مغامرة لم تكن بالحسبان (الجزء الأول)

عندما وعَدني وائل بأن يُحبَّني ويحترمَني ويهتمَّ بي إلى الأبد، صدّقتُه وتصوّرتُ حياتي معه هنيئة ومليئة بالسعادة والحب، شأن كلّ عروس تربط حياتها بحياة رجل أحلامها. فوائل كان حقًّا الذي تمنَّيتُه منذ صغري: كان وسيمًا وكريمًا ويُعطيني وقته كلّه.

إلا أنّني لم أكن أعرف بعد ما كان ينتظرُني معه. وهذه قصّتي:

بعد عودتنا مِن شهر العسل، سكنّا في شقّة صغيرة على بعد مسافة كبيرة مِن المدينة. كنتُ أوّد العَيش وسط المباني والناس والمحلات كما اعتَدتُ أن أفعل منذ ولادتي، لكنّ زوجي كان يكره الضجيج ويُريد أن يكبر أولادنا محاطين بالأشجار يتنشّقون الهواء النظيف. كان على حقّ في ذلك، فالمدينة باتَت ملوّثة ولا تصلح لصحّة الأطفال. ولكن لم أكن أعلم حينها أنّ اختيار سكننا كان جزءًا مِن خطّة مدروسة ومُحكمة.

وهكذا كان وائل يقود سيّارته في كلّ صباح إلى عمله في وسط البلد ليعود إليّ في المساء. كنت أشعر بملل كبير أثناء غيابه، لأنّني لم أكن أملك سيّارة خاصّة بي، بالرّغم مِن أنّني حائزة على إجازة قيادة، وبالرّغم مِن أنّني أبدَيتُ رغبتي باقتناء سيّارة. رفَضَ زوجي تلبية طلَبي بحجّة أنّه يخاف عليّ مِن السائقين الآخرين، ووعَدني بأن يأخذَني بنفسه أينما أشاء. ولكن كيف له أن يفعل ذلك وهو غائب طوال الوقت؟ حتى خلال فرصة نهاية الأسبوع، كان يقضي وقته على الهاتف ليُتابع أعماله مع العملاء، ولم يكن مسموحًا لي بمقاطعته. بقيَ يُطمئنُني بأنّني لن أجد الوقت لأمّل حين نُرزَق أولادًا وعمِلَ جهده لأحمل منه بسرعة. لكنّ الأسابيع والأشهر مرَّت مِن دون أن أحبَل، الأمر الذي زادَ مِن امتعاضي.

قرّرتُ حينها أن أتعرّفَ إلى سكّان المبنى ومَن يعيش في تلك البلدة الصغيرة، على أمل أن أتسلّى بعض الشيء، فحتى ذلك الوقت بقيتُ وحيدة في الشقّة أنتظر عودة زوجي مِن العمل لأجلس معه ساعَتين على الأكثر قبل أن يخلد للنوم.

لم يكن مِن السّهل إيجاد أحد، فالكلّ كان يقصد المدينة للعمَل إلا الكبار في السنّ. صحيح أنّ أهلي كانوا يأتون لزيارتي بين الحين والآخر، لكنّهم وجدوا الطريق إليّ طويلاً، وباتوا يُفضّلون الإطمئنان عليّ هاتفيًّا. كنتُ أستقّل سيّارة أجرة لأراهم مرّة في الأسبوع، إلا أنّ زوجي خوّفَني مِن الركوب مع غرباء، وحكى لي عن محاولات سلب واعتداء حصلَت لسيّدات كثيرات. الشخص الوحيد الذي كنتُ أعرفه أكثر مِن غيره كان العمّ حسن، صاحب الدكّانة الوحيدة في البلدة. كان لطيفًا معي ويُحدّثني ويسقيني القهوة عندما أقصده لشراء حاجاتي. كانت الجلسة معه ممتعة جدًّا، فهو كان يعرف الكثير عن كل شيء لأنّه كان في ما مضى مدرّسًا لمواد مختلفة.

