خَرَجَ وائل كعادته في الساعة السادسة صباحًا وأنا تظاهرتُ بالنوم. قفزتُ مِن السرير، وركضتُ أحضّر نفسي لخوض مغامرة لم تكن بالحسبان، أي تتبّع زوجي لضبطه بالجرم المشهود في الكباريه الذي كان يملكه سرًّا، الأمر الذي كشفَه صدفة العمّ حسن، مالك دكّانة البلدة.
كان الوقت لا يزال مُبكرًا، فلم يكن هناك حاجة لأن أقصد المدينة قبل الساعة الثالثة مِن بعد الظهر، لأنّ وائل لا ينتهي دوامه المكتبيّ قبل الخامسة والنصف. لكنّ الإنتظار كان يُوتّرني بشكل كبير، فتوجّهتُ إلى الدكّانة لأراجع مع صديقي الوحيد تفاصيل خطّتنا.
كان العمّ حسن أنيقًا جدًّا ببزّته، وابتسمتُ رغمًا عنّي عند رؤيته. فلم يكن مِن الضروري ارتداء ملابس جميلة لتلك المهمّة، إلا أنّ الأمر كان على ما يبدو بغاية الأهميّة بالنسبة له. فهكذا إنسان يجد أيّ جديد مثيرًا، بعد قضائه سنين طويلة جالسًا خلف طاولة صغيرة بانتظار زبائن البلدة القليلي العدد.
تبادَلنا نظرات جديّة، وجلستُ بالقرب منه أسألُه عمّا يجب أن أفعله في حال استطَعنا العثورعلى دليل قاطع. فقال لي:
ـ سنبقى نراقب عن بُعد، إذ لا يجب أن يرانا وائل وإلا سيختلق المبرّرات ونكون قد فضحنا أنفسنا سدىً... دعينا نجد الدلائل ومِن ثمّ نتصرّف.
إبتسَمتُ مجدّدًا لاندماج العمّ الحسن الكليّ بالمهمّة، فقد كان الأمر شبيهًا بما يحصل في الأفلام الأجنبيّة. وأعترفُ أنّني نسيتُ بعض الإهانة التي تلقَّيتُها مِن زوجي أمام إثارة ما يحدث. فالحقيقة أنّ حبّي لوائل كان كبيرًا، إلا أنّ السنة التي قضيتُها وحيدة ومُهملة خلَقَت في قلبي امتعاضًا منه. إضافة إلى ذلك، لم أتعرّف إلى وائل سوى ستّة أشهر قبل زواجنا، أي لم يكن لدَيَّ الوقت للتعلّق به كما قد يحصل بعد عشر سنين مثلاً. قَبل مشاعري كانت تأتي كرامتي، فمِن دونها لا قيمة فعليّة لوجودي.
أخرَجَ صديقي كيسًا وملأه بقناني مياه صغيرة وأكياس شيبس وشوكولاتة، أخذَها مِن على رفوف الدكّانة قائلاً:" قد يطول انتظارنا وعلينا أن نكون جاهزَين". قال ذلك بجدّية تامة ووافقتُه الرأي بحركة مِن رأسي. شربنا القهوة بصمت، ومِن ثمّ ركبنا السيّارة وتوجّهنا نحو المدينة.
قادَ العمّ حسن ببطء شديد وخلتُ أنّنا لن نصل أبدًا. وبعد وقفات عديدة عند محطّة الوقود وبائعين متجوّلين لشراء فواكه وخضار لفتَت نظَر العمّ حسن، دخَلنا العاصمة أخيرًا.
لم يحتَج صديقي إلى أن أعطيه عنوان عمل زوجي فقد كان يعرفه، الأمر الذي أدهشَني، فأسرَعَ بالقول: "أعرف كل ما يدور في البلدة ومع سكّانها."
أوقَفنا المركبة قبالة مدخل الشركة، وأخَذنا ننتظر موعد خروج الموظّفين بعد ساعَتين كاملَتين. ندِمتُ لأنّنا انطلقنا باكرًا، وكان الذنب ذنبي لأنّني لم أتحمّل المكوث في البيت طويلاً، لكنّ العمّ حسن أعطاني بعض الطيّبات لأتسّلى بها.
