مكروهة

  منذ ولادتي لم أجد سوى الكره من المحيطين بي. أنجبني والداي عن طريق الخطأ وكان أصغر شقيق لي يكبرني بخمسة عشر عاماً. ظننت أنّني سأكون مدلّلة لكوني الفتاة الوحيدة والأصغر سنّاً في المنزل ولكنّي كنت مخطئة! أرسلوني إلى جدّتي التي ماتت بعد بضع سنوات فكان عليهم استرجاعي مجبرين.  منذ ذاك الحين، عشت حياة سندريلا، إذ راحوا ينهالون عليّ بالشتائم والإهانات وفي أحسن الحالات يتجاهلونني. حين صرت في سنّ البلوغ، تركت المنزل وانتقلت إلى مسكن تعيش فيه فتيات شابات. لم يكن المكان أفضل حالاً لكن في وضعي كلّ الأماكن أحسن من منزل عائلتي، أينما كان. كان عليّ إيجاد عمل لتأمين معيشتي فسرعان ما وجدت وظيفة نادلة على البار في ملهى ليلي، وهذه مهنة لم تكن شائعة للسيّدات! كنت مدركة أنّ الجو في مثل هذه الملاهي لن يكون رائعاً لأنّني سأقابل منحرفين ومدمنين على الكحول والمخدّرات لكنّ عزيمتي كانت أكبر من ذلك وكان مستحيلاً بنظري أن أترك جحيماً لأذهب إلى جحيم آخر. إنّ جلّ ما أردته هو القليل من المال لسدّ احتياجاتي كي لا أعود إلى منزل أهلي. بعد مرور بعض الوقت، فوجئت برؤية أحد أشقّائي في البار. كان مبتسماً ومحبّاً وحدّثني بلطف. شككت في أمره إلى أن طلب منّي المال في آخر السهرة. وبما أنّني لم أكن أملك إلاّ راتباً قليلاً، تقاسمت معه القليل الذي كنت أملكه. ففوق كل شيء هو أخي! قبّلني بشدّة فدمعت عيناي لأنّها كانت المرة الأولى التي يلمسني فيها شخص من عائلتي. في تلك الليلة نمت سعيدة ومبتسمة. في الشهر التالي، حان دور شقيقي الثاني الذي كرّر السيناريو ذاته بالاهتمام عينه وكنت أعلم أنّه يبتزّني لكن كان ذلك هو الثمن مقابل الحنان.  استمرّ الوضع على هذه الحال لفترة وكنت دائماً بلا فلس لأنّني أدفع إيجار غرفتي وطعامي، أمّا الباقي فيأخذانه بحجج متعدّدة "والدتك مريضة وعلينا دفع المال للطبيب"، "والدك ما عاد قادراً على العمل وسنغرق في البؤس"، "دُمّر المنزل ويجب ترميم كل شيء". لطيبة قلبي المفرطة، وجدت عملاً ثانياً تلبيةً لحاجات الجميع. هكذا، إلى أن علمت بالحقيقة المرّة أنّ أحد أشقّائي تزوّج ولم يدعني أحد إلى الزفاف. عرفت أنّني بالرغم من كلّ جهودي لن أصبح منهم. راح يقدّم الأعذار: "كان عرساً صغيراً ولم أدعُ أحداً سوى العائلة". العائلة! الجميع إلاّ أنا! حينئذٍ، قرّرت أن أوقف تلك المهزلة وقطعت عنهما المال لكنّني لم أسلم من الانتقام.  