مرزوق

حبّي للأطفال كان معروفًا مِن الجميع وواضحًا للعيان، ففور زواجي بدأتُ بالإنجاب، ولَم أتوقّف إلا حين قال لي طبيبي إنّ جسدي لم يعد يتحمّل المزيد. كنتُ أُعرَف بـِ "أمّ الدزّينة"، أي أنّني ولدتُ اثنتَي عشرة مرّة، إلا أنّ لدَيّ اليوم ثلاثة عشر ولدًا. كيف ذلك؟ إليكم قصّتي:

كنتُ سعيدة وسط عائلتي الكبيرة، وكذلك زوجي الذي كان يفرح عندما يعود مِن عمله ويُلاقيه أولاده ببهجة ومحبّة، وكان يُردّد لي دائمًا:

 

-لولا أوامر الطبيب، لطلبتُ مِنكِ ولدًا إضافيًّا

 

وأظنّ أنّ السماء إستمعَت له لأنّه كان رجلاً صالحًا يعمل بكدّ ولا يعرف الكذب أو الرذيلة. فكنّا، مِن دون أن نتوقّع ذلك، سنستقبل فردًا جديدًا وننقذُ بذلك حياته.

كانت شقيقتي سامية تعمل في مشفى العاصمة في قسم التنظيفات، وصارَت، على مرّ السنين، وكأنّها ممرّضة لكثرة تواجدها بين أفراد الهيئة الطبّيّة. وكنّا نستشيرُها كلّما حَدَث لأحد أولادنا طارئ أو مرض خفيف. وكانت سامية تمازحُني دائمًا بشأن أولادي، غير قادرة على فهم دوافعي أو حتى قدرتي على تربية هكذا عدد، خاصّة أنّها بقيَت عزباء وأحبَّت عزوبّيتها كثيرًا. وكان لأختي دور كبير في باقي الأحداث، إذ كانت هي التي جاءَت إليّ بـِ "مرزوق".

حصَلَ ذلك في إحدى الأمسيات، وكنّا مجتمعين حول مائدة الطعام حيث كانت تسود، كالعادة، فوضى لا تشهدُها سوى العائلات الكبيرة. سمعنا طرقًا قويًّا على الباب، وخفنا أن يكون قد حدَثَ مكروه لأحد، فركضَ زوجي ليفتح وليجد سامية حاملة كيسًا بين يدَيها.

لم تلقِ أختي التحيّة علينا، بل صَرَخَت بي: "بسرعة! أعطِني غطاءً! الجوّ بارد للغاية في الخارج!"

 

فعلتُ كما طلبَت منّي سامية، بينما وضعَت الكيس على المائدة وبعدما أبعَدَ الأولاد الأطباق المنثورة عليها. وكَم كانت مفاجأتنا كبيرة عندما رأينا الكيس يتحرّك وتظهر منه قدم صغيرة!

 

... وأخرجَت أختي مِن الكيس رضيعًا عمره بالكاد يوم، ولفَّته بالغطاء وأعطَته لي قائلة:

 

ـ ضمّيه أنتِ، فصدركِ معتاد على حمل الأطفال. هل أنتِ قادرة على إطعامه؟

 


ـ طبعًا، فلَم أنتهِ بعد مِن إرضاع إبني الصغير. لكن...

 

ـ هيّا! لا تُكثري الأسئلة، سأخبرُكِ بكلّ شيء بعد قليل.

 

أخذتُ أرضع المسكين الذي كان جائعًا للغاية، بينما التفّت حولي عائلتي بصمت رهيب.

وعندما نامَ الرّضيع ووضعتُه في سرير صغير، طلبتُ مِن سامية البدء بالكلام. وهذا ما قالَته:

 

ـ كان اليوم ككلّ الأيّام، وقمتُ بعملي كالعادة. وحين تحضَّرتُ لترك المشفى، جاءَت إليّ ممرّضة صديقة لي. كانت تلك المرأة قد وجدَت فيّ على مرّ السنوات، أذنًا صاغية لمشاكلها العديدة مع زوجها وأهله وناصحة مُفيدة، أي أنّها تثقُ بي إلى أقصى درجة. أخذَتني جانبًا قائلة:

 

-أنا في حيرة مِن أمري وليس لدَيّ سواكِ يا صديقتي... لقد أعطوني "طردًا" لأرميه في حاويات المشفى المُخصّصة لحرق النفايات العضويّة. إلا أنّ الأمر لَم يكن موادًا عضوّية، بل كان جنينًا حيًّا.