وفيما كانت عَينايَ مركّزتَين على مدخل عمل زوجي، إستمعتُ لمرافقي وهو يروي لي قصّته. سأختصرُها لأنّها وصلَتني بتفاصيلها الدقيقة جدًّا، فالعمّ حسن كان يحبّ وبشدّة التفاصيل:
ـ كانت لي عائلة... أجل، أجل، صدّقيني. تزوّجتُ مِن زميلة لي في التعليم وأحَببتُها، وأعطَتني فتاة جميلة جدًّا أسمَيناها يُسرى. كنتُ أدلّعهما وأعطيهما كل انتباهي وحناني، إلا أنّ زوجتي فضّلَت شخصًا آخر عليّ. الناس خبثاء يا صغيرتي... خبثاء! وذات يوم رحَلت التي أحبَبتُها مع عشيقها، مِن دون أن تقول شيئًا أو تترك حتى رسالة. حزني كان لا يُقاس، ولم يستطع أحد مواساتي سوى صغيرتي يُسرى. لكنّ القدر لم يكن قد أنتهى مِن تعذيبي، فأخَذَ منّي ابنتي بعدما أصيبَت بحمّى قتلَتها بعد أيّام قليلة. عندها انهارَت الدنيا مِن حولي، فلَم أستطع فَهم ما حصل لي مِن بؤس. ماذا فعلتُه للسماء كي أُعاقَب هكذا؟!؟ تركتُ التعليم، وبعتُ بيتي وجئتُ إلى مسقط رأسي لأعيش كالناسك في منزل أبوَيَّ. وبعد أن نفَذَ مالي، إضطررتُ لفتح دكّانة صغيرة لأتمكّن مِن العَيش.
كانت قصّة العمّ حسن حزينة لدرجة أنّ مصيبتي بانَت بسيطة مقارنة بها. وحالما انتهى مِن الكلام، رأيتُ وائل يخرج مِن عمله وصَرختُ: "ها هو! هيَّا أدِر المحّرك!".
لحِقنا بوائل الذي ركِبَ سيّارته إلى حيّ مكتظّ بالسكّان. توقّف زوجي في آخره، وترجّل ومشى حتى باب خلفيّ ودخَلَ منه واختفى. لم يكن هناك أيّ يافطة تدلّ على أنّ المكان هو كباريه، لِذا أوقفتُ رجلاً كان مارًّا مِن هناك، وسألتُه إلى أين يؤدّي ذلك الباب الخلفيّ، فأجابَني: "إلى مكان لا أنصحكِ بالدخول إليه، يا سيّدتي". فهمتُ قصده وملأ الحزن قلبي، فقد كان كلام العمّ حسن صحيحًا. وضعتُ يدي على مقبض باب السيّارة مستعدّة للحاق بوائل ومواجهته، إلا أنّ رفيقي منعني مِن ذلك: "هل جننتِ؟ قلنا إنّكِ لن تفضحينا... أليس ما رأيناه كافيًا؟" كان على حقّ، لم يكن مِن الضروريّ أن أخلق جدالاً وفضيحة في مكان كهذا. إكتفَيتُ بالبكاء بينما عادَ بي العمّ حسن إلى البلدة. عند وصولنا، شكرتُه على مساعدته وركضتُ أكمل البكاء في البيت.
عندما عادَ وائل بعد ساعات عديدة إدّعَيتُ النوم، فلم أكن أعلم ماذا أقول له أو كيف أتصرّف في وقت متأخّر مِن الليل، وقرَّرتُ الإنتظار حتى الصباح لأحاسبه على أفعاله.
لكن لكثرة بكائي وحزني إستَيقظتُ بعد رحيل وائل إلى عمله، وأسفتُ لأنّني لم أستطع إفراغ كل ما كان في قلبي. لِذا صمّمتُ على العودة إلى المدينة في اليوم نفسه، ودخول الكباريه لمواجهة ذلك الغشّاش الخائن. لم أفصح للعمّ حسن عن نوايايَ، لأنّني كنتُ أعلم أنّه لن يوافقَ عليها مِن خوفه عليّ. فكذبتُ عليه عندما رحتُ آخذ مفاتيح سيّارته منه، قائلة إنّني ذاهبة لرؤية أهلي لأخفّف مِن حزني.
قدتُ كالمجنونة لكثرة يأسي، وكانت أعصابي مشدودة إلى أقصى درجة. فحتى لو كنتُ أعلم أنّ زوجي يخونُني مع راقصات، ففكرة رؤيته في ذلك المكان الفاسد كانت مرعبة. لم أدخل بحياتي طبعًا كباريهًا، ولم أكن أعلم ما الذي كان ينتظرني وكيف ستكون ردّة فعل زوحي عندما يراني.
