مزحة مُكلفة

لماذا وقَعَ الاختيار عليّ بالذات؟ لستُ أدري. فلَم أكن الولَد البكر أو حتى "آخر العنقود" بل في الوسط. حصَلَ ذلك يوم كان والدي يعلّمُني كيفيّة القيام بواجب الصلاة، فهو بقيَ ينظرُ إليّ بطريقة غريبة ثمّ قال لي بعد انتهائي: "ستكون رجل دين يا بنيّ... أرى ذلك بوضوح، فوجهُكَ يشعُّ نورًا وإيمانًا!". للحقيقة، لَم أكن حقًّا أفكّرُ بالصلاة في تلك اللحظات، بل كيف سألحقُ برفاقي لأُكمِل اللعب معهم، إلا أنّني سُرِرتُ بموقف أبي منّي، فهو لَم يعِرني أهميّة خاصّة قبل ذلك، ووعدتُ نفسي أن يبقى ينظرُ إليّ بفخر واعتزاز.

لذلك، أخذتُ كلام والدي على مِحمَل الجد، وصرتُ أصلّي بتقوى فائقة والقراءة في كتابنا الكريم معظم الوقت، باذلاً جهدي أن يراني الجميع ويُثني عليّ. مرَّت السنوات وابتعدتُ شيئًا فشيئًا عن رفاقي الذين ملّوا مِن انتظاري حتى أُكمِل صلاتي وقراءاتي. لَم يُزعِجني الأمر، فلَم أكن أعلَم آنذاك أنّ طفولتي ولاحقًا مُراهقتي ذهبتا منّي مِن دون رجعة. فلَم أعِش تلك الأيّام الجميلة كما يجب لأشبَع منها وأنتقل بسلاسة إلى سنّ الرشد.

دخلتُ الجامعة لأتخصّص في الفقه والأديان، فكانت تلك الخطوة منطقيّة بالنسبة لي... مع أنّني كنتُ أهوى داخليًّا دراسة التجارة والتسويق. أذهلَتني الكليّة باختلاف طلّابها ومنهجها عن المدرسة، واعتبرتُ ذلك المكان بمثابة امتحان يوميّ لإيماني لكثرة المُغريات الموجودة والمتاحة. فهناك وجدتُ صبايا جميلات وفاتنات، وحرّيّة بالتصرّف وصفتُها بغير المقبولة. وولِدَت في داخلي معركة خضتُها بفخر مع أنّ الذي صبَغَ حياتي بالتقوى والالتزام كان قد نسيَ الموضوع وأزاحَ نظرَه واهتمامه عنّي. أجل، فأبي حدَّدَ لي حياةً لَم تكن تعني له الكثير وتركَني أتخبّطُ فيها لوحدي.

إنتهَت السنة الجامعيّة الأولى وكنتُ قد أذهَلتُ خلالها الأساتذة بسبب معرفتي العميقة بالدين، إلا أنّ رفاقي لَم يُحبّوني لسبب جهلتُه. ألَم يكونوا هم أيضًا يتعلّمون أسس الدين؟ كان مِن الواضح أنّ عدَم اختلاطي بأبناء سنّي منذ طفولتي قد جعَلَ منّي شابًّا غريب الأطوار. طرَدتُ مِن بالي ما يحصل بذريعة أنّ رسالتي هي أهمّ مِن كلّ شيء، وانتظرتُ بفارغ الصبر أن تبدأ السنة الثانية.

وخلال تلك الفرصة الصيفيّة، بدأَت الأفكار تُراودُني، إذ أنّ جميع رفاقي كانوا دائمي الفرَح ويضحكون سويًّا على كلّ صغيرة وكبيرة... إلا أنا. هل كان ما يفعلونه سيّئًا لدرجة غير المقبول؟ للحقيقة، لَم أرَ أيًّا منهم يرتكبُ أيّة فحشاء بل يعيشون حياتهم. لِذا قرّرتُ أنّ عليّ الاسترخاء قليلاً إن أرَدتُ أن أخرج مِن عُزلة فرضتُها على نفسي. كان يكفي أن أنظرَ إلى أخوَتي وأخواتي لمعرفة أنّني مُختلف عن الجميع.

