مديري لا يريدني أن أعمل..ولكن لماذا؟

كم كانَت فرحتي كبيرة عندما حصلتُ على الردّ من الشركة التي حلمتُ أن أعمل فيها!
فمنصب مديرة المُنتَجات، حلم كل شخص يحمل شهادة إدارة أعمال. وكانوا قد طلبوا منّي، البدء بالعمل في أسرع وقت لكثرة إعجابهم بسيرتي الذاتيّة وبالمقابلة التي أجراها معي مدير الموارد البشريّة. فذهبتُ فوراً لشراء الثياب المناسبة، لأكون جديرة بأن أجلس وراء مكتبي الجديد. هنّأني أهلي وأصدقائي، وتلك الليلة، لم أنَم جيّداً عالمة أن حياتي قد أخذَت منعطفاً مهمّاً.

وبدأتُ العمل بجديّة أطوقُ إلى توجيهات رئيسي لأنفّذ كل ما سيُطلب مني حرفيّاً، فعملياً، لم يكن عندي بعد أي خبرة وكل نصيحة كانت ستدفعني إلى الأمام. وقلّة خبرتي هذه، هي التي منعتني من رؤية ما كان يجري فعليّاً من حولي.

وبعدما وصلتُ الشركة، طلبتُ ملفّات عملائنا لكي أتعرّف عليهم وعلى حاجاتهم من خلال طلبيّاتهم، ولكن قيل لي أنّ هذه المستندات سرّية. إستغربتُ كثيراً، فكيف لي أن أتعاطى مع زبائننا إن لم أرَ تاريخ تعاملهم معنا. قلتُ لنفسي أنّ السبب يعود حتماً لحداثة وجودي في الشركة وأنّهم لا يثقون بي بعد. تابعتُ عملي متأملة أن أنال الثقة قريباً لكي أستطيع القيام بواجباتي. في هذه الأثناء، بدأتُ أتعرّف إلى باقي الموظفين وخاصة مدراء المنتوجات الأخرى وما أثار فضولي، هو أنّهم جميعاً ودون إستثناء من دون عمل يقضون النهار بأكمله إمّا جالسين وراء مكاتبهم يقرأون الجريدة، إمّا عند بعضهم البعض يشربون القهوة. وعندما سألتهم عن سير عملهم أجابوا: "الأعمال تجري بشكل سليم... نقبض راتبنا في آخر الشهر". بالنسبة لي كان هذا الموقف يدلّ على عدم الإندفاع والكسل، فقررتُ أن أعمل بجديّة أكثر لكي أريهم كيف يكون الموظّف المثالي. فعندما طُلِبَ مني وضع طلبيّة للمُنتَج، إتصلتُ بعامل المستودع ليقوم بجردة لما يوجد عندنا من بضاعة، لكي لا يكون عندي فائض. وفوجئتُ بردّه: "لا... لن أفعل هذا".
لزمني بضعة ثوانٍ لأستوعب ما قاله لي ثم أجبتُه: "أنا مديرة المنتج وأقول لكَ أنني أريد جردة كاملة للمستودع صباح الغد بأقصى حدّ". وأقفلتُ الخط بغضب. ولكن في اليوم التالي إنتظرتُ ولم تأتي نتائج الجردة فدخلتُ فوراً مكتب رئيسي وأخبرتُه بما يجري. ضحِكَ ثم قال:

- أنتِ جديدة هنا... وهذا الشخص يعمل عندنا منذ أكثر من عشرين عاماً... عليكِ أن تكوني لطيفة معه.

- ولكنني لم أقل له شيئاً مهيناً! طلبتُ منه القيام بعمله. أليس هو من يهتمّ بالمخزن؟

- بلى... إسمعيني... لِما لا تنسي أمر الجردة الآن ونعود إليها لاحقاً؟

- وكيف تريدني أن أطلب منتوجات من فرنسا إن لم أعلم ما هي الأصناف التي نستوردها والكميّة اللازمة وما تبقّى منها عندنا؟

- لا تقلقي بشأن هذا... أنا سأقوم بالطلبيّة هذه المرّة... أنتِ عودي إلى مكتبكِ.

- لأفعل ماذا؟

- للعمل طبعاً!