 

صرختُ بأعلى صوتي قبل أن أدرك أنّه لا يجب عليّ لفت النظر، فالموضوع بأقصى الأهميّة والخطورة. أكملَت الممرّضة: "لقد جاءَت صبيّة البارحة إلى قسم الولادة، لا يبلغ سنّها أكثر مِن السادسة عشرة وهي حملَت مِن أب مجهول... أهلها أناس مهمّون رشوا كل العاملين هنا وصولاً إلى رأس الهرم... والإتفاق كان أن يقوم الطبيب بالتخلّص مِن الجنين والقول لأمّه إنّه مات. وفور الولادة أعطوني الولد وطلبوا منّي التصرّف. إلا أنّني لم أكن قادرة على القيام بما اعتبرُه جريمة، فجئتُ إليكِ للنصيحة". طلبتُ مِن الممرّضة أن تريني الجنين، فأخذَتني إلى غرفة حيث يضعون النفايات العضويّة ووجدتُه نائمًا في كيس متّسخ وكأنّه كيس نفايات حقًّا. لَم أفكّر كثيرًا وكنتِ، يا أختي، أوّل مَن خطَرَ على بالي نظرًا لحبّكِ وزوجكِ للأطفال. أرجوكِ... لا ترفضي إعطاء هذا المسكين فرصة جديدة للحياة، والله سيُعطيكِ بدوره بركته. أتوسّلُ إليكِ!"

 

نزِلَت دموعي على خدَّيّ، ورأيتُ عائلتي تبكي بصمت. بالطبع كنّا سنستقبل هذا الجنين! وكيف لنا أن نتركَه يموت؟ أكَّدَت لي سامية بأنّ الممرّضة لن تتفوّه بكلمة واحدة، فهي قد تُطال لو تكلَّمَت.

ثمّ أخَذنا نفكّر بالقصّة التي سنؤلّفها لتبرير ظهور ولد إضافيّ في عائلتنا، ولَم نجد سوى خلق قصّة عن قريبة بعيدة، ليس لها وجود فعليّ، ماتَت وهي تلد بعد أشهر قليلة مِن موت زوجها، وأنّنا أخَذنا الولد لتربيته كي لا يذهب إلى دار الأيتام.

لكنّ زوجي وجَدَ تفسيرًا منطقيًّا وعمليًّا أكثر سيُجنّبُنا عناء الحصول على أوراق ثبوتيّة للولد. قال لي:

 

ـ لا تغضبي منّي يا حبيبتي، لكنّكِ لم تُنزلي بعد الوزن الذي أخذتِه بعد ولادة إبننا الأخير، وبطنكِ كبير للغاية... أي بأمكانكِ القول وبسهولة، إنّكِ حامل في شهركِ السابع وإنّكِ، لكثرة ولاداتكِ، لم تشائي التكلّم خوفًا مِن نظرة الناس إليكِ. سنقول إنّ الولد جاء قبل أوانه.

 

ـ لكنّني لا أزال أرضع ولا يُمكنني أن أحبل طالما أرضع!

 

ـ أنا متأكّد مِن أنّ هناك استثناءات.

 


أسرَعَت سامية بالقول:

 

ـ معكَ حقّ يا صهري، الفرص بالحمل ضئيلة جدًّا لكن واحدة مِن كلّ مئة سيّدة يُمكنُها الحبل أثناء فترة الرضاعة. لقد رأينا ذلك يحصل عندنا في المشفى.

 

شكرنا ربّنا أنّ لأختي معلومات طبيّة واتفقنا جميعًا على تبنّي هذه القصّة... وتبنّي الولد. بقيَ أن نقول إنّ سامية جاءَت لمساعدتي على الولادة وأن نُسجّل الجنين بعد أن نُعطيه إسمًا. طلبتُ مِن أختي أن تختار إسمًا له لأنّها التي جلَبَته لنا، فقالت فرِحة: "سنُسمّيه مرزوق، أي ذو رزق، وعظيم الحظ.

 

وقبل أن تتركنا أختي مع مرزوق وتعود إلى بيتها، أخذتُها جانبًا وقلتلها:

 

ـ سامية... أريدُ كلّ ما تستطيعين معرفته عن أمّ مرزوق.