 


ولدى بدء الدروس، صرتُ أقفُ مع الباقين في الردهات أو ساحة الكلّيّة. في البدء كانوا يسكتون عند قدومي، ومع الوقت تعوّدوا على وجودي شيئًا فشيئًا. وسكَنَ قلبي فرَحٌ كبير عندما دعاني أحدهم للانضمام إلى شلّته في نُزهة إلى الجبَل فأسرَعتُ بالقبول. أخبرتُ أهلي عن ذلك المشروع، وشعرتُ لدَيهم بارتياح كبير فكانوا يعتبروني غريب الأطوار حقًّا.

إستمتعتُ بالنزهة كثيرًا إلا أنّني بقيتُ صامتًا مُعظم الوقت، كي لا أبدأ بالكلام عن الدين كما اعتَدتُ كلّما رأيتُ أحدًا. لَم أُرِد إفساد الأجواء المرِحة بمواضيع جدّيّة، بعد أن فهمتُ أنّ لكلّ مكان وزمان حديثه. وعند مرور السنة الثانية، كنتُ قد أصبحتُ رفيق مُعظم الطلاب. إلا أنّ حدثًا جاء يُغيّر المُعطيّات وهو موت والدي المُفاجئ. ولحظة فارقَ أبي الحياة، عادَت كلماته إلى ذهني وهو يوصيني بأن أصبَحَ رجل دين، وقرّرتُ تنفيذ رغبته حرفيًّا مهما كلّفَ الأمر.

ففي سنتي الثالثة، قطعتُ علاقتي مع باقي الطلاب نهائيًّا، لدرجة أنّني تصرّفتُ وكأنّني لوحدي في الصفّ. وهذا الأمر جلَبَ لي امتعاض الجميع، وسرعان ما صِرتُ الذي لا يرغب بوجوده أحد. حتى الأساتذة انزعجوا مِن جدّيّتي وكأنّ مَن يدرس الدين عليه أن يكون مُتعاليًا وينتقدُ الآخرين. تخرّجتُ أخيرًا ولَم أحضُر حفلة التخرّج، لأنّني لَم أرَ منفعة مِن ذلك ورحتُ أتحضّر لأصبَحَ إمامًا، أيّ أكرّس حياتي حقًّا للصلاة وإرشاد الآخرين ودعوتهم للتوبة والمشي في الطريق الصحيح. وضعتُ حياتي كرجل جانبًا، فبنظري وجود امرأة إلى جانبي عاطفيًّا وجسديًّا سيُبعدُني عن رسالتي.

قلتُ لأمّي يوم حثَّتني على الزواج:

 

ـ لا مكان للحبّ في قلبي يا ماما... فحبّ الله يكفيني.

 

ـ لكنّ الحياة...

 

ـ أرجوكِ، لا تُجادليني. لو أن أبي كان لا يزال حيًّا لفهِمَ ما أنوي فعله، فهو رأى فيّ ذات يوم نور الإيمان والتقوى وأنّني سأصبَح يومًا رجل دين.

 

ـ لكنّه كان يُمازحُكَ يا بنَي.

 

ـ يُمازحُني؟!؟ وهل الدين مزحة؟ لا تُشوّهي ذكرى أبي مِن فضلكِ!

 

ـ أقسمُ لكَ أنّه لَم يعنِ ما قالَه آنذاك، بل هو كان يستهزئ مِن طريقتكَ بالصلاة، فكان مِن الواضح أنّكَ كنتَ تريدُ الانتهاء بسرعة للِّعب مع رفاقكَ.

