مشرّد غير حياتي

لم تكن هجرتي إلى إيطاليا سهلة بعد أن اضطررتُ لترك بلدي الحبيب بحثًا عن مستقبل أفضل. وذقتُ الأمرَّيَن بين حيرتي في إيجاد عمل أو مسكن، وخوفي مِن أن يُعيدوني مِن حيث أتَيت إن علموا بوضعي غير المستقرّ.

وسنة بعد سنة، بدأتُ أشعر بالإستقرار بعد أن تعلّمتُ اللّغة وتعرّفتُ إلى أناس ملأوا فراغ وحدتي. وحصلتُ على الأوراق اللازمة لأحسّ أنّني بتّ جزءاً مِن الحياة الإيطاليّة وصارَ مستقبلي أكثر وضوحًا ووعدًا.

ولكنّني احتفظتُ بخصالي الشرقيّة الحميدة، ومزجتُها بأفضل ما وجدتُه في الحضارة الأوروبيّة. وأعانَني هذا الخليط لتقبّل الآخر واحترام حياته الشخصيّة وخياراته. واستقرّيتُ في عمل أحبّه ويسمح لي بالتعامل مع الناس على اختلاف أجناسهم وجنسيّاتهم، وهم وجدوا فيّ الإنسان الخدوم الذي لا يتأخّر عن مساعدتهم في كلّ صغيرة وكبيرة. وهذه الخصال هي التي سمحَت لي بتغيير حياة رجل لا يحظى إلا بنظرات التجاهل أو حتى الإحتقار.

... وتعرّفتُ إلى أندريا في طريقي إلى العمل. فقد كان عليّ أخذ المترو يوميًّا والمرور قرب "مسكن" ذلك الشابا الذي كان لا منزل له واتّخذ نقطة له قرب الكولوسيوم بسبب عدد السيّاح الكبير. واعتدتُ أن ألقيَ عليه التحيّة، ومِن ثمّ حصَلَ لنا أن تبادلنا بضع كلمات، إلى أن بدأنا نتطرقّ إلى مواضيع أكثر توسّعًا. واكتشفتُ فيه مزايا حميدة وذكاءً مميّزًا.

كان أندريا قد ترَكَ مدينة ميلانو ليبحث عن عمل بعد أن ضاقَت الأحوال به وبأمّه التي عانَت مِن زوج سكيّر وعنيف. ولكنّ الأمور لم تسِر كما خطَّطَ لها، وسرعان ما وجَدَ نفسه مِن دون أيّ مدخول. وبما أنّ الحياة جدّ صعبة في أوروبا، بدأ يتّكل على المؤسّسات الخيريّة التي كانت تؤمِّن له بعض الوجبات ودخول الحمّامات العامة ليُحافظ على نظافته الشخصيّة. كان أندريا يحلم بغد أفضل، ولم ييأس مِن وضعه بل كان يُخطّط ويدرس كلّ الإحتمالات المتاحة له. وما لفتَني فيه كان حياؤه ولطفه وكثرة معلوماته التي كان يأتي بها مِن راديو جوّاله القديم.

 


وبالطبع كنتُ آتي له بالأكل وكلّ ما استطعتُ حمله معي في طريقي إلى العمل. وتساءَل أندريا عن الذي يدفعني إلى مساعدته هكذا واعطائه مِن وقتي يوميًّا، وخال أنّني أنوي حمله على اعتناق الإسلام. إبتسمتُ وقلتُ له:

 

ـ يا صاحبي... ما الدّيانات سوى حبّ الآخر ومساعدته عندما يكون بحاجة إلى المساعدة؟ أنتَ مسلم مثلي لأنّ الله في قلبكَ شئتَ أم أبَيت كما هو في قلبي. الله واحد عند الجميع حتى لو أختلفَت تسميته... لا تخف... دوافعي حميدة ولا أهدف لشيء... إفتح قلبكَ ودع الخالق يقودكَ فهو لا يُريد سوى سعادتكَ... هو لم يخلقنا لنتعذّب بل لنفرح بالحياة... الله محبّة والمحبّة تجلب السعادة.

 

وذات يوم قال لي أندريا إنّه بحاجة إلى سبعين يورو ليبدأ صعوده مِن الحفرة التي هو فيها. لم يطلبها منّي مباشرة، بل كان يُفكّر عاليًا أنّه بهذا المبلغ سيتمكّن مِن شراء درّاجة هوائيّة مستعملة ويعمل في مطعم بيتزا في توصيل الأكل إلى المنازل، وبالمال المتبقّي يبتاع جهازاً خليويًّا مستعملاً أيضًا ولكن أكثر حداثة مِن الذي يملكه ليُنزل عليه تطبيق ج. ب ـ أس لإيجاد منازل الزبائن.

وبالطبع أعطَيتُه السبعين يورو، لأنّني كنتُ متأكّداً مِن أنّه لن يبتاع بها المشروب أو السجائر كباقي المتشرّدين.

وشكَرَني أندريا بحرارة ولكنّني أجبتُه:

 

ـ أنا الذي أشكركَ لأنّكَ سمحتَ لي بمساعدتكَ... فذلك يُفرح قلبي ويُشعرني بأنّني أساهم ولو بعض الشيء في إعادة الكرامة إلى إنسان يستحقّ أن يعيش يدون أن يقلق على غَدِه... أعلم تمامًا كم أنّ الحياة صعبة في هذا البلد الذي يبتلع كلّ مَن زلّت رجله أو أخطأ في حساباته... أنتَ صديقي يا أندريا... أنتَ الأخ الذي لم تلده أمّي... هنيئًا لكَ.