 

ـ لماذا؟ هل ستتصّلين بها وتقولين لها إنّ الولد عندكِ؟

 

ـ لا، بل لأنّ لمرزوق الحق بأن يعرف يومًا مَن هي أمّه الحقيقيّة. سأحتفظ بتلك المعلومات إلى أن يُصبح راشدًا. لا أستطيع إخبار أمّه شيئًا الآن، لأنّها قاصر وسيعرف أهلها بأنّ إبنها لا يزال حيًّا وقد يُحاولون قتله مِن جديد. هيّا!

 

عادَت أختي في اليوم التالي "لتُبارك لي بمولودي الجديد التي ساعدَتني على توليده"، ولتُعطيني كلّ ما عليّ معرفته عن أمّ الجنين.

صحيح أنّ الناس وجدوا صعوبة بتصديق روايتنا، لكنّهم عادوا وصدّقوها. ونحن تابعنا حياتنا وكأنّ شيئًا لم يحصل.

وأجمل ما في الأمر، هو أنّ زوجي وجميع أولادي عاملوا مرزوق وكأنّه فعلاً منّي، وحفظوا سرّ مجيئه إلينا طوال عشرين سنة، أي حتى قرّرتُ البوح له بالحقيقة. كان مرزوق قد أصبح شابًّا وسيمًا وذكيًّا ومحبوبًا مِن الجميع، وكان إلى حدّ ما لا يُشبه أيّ منّا بسبب لون بشرته الفاتح وعيَنيَه العسليّتين. لحسن حظّه وحظّنا، كان لي خال فاتح اللون ولقد برّرنا لمَن سأل، أنّ ابننا الأخير صورة طبق الأصل عنه.

للحقيقة لم أجد صعوبة بإخباره عن ظروف ولادته، ربمّا لأنّ مرزوق كان إنسانًا واعيًا وهادئًا ويتمتّع بثقة بالنفس قويّة. إختلَيتُ به وسردتُ له القصّة مِن أوّلها، إلا أنّني لم أقل له إنّه كان سيُرمى بالقمامة وكأنّه نفاية وضيعة، بل إنّه كان سيُعطى لمؤسّسة تُعنى بالأيتام.

أخبرتُه أنّ أمّه لا تعرف شيئًا عن مصيره، وأنّهم قالوا لها إنّه مات، طالبة منه ألا يحكم عليها. بالطبع أكّدتُ له أنّني لم أرَه يومًا إلا كابن لي ولزوجي. سَكَتَ مرزوق مطوّلاً ثمّ سألَني ما عليه فعله. أجبتُه أنّ عليه فعل ما يملي عليه قلبه، وأنّنا جميعًا سندعم قراره مهما كان.

لَم يبحَث مرزوق عن أمّه، فهو بعد تفكير عميق، وجَدَ أنّها بأفضل حال مِن دونه. فظهوره بحياتها سيُورّطها بمشاكل هي بالغنى عنها، خاصّة إن كانت متزوّجة ولها أولاد. أضافَ أنّه لطالما أعتبَرَ نفسه إبننا وباقي أولادنا أخوَته، ولَم يرَ حاجة للتعرّف بما أسماها "إمرأة غريبة".

بقيَت سامية تزورنا للإطمئنان على مرزوق حتى مماتها، وهو بكى كثيرًا عليها لأنّه طالما اعتبرَها أمّه الثانية لكثرة حبّها له واهتمامها به. وبعد أن علِمَ الحقيقة، ترحَّمَ أكثر عليها، لأنّها كانت السبب في تسليمه لنا. إلا أنّه طلَبَ رؤية الممرّضة التي أنقذَته، ووجدناها متقاعدة في قريتها. وعندما عرفت المرأة مَن هو، قبّلَته ألف قبلة وقبلة وبكَت كلّ دموعها، وهو قبَّلَ يدَيها شاكرًا إيّاها لاعطائه فرصة للعيش.

اليوم مرزوق متزوّج ولدَيه إبنة جميلة، وكلّما أزورُه، أشكرُ ربّي على أكبر نعمه على الإطلاق: الحياة. فمرزوق كاد أن يموت بعد يوم واحد مِن ولادته، وها هو رجل قويّ وذكي ومُحبّ.

كيف لأناس أن يستهتروا بالحياة مِن أجل الشرَف أو المال؟ ألا يخافون العقاب والمحاسبة التي تنتظرُهم بعد مماتهم؟ فبالفعل سيكون هذا العقاب أقوى وأفظع مِن أيّ فضيحة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button