 

ـ ماذا؟!؟ يستهزئ بي؟!؟ لكن... لكنّه بقيَ صامتًا حين رحتُ أدرسُ الفقه!

 

ـ صحيح ذلك... وهو قالَ لنفسه إنّه خياركَ وما تُريدُه لنفسكَ. لَم يخطُر بباله أبدًا أنّ السبب هو ما قالَه لكَ حين كنتَ صغيرًا! ليس هناك مِن ضرَر في دراسة كتاب الله وتعاليمه، بل العكس، لكنّكَ صِرتَ مُتزمّتًا ومُنعزلاً وترى الآخرين وكأنّهم كلّهم فاسدون. الدين هو قبول الآخر وحبّه، يا بنَيّ.

 

ـ يعني ذلك أنّني بنَيتُ حياتي على مزحة؟!؟

 

ـ لا تقُل ذلك يا حبيبي... لقد نِلتَ شهادة في الفقه وعليكَ أن تفتخِر بنفسكَ. تُريدُ أن تصبَحَ إمامًا، حسنًا، لكن عِش حياة طبيعيّة!

 

ـ مزحة؟!؟

 


خرجتُ مِن البيت ركضًا ورحتُ أبكي لوحدي على ما اكتشفتُه. ثمّ عدتُ إلى الداخل وقلتُ لأمّي عاليًا:

 

ـ أشكرُكِ على صراحتكِ يا ماما... لن أصبَحَ إمامًا بل سأعيشُ كما يجب!

 

ـ أنا لَم أقُل لكَ...

 

لَم أدَعها تُنهي كلامها، بل رحتُ إلى أخي الكبير وطلبتُ منه مُرافقته إلى سهرة كان ينوي الذهاب إليها مع أصحابه. نظَرَ أخي إليّ باندهاش كبير ووافقَ بسرور. ومنذ تلك الأمسية، لَم أفوِّت فرصة للاستمتاع بأيّ شيء، حتى الكحول. أجل صِرتُ أشرب وأرقص وأُلاطِف الصبايا وكأنّني ابن شارع. وردّة الفعل تلك، محَت سنوات مِن الصلاة والقراءة والدرس.

وسرعان ما صِرتُ معروفًا لحبّي للتسلية، وصار الشبّان يدعوني إلى سهراتهم لأُطفي عليها جوًّا جميلاً وأعودُ إلى البيت عند الفجر بدلاً مِن البحث عن عمل لأكون إنسانًا ناجحًا. عندها قالَت لي والدتي:

 

ـ لقد صبرتُ عليكَ يا بنَيّ، فلقد استوعبتُ كم أنّ معرفتكَ بنوايا أبيكَ الحقيقيّة قد أزعجتكَ، لكن عليكَ أن تصحو أخيرًا وترى ما تفعله بنفسكَ.

 

ـ لقد احترتُ الآن! قرِّروا ما تريدوني أن أفعل!

 

ـ جِد لنفسكَ عملاً أوّلاً، فاخوتكَ ليسوا مُجبرين على الإنفاق عليكَ.

 

بدلاً مِن ذلك، بدأتُ أشتري وأبيع كلّ ما وقَعَ بين يدَيّ، مِن دون المراعاة لأسُس التجارة بل حبًّا بجني المال... وبسرعة، لأثبتَ لأمّي أنّني قادر على ذلك. لَم يهمّني بماذا أُتاجِر بل فقط كَم أربَح.

وأظنُّ أنّني كنتُ سألقى نهاية سيّئة للغاية لو لَم ألتقِ صُدفة بعايدة. مَن تكون عايدة؟ عايدة كانت صبيّة جميلة تعرّفتُ إليها حين كنتُ في الجامعة. آنذاك وجدتُها لطيفة وعاقلة للغاية وكنتُ دائمًا أستمِعُ إلى حديثها بتشوّق.