وكما حصَلَ في اليوم الذي سبَق، لحقتُ وائل مِن مقرّ عمله إلى ذلك الحيّ الضيّق، وانتظرتُ حوالي الساعة في السيّارة. حين ترجّلتُ، كنتُ أرتجف كالورقة وبالكاد وصلتُ إلى الباب الخلفيّ. عندما دخلتُ، وجدتُ أناسًا مشغولين بترتيب المكان فالوقت كان مبكرًا لبدء العمل الفعليّ. لم يُلاحظ أحد وجودي عندما قطعتُ الصالة متوجّهة إلى الرجل الواقف وراء المشرَب. كان يُنظّف الكؤوس، وسألَني عمّا أريد فأجبتُه: "أودّ رؤية وائل مِن فضلكَ". أشارَ بإصبعه إلى باب في آخر الصالة وتابَعَ عمله. ما الذي كان ينتظرني وراء ذلك الباب المخيف؟ هل كان يجدر بي متابعة ما جئتُ مِن أجله، أو كان مِن الأفضل ألا أرى زوجي بأحضان راقصة؟
فتحتُ الباب مِن دون أن أقرع فعنصر المفاجأة كان مهمًّا. رأيتُ وائل جالسًا وراء مكتب وبيدَيه أوراق عديدة. نظَرَ زوجي إليّ باندهاش كبير غير مصدّق أن يجدني واقفة أمامه في الكباريه. سادَ صمتٌ دام ثوان طويلة ومِن ثمّ قلتُ له:
ـ ماذا تفعل هنا؟
ـ أنتِ ماذا تفعلين هنا؟ لِما لستِ في البيت وكيف جئتِ إلى هنا؟
ـ ولِما لستَ في الشركة تقوم بساعات إضافيّة كما ادّعَيتَ؟
ـ لأنّني أقوم بها هنا... كانوا بحاجة إلى محاسب وأنا بحاجة إلى المال.
ـ وماذا تفعل أيضًا هنا؟
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أعني الراقصات! أين هنّ؟ أريد رؤية التي تعاشرها والتي هي حامل منكَ!
ـ أنتِ مجنونة! لا تأتي الراقصات إلا بعد ساعات، فالعرض لا يبدأ قبل منتصف الليل. وما هذه القصّة التي اختلقتِها عن حمل إحداهنّ منّي؟ ماذا يحصل؟ تكلّمي!
لم أجِبه بل ركضتُ إلى الرجل الذي دلّني إلى باب المكتب، وسألتُه عن عمل وائل في ذلك المكان، فأجابَني أنّه محاسب يأتي لبضع ساعات ومِن ثمّ يرحل. وعندما سألتُه عن علاقته مع الراقصات قال لي الرجل: "يبقى وائل في المكتب حتى يُنهي عمله، ثمّ يرحل بسرعة إلى زوجته التي تنتظره وحيدة في البيت... لا علاقة له بالراقصات، فحين يترك الكباريه تكون الفنّانات في الغرف تتحضّرنَ للعرض.
لم أعد إلى حيث زوجي، بل ركضتُ خارجًا وصعدتُ في السيّارة وقدتُ بسرعة إلى البلدة. هل يعقَل أن يكون العمّ حسن قد سمِعَ خطاً؟ قال لي إنّ وائل طلَبَ مِن الراقصة الإجهاض، ولا مجال للخطأ في ذلك. ما الذي يجري؟ لم أذهب إلى البيت بل إلى بيت العجوز. صحيح أنّ الوقت كان متأخّرًا، لكن كان عليّ معرفة الحقيقة منه. أخذتُ أخبط على بابه حتى فتَحَ لي.
حسِبَ العمّ حسن أنّ مكروهًا حصل لي وبدأ يسألني مئة سؤال. أوقفتُه صارخة:
ـ لماذا كذبتَ عليَّ بشأن وائل؟ لماذا أردتَ خراب زواجي؟ ماذا فعلتُ لكَ لتكرهني إلى هذه الدرجة؟ إعتبرتُكَ صديقي!
ـ وأنا اعتبرتُكِ إبنتي. إبنتي التي لم أرَها تكبر. لستُ فخورًا بنفسي لكن عندما وصلتِ البلدة، جلبتِ معكِ الشمس التي أضاءَت أيّامي المظلمة. صحيح أنّ زوجكِ لم يخنكِ، لكنّه سيفعل يومًا.