وعندها فهمتُ لماذا زملائي يقضون وقتهم في الثرثرة وشرب القهوة. ولكن طبعي لا يسمح لي بالسكوت عن الغلط. إن كنتُ سأتقاضى أجراً في آخر الشهر، كان عليّ أن أعمل مقابل هذا المال. فإنتظرتُ غياب السكريتيرة عن مكتبها ودخلتُ غرفة الملفّات وأخذتُ كل ما يختص بزبائننا، لأحضّر خطّة لجلبهم على طلب منتوجات أكثر، وكسب ثقة وإعجاب مديري. عدتُ بالملفّات إلى مكتبي وبعد أن أغلقتُ الباب ورائي بدأتُ أتصفّحها بسرعة قبل أن يلاحظ أحد إختفائها. وما وجدتُ فيها كان غريباً جداً: طلبيّات زبائننا كانت قليلة جداً ومتقطّعة، بإسنثناء متجر واحد كان يطلب كميّات هائلة وبصورة شبه يوميّة. ولكن كيف له أن يصرّف هذا الكمّ من البضائع؟ بعدما أرجعتُ الملفّات إلى مكانها، قررتُ زيارة صديق لي يعمل في التسويق وسؤاله عمّا إكتشفته. ضحِكَ عند سماع القصّة وقال:

- أهلاً بكِ إلى عالم تبييض الأموال!

- هل أنتَ جديّ؟

- أتعلمين لمن هو هذا المتجر الضخم؟ إنّه ملك الشركة التي تعملين لديها.

- ولِمَ يبيعون البضاعة لأنفسهم؟

- تماماً! هذا هو تبييض الأموال. دعيني أشرح لكِ: يأتي المال من جهّات مشبوهة، غالباً من خارج البلاد. هذا المال هو مردود تجارات محظورة كالمخدّرات أم الدعارة أم كازينوهات غير مرخّصة. وأصحاب هذه الأموال لا يقدرون تبرير مصدر المال فيهرّبونه خارجاً إلى شركاء لهم، يخلقون أماكن وأشغال لتوظيف المبلغ. فالمؤسسة التي تعملين فيها، تأخذ الأموال التي جاءتها وتشتري بها بضائع وتبيعها لنفسها. هكذا تكون حساباتها صحيحة وقانونيّة. ولقد تمّ توظيفكِ فقط كواجهة لتغطية صفقاتهم وليس لمهاراتكِ.

- وما عسايَ أن أفعل؟

- أمامكِ ثلاث حلول: الأوّل أن تفعلي كالآخرين أي أن تجلسي وراء مكتبكِ طوال النهار وتنتظري قبض راتبكِ في أخر الشهر، الثاني أن تقدّمي إستقالتكِ وترحلي بكل بساطة والثالث أن تبلّغي عمّا يجري وتحمّل مسؤوليّة ما قد يحصل لكِ إن علموا أنّكِ أوشيتي بهم فهؤلاء الناس لا يمزحون بشأن تلك الأموال الطائلة. ماذا ستختارين؟

- عليّ أن أفكّر أوّلاً.

وفكّرتُ مليّاً ووجدتُ أن سكوتي يجعلني شريكة بالجريمة فالمال الذي يتمّ تبييضه آتٍ من مأساة أناس وقعوا ضحيّة المخدّرات أو الدعارة أو لعب الميسر. ولكن لم أكن مستعدّة لأكون كبش المحرقة وأن ينتقموا منّي. فإتصلتُ بالشرطة من هاتف عموميّ وأبلغتُ عمّا يجري في الشركة دون أن أفصح عن إسمي وعدتُ إلى عملي وكأنّ شيئاً لم يكن. وبعد أسبوع قامَت وحدة مكافحة تبييض الأموال بمداهمة مكاتبنا وإعتقال المدير. طلبوني أيضاً للتحقيق ولكن بما أنني موظّفة جديدة وسجلّي نظيف إعتبروا أنّه لا علاقة لي بالموضوع ولم يضايقني أحد مجدّداً. وتمّ إقفال الشركة بالشمع الأحمر، وبعد فترة علمتُ أنّ الشرطة فكّكَت شبكة كبيرة من مبيّضي الأموال، ورغم أنني وجدتُ نفسي دون عمل، كنتُ فخورة بنفسي لأنّني لم ألعب لعبتهم القذرة طمعاً بالمال.

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button