وفي ذلك اليوم، كانت هي واقفة على الرصيف بانتظار الباص، وأنا مرَرتُ بالقرب منها مع رفيق لي كان مدينًا لي بالمال. وحين طلَبَ منّي وقتًا إضافيًّا ليجمَع المبلَغ المطلوب، صرختُ به عاليًا وشتمتُه مهددًا إيّاه بضربه. نظَرَت إليّ عايدة وكأنّها لا تُصدّق عَينَيها وأذنَيها، ثمّ قالَت لي:

 

ـ أهذا أنتَ؟ جليل؟!؟ جليل، الطالب الهادئ والتقيّ؟

 

ـ أجل، أنا جليل. ما الأمر؟ وهل رؤيتي غريبة لهذه الدرجة؟

 

ـ أجل... فملامحُكَ هي نفسها، إلا أنّك... يا إلهي... ما الذي حدَثَ لكَ؟ هل لنا أن نجلس سويًّا لنتكلّم قليلاً؟ هناك مقعد في المُتنزّه أجلسُ عليه دائمًا للقراءة. هيّا!

 

لَم تنتظِر عايدة ردًّا منّي، بل سحبَتني مِن ذراعي ومشَينا حتى المُتنزّه. مِن جانبه، إستفادَ رفيقي مِن الوضع وهرَبَ بسرعة.

حين جلسنا على المقعد سألَتني عايدة:

 

ـ لطالما كنتَ غريب الأطوار، لكن أن يحدُث فيكَ هذا التغيير الجذريّ، فأمر لا يُصدَّق... فأنتَ تأرجَحتَ بين نقيضَين وكأنّكَ ضائع. ألَم تجِد نفسكَ بعد؟

 

ـ وجدتُ الخداع... لقد أضعتُ حياتي بالتقوى، وكدتُ أن أصبَحَ إمامًا مِن جرّاء مزحة قامَ بها أبي بشأني. وها أنا أسترجعُ سنواتي!

 

ـ أنتَ لَم تكن تقيًّا بل مُتزمّتًا، والآن لستَ تسترجِع حياتكَ بل تُضيعُها. بإمكانكَ أن تكون إنسانًا مؤمنًا وبالوقت نفسه مُحبًّا واجتماعيًّا.

 

ـ لقد سمعتُ ذلك الحديث مِن قَبل.

 

ـ تُريدُ أن تكون إمامًا، فافعَل! لكن كُن إمامًا قريبًا مِن الناس لتستطيع ارشادهم ومُساعدتهم. كلّ الاحتمالات مفتوحة أمامكَ... إلا العنف اللفظيّ والجسديّ والرُبى... أجل، سمعتُكَ وأنتَ تُهدِّد ذلك الشاب. كنّ رجلاً صالحًا أولاً وآخرًا واتبَع تعاليم الله حسَب إمكاناتكَ الخاصّة وليس لأنّ أحدًا قرَّرَ عنكَ ذلك.

 

ـ كلام أمّي نفسه... قولي لي... هل أنا بغيضٌ لهذه الدرجة؟

 

ـ بل ضائع. هل تسمَح لي بمُساعدتكَ؟

 

اليوم عايدة هي زوجتي وأمّ أولادي، ونُربّيهم في جوّ مِن التقوى والصلاة تاركَين لهم حرّيّة انتقاء مسيرتهم. لن أشكُر زوجتي كفاية على الذي فعلَته مِن أجلي وكيف أنّها أمسَكَت بيَدي وقادَتني إلى برّ السلام الداخليّ.

كِدتُ أنسى أن أقول لكم... صِرتُ إمام جامعٍ في منطقتنا وأقومُ بواجباتي الدينيّة والإجتماعيّة كما يجب. ويكنّ لي السكّان محبّة خاصّة إذ يُدخلوني في مشاكلهم لأحلّها ويستمعون لنصائحي. أشكرُكَ يا ربّ على ثقتكَ بي!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button