 

وامتلأت عينانا بالدّموع ولكنّها كانت دموع فرح واعتزاز وامتنان.

 

ووفى صديقي بوعده، واشترى الدرّاجة والخليويّ وبدأ بالعمل، وتغيّرَت نفسيّته وتوسّعَت آفاقه، فلم يعد ذلك الشاب الميؤوس منه الذي ينتظر عطف المارّة أو المؤسّسات الخيريّة. وبقيَ ينام في الطريق إلى أن وجد عملاً كحارس مستودع في بلدة صغيرة وبعيدة... واحتار بأمره. فهناك كان سيستطيع استئجار شقّة صغيرة والعيش بكرامة، ولكنّ المكان كان معزولاً والحياة فيه تنتهي عند هبوط الليل. كان أندريا قد تعوّدَ على زحمة العاصمة وتوافد السيّاح على مدار الساعة وكان يخشى أن يندم على قراره. ولكنّ ذهابه إلى تلك البلدة كان بداية قصّة جميلة لم يكن ليحصل عليها في روما.

 


وودّعتُ صديقي، وبالرّغم مِن حزني لعدم رؤيته مجدّدًا، كان قلبي مليئًا بالفخر تجاهه لأنّه لم يُخيّب أملي به بل كان كما توقّعته: إنسانًا نزيهًا وطموحًا. فأغلب المتشرّدين في أوروبا، يغرقون في اليأس والكحول وينتهي بهم الأمر بمأساة كبيرة. لكنّ أندريا كان شابًّا عَزمَ على التغلّب على أوضاعه الصعبة.

وبالطبع بقينا على تواصل بفضل جوّاله الحديث، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما علِمتُ أنّه استقرّ في تلك البلدة وبدأ يندمج فعليًّا بالحياة الإجتماعيّة وأصبح مواطنًا كغيره.

ولكنّ تلك الفرحة لم تكن شيئًا أمام الخبر السّار الذي زفّه إليّ خلال إحدى مكالماتنا: كان أندريا قد إلتقى سيلفيا ووقع في حبّها.

وكانت سيلفيا تكبره بأكثر مِن خمسة عشر عاماً ومُقعدة منذ الطفولة. وبالرّغم مِن إعاقتها، عَرِفَت كيف تصارع الحياة بفضل مساعدة الدولة الإيطاليّة لها ماديًّا وعمليًّا. ولم يجد صديقي أنّ سنّ تلك المرأة أو وضعها هما عائقان للإرتباط بها، فقد كان كما قلت سابقًا إنسانًا مميّزًا يملك قلبًا كبيرًا.

ولأنّ كليهما كانا وحيدَين في هذه الحياة، جمعهما تعطّشهما لعاطفة حُرِما منها مطوّلاً، وعمِلا على إسعاد بعضهما بالسّبل المتاحة لهما.

وأذكر أنّ أندريا فاجأني ذات يوم بزيارتي في روما هو وزوجته، وكان لقاؤنا حدثاً لا يُنتسى. وتناولنا الغداء سويًّا في مطعم مجاور إعتدتُ إصطحاب أصدقائي إليه. ولكن بعد تناولنا الطعام، أعَرَبَت سيلفيا عن رغبتها بدخول الحمّام. وبسبب الدّرج الملتوي لم يكن مِن الممكن تمرير كرسيّها المتنقّل. فحملها أندريا بكلّ حبّ وحنان إلى الحمّامات وانتظرها وأعادها. أخذتُ أنظر إليهما وأفكّر بقوّة الحبّ التي تجمعهما، لأنّني أدركتُ أنّ صديقي يُساعد زوجته باندفاع صادق لم أرَه مِن قبل. وودّعتُ الثنائيّ والدّمعة في عينيَّ وتمنّيتُ لهما السعادة.

وبعد أشهر قليلة، علِمتُ أنّ سيلفيا حامل وابتسمتُ لأنّ الحياة أعطَتهما هدفًا إضافيًّا لمواجهة الصّعوبات. وكانت الطفلة التي رُزقا بها لاحقًا ترمز إلى الأمل وكانت ثمرة نضال ومثابرة.

كم أنّ الدنيا عجيبة. يخلق فيها القويّ والضعيف، الطموح والمستسلم، الصّالح والسيّء. ولقد تعلّمتُ الكثير مِن مسيرة أندريا. تعلّمتُ أنّ مساعدة الناس ولو بشيء بسيط قد تغيّر حياتهم. فما نعتبره مكتسبًا ليس سوى ثروة أو بداية جديدة لمَن هم بحاجة إلى دفعة في الحياة. تعلّمتُ مِن أندريا أنّ كلّ شيء ممكن وأنّنا سنجد مخرجًا مِن صعوباتنا إن فتّشنا عنه. تعلّمتُ منه الصّبر والمثابرة وعدم حرق المراحل. تعلّمتُ منه أنّ الحبّ إحساس وليس جمالاً أو مظاهر وأنّ السعادة قد تكون موجودة أيضًا مع أشخاص وضعَهم المجتمع جانبًا لأنّهم ليسوا مطابقين للمعايير السّائدة.

أنا أيضًا أبحث عن الحبّ، وإلى حين أجده في عينيّ إمرأة، سأظل أعطيه إلى مَن هم بحاجة إليه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button