كان العمّ حسن يعلم أنّني أشعر بوحدة كبيرة، لِذا عَرَضَ عليّ في أحد الأيّام أن أستعمل سيّارته الخاصّة للتنقّل:

 

ـ أجلس في دكّانتي طوال النهار... خذيها لكن إيّاكِ والحوادث! فهي رفيقة الدّرب وأنا جدّ متعلّق بها.

 

ـ أشكركَ يا عمّ حسن، أنتَ بغاية اللطف معي ولكن... أخشى أن يستاء وائل مِن الأمر فلو علِمَ أنّني...

 

ـ ومَن سيقول له؟ لا تخافي فليس مِن أحد هنا طوال النهار. كلّ ما عليكِ فعله هو العودة قبل الجميع.

 

ـ لا أحبّ أن أغشّ زوجي ولكن لم أعد أطيق العَيش هكذا. يا لَيتنَي أنجب ولو طفلاً واحدًا!

 

ـ هذه مشيئة الله وهو أدرى بمصلحتنا يا صغيرتي، ستُنجبين حين يرى سبحانه ذلك مناسبًا وليس قبل.

 

ـ أنتَ على حقّ، كالعادة. في ما يخصّ عرضكَ... لم أقد سيّارة منذ أكثر مِن سنة، واخشى أن أحدث لِـ" رفيقة الدّرب" ضررًا.

 

ـ لن يحصل شيء إن قدتِ ببطء يا صغيرتي، كوني شجاعة!

 

وبعد يومَين مِن التفكير، أخذتُ مفاتيح سيّارة العمّ حسن وقدتُها مسافة صغيرة لأعتاد عليها. وبعد فترة، تشجعّتُ وقصدتُ بها المدينة. كم كانت فرحتي كبيرة لرؤية أهلي الذين وعدوني بعدم أخبار وائل بأنّني زرتُهم! مكثتُ عندهم ساعَتين ومِن ثمّ عدتُ إلى البيت بغاية السعادة.

 


صرتُ أخرج مرّة في الأسبوع، ومِن ثمّ مرّتَين ومِن بعدها كلّما استطعتُ. ولم أعد أشعر بالملل وأنا أتسوّق وأقول لزوجي إنّ تلك الملابس أُرسِلَتها لي أمّي مع سائق أجرة. ولم أكن فخورة بنفسي لهذا الكمّ مِن الكذب، لكن ولو فكرّنا بالأمر مليًّا، لم أكن أفعل أيّ شيء يمسّ بالأخلاق.

في أحد الأيّام، عندما قصدتُ دكّانة العمّ حسن، رأيتُه مهمومًا. لم يشأ إخباري عمّا يُزعجه إلا بعدما أجبرتُه على ذلك، مهدّدة بأنّني لن آخذ سيّارته إن لم يبح لي بما يُقلقه. قالَ لي:

 

ـ يا صغيرتي العزيزة... لو تعلمين كَم أنّكِ غالية على قلبي. أنتِ بمثابة إبنتي التي لم أُرزَق بها. أخافُ عليكِ وعلى سعادتكِ.

 

ـ ما الأمر؟ بدأتَ تقلقُني!

 

ـ لقد رأيتُ زوجكِ البارحة ليلاً قرب النبع حين كنتُ عائدًا إلى بيتي ومارًا مِن هناك. ركَنَ سيّارته هناك وكان يتحدّث على الهاتف وسمعتُ ما كان يقوله.

 

ـ أكمل مِن فضلكَ.

 

ـ سمعتُه يتكلّم مع امرأة ويقول لها: "عليكِ إسقاط الجنين بأسرع وقت فلن أتزوّج مِن راقصة كباريه! هل فقدتِ عقلكِ؟ كنتِ تعلمين منذ البدء أنّها علاقة عابرة فأنتِ عاملة لدَيَّ وليس أكثر. لا أريد التكلّم بالموضوع مجدّدًا". وأقفَل الخط بغضب ثمّ أدارَ السيّارة واختفى، وأظنّ أنّه عادَ إلى البيت.

 

ـ يا إلهي! وهل أنتَ متأكّد ممّا سمعتَه؟!؟

 

ـ صحيح أنّني مسنّ لكنّني لستُ خرفًا!

