخذ حبوبًا لمَنع الحمَل. وأبشَع ما في الأمر أنّه لَم يتكبّد عناء إخفاء علاقاته عنّي. أين ذهبَت أخلاقه العالية ومِن أجل ماذا تخلّى عنها؟ على كلّ الأحوال، أظنّ أنّه كان يخونُني منذ البداية، فلطالما كان يغيب في الأمسيات ليسهر مع "رفاقه" ولَم يأخذُني معه ولو مرّة واحدة، فكان يجب أن أبقى مع ذرّيتي في البيت. ألهذا السبب أرادَ الإنجاب وبكثرة؟ ليُبقيني مُنشغلة عنه؟
طفَحَ كَيلي مِن ممارساته، وعندما خيّرتُه بيني وبين عشيقاته إختارهنّ. تفاجأتُ كثيرًا لِلامبالاته، فكيف له أن يُدمّرَ عائلته مِن أجل مُتعته؟ أعطاني وائل حضانة الأولاد ربمّا ليُعلّمني درسًا بعدَم الوقوف في وجهه، وخصّصَّ لنا مبلغًا شهريًّا بالكاد يكفي لِطعام ومدارس الأولاد. عدتُ إلى بيت أهلي الذين لاموني كثيرًا حتى بعدما علِموا كيف عاملَني زوجي، ففي نظرهم المرأة هي دائمًا المُذنبة. سكتُّ لأنّني كنتُ بحاجة لِسقف يأويني، ووعدتُ نفسي بمحاولة الخروج مِن تلك الأجواء السلبيّة التي أثّرَت كثيرًا على معنويّاتي، خاصّة بعدما علِمتُ أنّ وائل تزوَّجَ بعد أقل مِن شهر على طلاقنا.
وحدها إحدى جارات أهلي كانت قد تفهّمَت ما مرَرتُ به، وكيف أنّني أشعرُ بوحدة قاسية بين ذويّ. فلقد كانت ميرفَت إمرأة في الستّين مِن عمرها تتحلّى بشخصيّة مُميّزة جلبَت لها إنتقادات باقي السكّان، إذ أنّها لَم تتزوّج ولَم تُنجِب وتعيشُ لوحدها بعدما ماتَ والداها. لكن عبر السنوات، إعتادَ الناس على طريقة عَيشها، خاصّة أنّها صارَت تبيعُ لوحاتها بثمَن باهظ، فهي كانت فنانة تشكيليّة تعرِضُ فنّها في أكبر المعارض. وذات يوم، حين كنتُ أصعد سلالم المبنى، وجدتُها صاعدة ورائي، وقالَت لي بعدما ألقَيتُ التحيّة عليها:
ـ ساعديني بحَمل هذا الطرد مِن فضلكِ وسأقدّمُ لكِ ألذّ فُنجان شاي في العالم!
إبتسَمتُ لكلامها فساعدتُها ودخلتُ بيتها. كان المكان ملوّنًا للغاية ومليئًا بالتحف واللوحات، فشعرتُ بفرح داخليّ وأعربتُ عنه لها. أجابَتني ميرفَت:
ـ لَم يكن الأمر هكذا، أعني حين كان أبوايَ على قَيد الحياة. فقط غرفتي كانت "حيّة"، فالألوان هي الحياة ووحدها تُمكّنُنا مِن تذوّقها. إجلسي مِن فضلكِ... أجل هنا. سأغيبُ عنكِ لدقائق قليلة، فتحضير ذلك الشاي يتطلّب مراحل مُعيّنة. أجل، هو فنّ بحدّ ذاته، كلّ شيء يتطلّبُ فنًّا لينجَح.
بقيتُ لوحدي أنظرُ إلى ما كان يملأ البيت، ولَم أشعر بالوقت وهو يمّر. عادَت ميرفَت حاملة ما وصفتُه لاحقًا بأطَيب شاي في العالم حقًّا.
نظَرَت إليّ صاحبة البيت وقالَت لي:
ـ يتزوّج الناس للأسباب الخاطئة، ولا يعلمون أنّ مِن الصعب جدًّا الوقوع على نصفهم الثاني. ويخيب ظنّهم ثمّ يُقنعون أنفسهم بأنّهم سعداء، فيعيشون كذبة طوال حياتهم. خيرًا فعلتِ يا حبيبتي، فالحياة لَم تنتهِ لأنّكِ تطلّقتِ، بل هي بدأَت للتوّ.
ـ ماذا تعنين؟
ـ أقصدُ أنّكَ الآن فقط صِرتِ شخصًا بكلّ ما للكلمة مِن معنى ولكِ كيانكِ الخاص. لا تُسيئي فهمي، فأنا أبغضُ الطلاق، ولهذا السبب لَم أتزوّج. أردتُ الإنتظار حتى إيجاد توأًم روحي ولَم أجِده. لستُ آسفة على شيء أبدًا، فمَن قال إنّ على الإنسان أن يتزوّج ليكون سعيدًا؟ قولي لي... ماذا تنوين فعله الآن، أعني بعد أن صرتِ حرّة؟
ـ لستُ أدري... وهل عليّ فعل شيء؟
ـ تعنين أنّكِ ستبقَين تنتظرين أن يبعث لكِ زوجكِ السابق فتافيته؟
ـ لا أحمِل أيّة شهادة ولَم أعمل يومًا.
ـ هذا لا يهمّ! إن فعلتِ ما يُفرحُ قلبكِ ستجدين عملاً بأسرع وقت.
ـ كلام جميل يا سيّدة ميرفَت.
