مخاوف شلَّت حياتي

حين كنتُ في الرابعة عشرة مِن عمري، سألَنا يوماً أستاذنا في المدرسة عن مخاوفنا فأجبتُه حين وصَلَ دوري: "أرتعبُ مِن فكرة فقدان شخص عزيز عليّ". بعد انتهاء الحصّة وخلال الإستراحة، طلَبَني الأستاذ كمال إلى مكتبه ليحصل منّي على تفسير لِما قلتُه. أجبتُه:

 

ـ جئتُ إلى الحياة بعد أشهر مِن فقدان غيري حياته.

 

ـ ماذا تقصد؟ أو بالأحرى مَن تقصد؟ جدّكَ؟ جدّتكَ؟

 

ـ لا بل أخوَي. كانت قد حمِلَت أمّي بتوأمَين ما لبِثا أن ماتا بعد ولادتهما بساعات قليلة.

 

ـ وما شأنَكَ بما حصَلَ لهما؟

 

ـ لا شأنَ لي بموتهما... لكنّني لَم أعرِف بتلك الحادثة إلا منذ سنة. كان أبوايَ قد كتما عنّي الخبَر طوال ذلك الوقت، إلا أنّني وقعتُ صدفةً على ملابس صغيرة للغاية مُخبّأة جيّدًا في قعر صندوق وهي مُطرّزة بإسمَي "فادي" و"فؤاد". إستغربتُ الأمر فأسمي وليد وليس هناك مِن أولاد غيري، فسألتُ أمّي عن الأمر وهي قالَت لي بعد أن وبّخَتني على التفتيش في أمتعة لا تخصّني: "إنّهما أخواكَ... لَم يعِشا كفاية لتتعرّفَ إليهما فلقد ماتا بسرعة."

 

ـ يا إلهي... خبر مُفجِع حقًّا. لكن...

 

ـ في البدء لَم أعطِ للأمر أكثر ممّا يستحقّ، لكن بعد فترة بدأَت الأفكار المُقلِقة تنتابُني. فبتُّ أتصوّر كيف سيكون شكلهما لو عاشا وما هو أهمّ، هل كان أبوايَ سيُنجِباني لو بقيا على قيد الحياة أو كانا سيكتفيان بهما؟ بعد أشهر، صرتُ أحسُّ بالذنب لأنّني عشتُ وهما لا، وكأنّني لا أستحقُّ الحياة أكثر منهما.

 

ـ إنزَع تلك الأفكار مِن رأسكَ يا بُني، فالحياة أمامكَ ولا مكان فيها لتعذيب نفسكَ على ما لَم تقترفه.

 


لَم أستوعِب كلام أستاذي فكنتُ لا أزال مُراهقًا وعقلي لَم يكن ناضجًا كفاية لفَهم أبعاد النفس البشريّة، فتابعتُ حياتي وأنا أحمِلُ ثقل جنينَين لَم يتسنَّ لي رؤيتهما حتى.

فادي وفؤاد... وضعتُ هذَين الإسمَين في رأسي فبقيا معي وبداخلي في كلّ ثانية، وعشتُ بِرفقة شبحهما والخوف الذي صارَ يزدادُ مع الوقت ويمنعُني مِن الإرتباط بأحد أو حتى التفكير بالمستقبل.

علاقتي بوالدَيّ تأثّرت كثيرًا، فبتُّ أشعرُ بأنّني خيارهما الثاني، أي الإبن الذي أنجباه للتعويض عمَّن مات. إضافة إلى ذلك، كنتُ أخافُ عليهما كثيرًا، فلو هما ماتا أيضًا أكون الولَد الذي يجلبُ لمَن حوله الموت والفأل السيء.

أجل، إعتقدتُ لسنوات طويلة أنّني أسبّبُ للآخرين الموت. مشاعر كثيرة ومُتضاربة لَم أكن قادرًا على التعامل معها. كان يجدرُ بي التكلّم فقد كان بامكان أخصّائيّ مُساعدتي.