 

ـ آسفة... لكنّني مصدومة جدًّا! وائل يُعاشر راقصة... تعمل لدَيه؟ لم أفهم! فهو يعمل في شركة كبيرة، ولقد زرتُه في مقرّ عمله عندما كنتُ خطيبته. هناك تفسير منطقي لتلك المحادثة، أيعقل أنّه كان يُمازح أحدًا؟

 

ـ كم أنّ قلبكِ نقيّ يا صغيرتي... هل عادَ زوجكِ مستاءً البارحة؟

 

ـ أجل وقال لي إنّه يواجه مشاكل في الشركة.

 

ـ الحجّة التقليديّة. لقد فكّرتُ بالأمر مليًّا اليوم، وأظنّ أنّ زوجكِ لدَيه عملَين: موظّف شركة في النهار وصاحب كاباريه في الليل.

 

ـ لولا جدّيّة الموضوع، لضحكتُ لِما تقوله!

 

ـ فكرّي بالأمر: جلَبَكِ إلى بلدة بعيدة كل البعد عن المدينة وحرمَكِ مِن القيادة، ويعود وسط الليل منهكًا... أليس كذلك؟

 

ـ صحيح ذلك، ولكن عمل الكباريه لا ينتهي إلا في الصباح... على ما أظنّ. فكيف له أن يترك ذلك المكان قبل إقفاله؟ أنا آسفة ولكنّني لا أصدّق الخبر!

 

ـ لا بدّ أنّ له شريكًا. إسمعي، أنا متأكّد مِن الذي سمعتُه، فالحقيقة أنّني اختبأتُ لأستمع إلى حديثه حين ذكَرَ قصّة الجنين. سامحيني يا صغيرتي لكنّ سعادتكِ تهمّني كثيرًا. ولمعرفة الحقيقة كاملة، عليكِ أن تتبعي زوجكِ مِن لحظة ما يترك الشركة إلى حين يعود إلى البيت في المساء.

 

ـ يا إلهي... لا أدري إن كنتُ قادرة على ذلك... فأنا جبانة!

 

ـ سأذهب معكِ! مرّي بي غدًا.

 

ـ والدكّانة؟

 

ـ يحقّ لي بيوم إجازة، أليس كذلك؟

 

في ذلك النهار، تغيَّرت نظرتي للأمور وخاصّة لزوجي الذي عادَ إلى البيت متأخرًّا كعادته. حاولتُ إعطاءه فرصة ليُبّرر هذا التأخير حتى أنسى خطّة العمّ حسن نهائيًّا، لكنّه اكتفى بالقول إنّه يعمل ساعات إضافيّة في الشركة لتأمين حياة جميلة لي، وإنّه لم يشأ إخباري بالأمر كي لا يُحمّلني ذنب تعبه. كنتُ سأصدّقه لو لَم أنظر إليه بتمعّن وهو يقول لي ذلك، وأرى نقطة عرق على جبينه. لم يكن الجوّ حارًّا بل العكس، وذلك كان يعني شيئًا واحدًا: إنّه يكذب عليّ. وفي تلك اللحظة بالذات رأيتُ وائل على حقيقته: رجل كاذب وأنانيّ، فهو لو أرادَ لي حياة جميلة لَما عزلَني في مكان مقطوع عن الناس، ولَما قضى وقته بعيدًا عنّي، ولَما رفَضَ شراء سيّارة لي أو فضّل أن استقّل سيّارات أجرة لرؤية ذويّ. لو أرادَ لي حياة جميلة حقًّا، لفعَلَ جهده لأشعر بحبّه، فالمرّات القليلة التي كان يُدلّعني فيها كانت أثناء محاولاته لجعلي أحمل. كان مِن الواضح أنّه عمِلَ جهده لإبعادي عن المدينة ربّما بسبب الكباريه. ولكن لماذا تزوّجَني إن لَم يكن يُحبّني ويُريد العَيش معي بهناء؟

في تلك الليلة، نمتُ وفكرة واحدة في رأسي: فضح ذلك الغشّاش عند الصباح بمساعدة العمّ حسن.

 

يتبع...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button