ـ ميرفَت مِن دون ألقاب أرجوكِ، ولستُ أقول جملاً جميلة بل أحكي عن واقع. ماذا تهوين فعله؟
ـ لستُ أدري... أظنّ أنّني لا أهوى شيئًا. للحقيقة، لَم أفكّر بالأمر يومًا.
ـ شيء مؤسف... لَم يفُت الأوان بعد، لا تخافي. تعالي لزيارتي بعد أسبوع على التمام، سأقدّم لكِ فنجان شاي آخر وقالب حلوى...
ـ هو أطيَب قالب حلوى في. العالَم!
ـ تمامًا!
كلام جارتنا شغَلَ بالي، فهل مِن المُمكن أن أكون فالحة بشيء مِن دون أن أدري؟ فكّرتُ كثيرًا، وكلّ ما وجدتُه كان أنّني كنتُ في صغري أقصّ بعض القماش لأصنَعَ منه فساتين لعرائسي. لكنّ تلك الفساتين لَم تكن سوى عمَل فتاة صغيرة ليس أكثر. وبعد أن مرّ الأسبوع، قرعتُ باب ميرفَت وأخبرتُها عن الموضوع. وهي هزَّت برأسها وقالَت: "حسنًا". ثمّ أخذَت الهاتف وطلبَت رقمًا وقالَت: "تعالى غدًا، أُريدُ منكَ معروفًا... لا يهمّني إن كنتَ مُنشغلاً... غدًا في تمام الساعة العاشرة صباحًا". ثمّ أقفلَت وقالَت لي: "تعالي غدًا عند العاشرة ولا تتأخّري وإلا خسِرتِ كثيرًا، فالفرَص لا تأتي سوى مرّة واحدة". شكرتُها مِن دون أن أعلَم عمّا تتكلّم، وغادرتُ بعد أن أكلتُ حلوى لن أنسى طعمها في حياتي.
في اليوم التالي تفاجأتُ بإيجاد رجل عند ميرفَت قدّمَته لي قائلة:
ـ أُعرّفكِ بالأستاذ مَجد... إنّه مُصمّم أزياء وخيّاط ماهر. سيُعلّمُكِ ما يكفي لتنطلقي... قد لا تكون هذه مهارتكِ، لكنّه وحده قادر على الإجابة. لنبدأ الدروس.
سأتوقّف قليلا عن رواية قصّتي، لأبحثَ معكم كيف أنّ القدَر يضع في طريقنا أناسًا أو أحداثًا هي كافية لتغيير حياتنا. ذلك يحصل لكّل منّا، إلا أنّنا لا ننتبٕه له أحيانًا. في حالتي، كان مِن الصعب عدَم الإنتباه إلى ميرفَت، المرأة العظيمة التي دخلَت حياتي عنوة لتقلِبها رأسًا على عَقب مِن دون إذن. أصفُها بالهديّة الإلهيّة، ولا أدري ما كان سيحلّ بي مِن دونها. إنّها إمرأة فهِمَت كلّ النساء، وبدلاً مِن أن تتنافس مع بنات جنسها كما يحصل دائمًا، قرَّرَت الرفع مِن شأنهنّ ودعمهنّ. لو كلّ امرأة فعلَت ذلك مع أختها، ما كانت هناك أيّ فتاة أو سيّدة تعيسة أو مظلومة.
رتّبتُ أمور أولادي جيّدًا لأتمكّن مِن مُتابعة دروس السيّد مَجد. في البدء، لَم أكن مُتحمّسة للأمر لأنّني لَم أؤمِن بنفسي كفاية. كادَ أستاذي أن يتخلّى عنّي لولا إصرار ميرفَت على أن يُثابر. ثمّ تقدّمتُ في العمَل، أي صِرتُ قادرة على قصّ القماش في مشغل مَجد وتحضير الباترونات وخياطتها. تطلّبَ الأمر جهدًا كبيرًا مِن جانبي، وكدتُ أن أستسلِم مرّات عديدة لولا تهديدات جارتي بالتخلّي عنّي لو فعلتُ. مِن جهتهم، عمِلَ أهلي، وبصورة مُستمرّة، على تدمير عزيمتي، وكأنّ ما أفعلُه عارٌ كبيرٌ أو تهديدٌ لسيطرتهم عليّ. فالمرأة المكسورة أكثر طاعة مِن غيرها. ووصَلَ الأمر بهم إلى التلميح لي بأنّهم سيتخلّون عن أولادي لو استمرّيتُ أُبقيهم عندهم لأقصد المشغل، إلا أنّني لَم أرُدّ عليهم، واعدة نفسي بترك ذلك البيت الذي أشعرَني بأنّني غريبة بدلاً مِن أن يُعطيني الأمان.
مرَّت سنة بكاملها قبل أن يقول لي السيّد مَجد:
ـ أنا ممتنّ مِن جهودكِ... الآن فقط أستطيع عرض عمل عليكِ. أتُريدين أن تصبحي إحدى خيّاطاتي؟ الراتب جيّد وساعات العمَل ليست طويلة، إلا حين نُحضّرُ مجموعة للعرض.
أسرَعتُ بالقبول طبعًا وبإبلاغ ميرفَت التي هزَّت برأسها قائلة: "هذه ليست سوى البداية، يا حبيبتي... البداية. فلا حدود لبراعة الإنسان سوى قلّة إيمانه بنفسه."
إبتسَمتُ لكلامها، إلا أنّني لَم أتصوّر نفسي أكثر مِن خيّاطة عند مُصمّم. لكن نادرًا ما كانت ميرفَت مُخطئة.
يُتبَع...
حاورتها بولا جهشان