ـ وماذا أدراكَ؟
ـ كلّهم سواء!
ـ إن خانتكَ زوجتكَ فهذا لا يعني أنّ وائل سيحذو حذوها. وكيف علِمتَ بشأن الكباريه؟
ـ لحقتُ به لأرى ما يُخفي عنكِ، فلا بدّ أن يُخفي الناس أمورًا عن بعضهم... رأيتُه يتردّد إلى ذلك المكان وحسبتُ أنّه...
ـ لا! بل علِمتَ أنّه محاسب هناك. فكما أعرفكَ، لا تكتفي بالتخمينات.
ـ صحيح ذلك، علِمتُ ما يفعله إلا أنّني... إسمعيني يا صغيرتي، ستكونين بأفضل حال مِن دونه، سيُحطّم قلبكِ يومًا.
ـ لن يفعل. وإن حصَلَ ذلك، سأتصرّف وفقًا للظروف.
ـ أتركيه وانتقلي للعَيش معي، سأعاملكِ كأب.
ـ لدَيَّ أب حقيقيّ ولستُ بحاجة إلى آخر. إسمع، لن أحاسبكَ على ما فعلتَه، لأنّني أرى أنّكَ مضطرب نفسيًّا، إلا أنّني سأتوقّف عن المجيء إلى دكّانتكَ وبشكل نهائيّ. فبسببكَ ارتكبتُ حماقة قد تتسبّب بانفصال زوجي عنّي. كيف صدّقتُكَ؟ لستُ أدري. كان عليّ الوثوق بوائل. الوداع.
وصلتُ البيت قبل زوجي بفترة قصيرة كانت كافية لأحضّر خطّة دفاعي. فالحقيقة أنّ وائل كان أيضًا مذنبًا، لأنّه لم يُصارحني بعمله الثاني، وإخفاؤه الأمر عنّي فتَحَ الباب أمام افتراضات كثيرة.
دخَلَ زوجي البيت حزينًا وتعبًا وجلَسنا نتكلّم حتى الصباح. إعترَفَ كلّ منّا بخطئه، ووجَدنا أنّنا أخفَينا أمورًا عن بعضنا. قدّرتُ كثيرًا تعبه ومحاولته إيجاد طرق لتحسين عَيشنا، وهو شكرَني على صبري لمدّة سنة. علِمتُ منه أنّه اختارَ سكننا ليس لإبقائي بعيدة عن المدينة كما ظنَنتُ، بل لضيقة المال وأنّه كان ينوي جمع ما يكفي لننتقل للعَيش قرب ذوينا. أمّا تكتّمه عن عمله في الكباريه، فسببه خجله مِن التواجد في هكذا مكان. هو لم يكن يمانع اقتنائي سيّارة بل خافَ حقًّا عليّ مِن القيادة إلى المدينة على طريق طويل محفوف بالمخاطر. كان يعلم أنّه يهملني، إلا أنّه كان يعود في المساء تعبًا غير قادر على اعطائي مِن وقته واهتمامه. تصالَحنا أخيرًا، وأظنّ أنّ تلك الليلة كانت مُباركة، لأنّ ابننا الأوّل ولِدَ بعد تسعة أشهر.
صحيح أنّني لم أعد أزور العمّ حسن، لكنّني بقيتُ أتتبّع أخباره. وحين علِمتُ أنّ صحّته ساءَت بسبب سنّه، صرتُ أقصد بيته مع ولدَيَّ حاملة معي الأطباق المغذّية والدواء. لم يُمانع زوجي أن أساعد ذلك المسنّ لأنّه كان كبير القلب. وقبل أن يُغادر العجوز الحياة، طلَبَ منّي مرّة أخيرة السماح، مؤكّدًا لي أنّه لم يقصد إيذائي بل خالَ أنّه يستطيع استرجاع ابنته مِن خلالي. إنطفأ العمّ حسن مبتسمًا، لأنّه كان سيرى صغيرته أخيرًا ويعيشان سويًّا مدى الأبديّة. بكيتُ كثيرًا، ورجوت الله ألا يُحرمني مِن ابنيَّ كي لا أمرّ بما مرّ به ذلك المسكين. فلا يجب أن يبكي الأمّهات والآباء أولادهم!
حاورتها بولا جهشان