في إحدى الأمسيات حين كنت في العمل، اتّصت بي إحدى الفتيات المقيمات معي لتبلغني أنّ باب غرفتي قد خُلع وأنّ كلّ أغراضي قد اختفت: التلفزيون، ملابسي، بعض المدّخرات التي كنت أضعها في علبة صغيرة، السجادة... لم يبقَ أيّ شيء! وحسب الفتاة، رأت شقيقيّ في المبنى. لقد نهباني! شعرت بغضب شديد فتوجّهت إلى أقرب مخفر ولم تكن تنتابني سوى رغبة واحدة هي رميهما في السجن. ولكن مرّت بضع دقائق وأنا أنتظر في القاعة وفكّرت خلالها مليّاً وقرّرت ألاّ أكون سيئة مثلهما. في هذه الأثناء، رآني تحرّيّ كان موجوداً هناك وعيناي متورّمتان وجسمي متعب فجلس بالقرب منّي وطلب مني أن أخبره عمّا يشغلني. أطلعته على القصة بكاملها وعن إصراري على عدم تقديم شكوى بحقّهما. "آنستي، لن تنتهي مشاكلك عند هذا الحدّ فحسب خبرتي لن يبتعدا عنك لفترة طويلة. اتّصلي بي عند الحاجة"، قال هذا مقدّماً لي بطاقته. مرّ أسبوع من دون أن يظهر أيّ شقيق فقرّرت الاتّصال بالمفتّش لشكره على لطفه ولأطمئنه عن حالي. دعاني أيمن - هذا اسمه - لتناول القهوة ووجدت الأمر مذهلاً. تقابلنا وعلى مرّ الأيام جمعتنا صداقة حقيقية ولا أنكر أنّني بدأت أجده لافتاً. مضى شهر على هذه الحال وكنت سعيدة. لكن في إحدى الأمسيات ولدى عودتي من عشاء مع أيمن فوجئت بشقيقيّ وهما ينتظرانني عند باب غرفتي. "هيا بسرعة أعطينا المال"، قال لي أحدهما بعدما دفعني بقوة إلى الداخل. حين لاحظا أنّني لا أملك شيئاً وأنّ غرفتي ما زالت فارغة كما تركاها المرة الفائتة، أبرحاني ضرباً ووعداني بالعودة من جديد. رحت أبكي لحوالى خمس دقائق قبل أن أسمع قرعاً خفيفاً على الباب. لم أشأ رؤية أحد لكن مع القرع المتكرّر فتحت. وقف شقيقاي عند العتبة وقالا بنبرة ذلّ: "سامحينا يا شقيقتنا العزيزة ونحن نعدك بألاّ نزعجك بعد اليوم. لن ترينا البتّة!". ظننت أنّني أحلم فأنا لم أصدّق ما سمعته أذناي! ثمّ رأيت أيمن خلفهما. "هيا اغربا عن وجهي حالاً وتذكّرا ما قلته لكما!" فهربا مسرعين.
- نسيت وشاحك في السيارة وحين جئت لأعيده لك رأيتهما يخرجان من المبنى فسمحت لنفسي بأن أضع لهما حدّاً. إذا عاودا الكرّة فسأسجنهما.  - معك حق. شكراً على وجودك بقربي. شكراً على كونك صديقي. - كلا، أنا لا أريد أن أكون صديقك بل رجل حياتك لأحميك وأدلّلك. وآمل أن توافقي على الزواج بي وعلى منحي فرصة لإسعادك.
كان الموقف رائعاً لدرجة أنّني لم أصدّقه! لم أسمع تلك الكلمات إلاّ في الأفلام وها هي اليوم تقال لي شخصياً، أنا من لم يحبّني أحد يوماً. إلاّ أيمن. فما عساي أفعل سوى الارتماء بين أحضانه صارخةً: "نعمممممممم!". عرّفني أيمن إلى عائلته: "هذه هي عائلتك الجديدة، العائلة التي تستحقّينها. سيحبّونك مثل ابنتهم وأنا متأكّد من أنّ العكس سيكون صحيحاً". كنت سندريلا وصرت أميرة بين أحضان التحرّي الوسيم. وكما يحصل في الأساطير، عشنا في سبات ونبات وأنجبنا الصبيان والبنات.  

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button