تدنَّت علاماتي في المدرسة إلا أنّني لَم أرسُب، بل وصلتُ إلى الجامعة حيثُ اختَرتُ إختصاصًا لَم أحبُّه. لَم يكن يهمُّني الأمر كثيرًا، فبنظري لن يتغيّر شيء بالنسبة لي. لِذا درستُ الآداب.

حياتي العاطفيّة كانت طبعًا معدومة، فلِما أجني على فتاة بِجلب المآسي لها؟ كنتُ الشخص الذي يجب الإبتعاد عنه كي لا يحصل أي مكروه. قد تجدون الأمر مُضحكًا أو مُبالغًا به لكنّ ذلك كان فعلاً شعوري.

صِرتُ أستاذًا في مدرسة إبتدائيّة، وأعجبَني العمل إذ كنتُ مُحاطًا بالأولاد الذين لَم يكونوا لي، أي أنّني لن أضطرّ للخوف عليهم إن مرضوا أو وقَعَ لهم حادث. فبعد انتهاء الدوام كانوا يعودون إلى ذويهم وحسب.

شيء واحد كنتُ أصرُّ عليه وهو ألا يكون في صفّي توأمان، وقد أقنعتُ إدراة المدرسة بأنّ تفريق توأمَين مُفيدٌ أكثر لهما، الشيء الذي كان صحيحًا بحدّ ذاته. فلَم أكن أتحمّل التواجد مع تجسيد أكبر خوف لدَيّ. على كلّ الأحوال، كنتُ أجهلُ كيف أتعامل مع وضع مُماثل لو حدَث... لكنّه حدَثَ.

فقد تفاجأتُ كثيرًا يوم رأيتُ في بداية السنة الدراسيّة الجديدة ولدَين توأمَين جالسَين في صفّي على مقعدَيهما، وخلتُ أنّ قلبي سيتوقّف مِن الرعب. ثمّ شعرتُ بِعرقي يتصبّبُ باردًا مِن مسامي. تركتُ الصفّ بسرعة وركضتُ إلى مكتب المُدير لأعرِب له عن إستيائي وأحاول تصحيح الوضع بأقرب وقت. إلّةا أنّ الرجل بقيَ مُصرًّا على إبقاء الولدَين حيث هما. فكّرتُ بتقديم استقالتي على الفور، إلا أنّني تراجعتُ عن ذلك بسبب الراتب الذي كنتُ بحاجة إليه لِتسديد دفعات سيّارتي الجديدة. عُدتُ إلى الصفّ وفي بالي شيء واحد: عدَم التعامل مع هذَين المخلوقَين الصغيرَين، أي تجاهلهما كلّيًّا، الأمر الذي كان طبعًا مُنافيًا لِمبادئ التعليم.

ولِدَ لدَيّ صراع شديد بين عواطفي وعقلي، فكنتُ أعلمَ أنّ خوفي مِن هذَين التلميذَين لَم يكن منطقيًّا، وصرتُ أستيقظُ صباحًا وبي رغبة شديدة لعدَم الذهاب إلى عملي. كنتُ أشعرُ وكأنّني مريض فأحملُ الهاتف لأُخبر المدرسة أنّني لن آتي... ومِن ثمّ أتراجع عن ذلك.

مرَّ الفصل الأوّل بسلام، إذ أنّني تمكّنتُ مِن تجاهل التوأمَين بسلاسة، أي مِن دون أن ينتبه القيّمون إلى شيء، لكنّ الولد يشعرُ بِفطرته بمَن يُحبّه أولا، فتأثّرَت علامات الولدَين بمعاملتي لهما، الأمر الذي حمَلَ المدير أخيرًا إلى استدعائي للإستفسار. رددتُ له الأمر إلى نظريّتي الأولى، وهي أنّه لا يجب جَمع توأمَين في الصفّ نفسه، وانتهى الأمر.

في بداية الفصل الثاني حان موعد رحلة تثقيفيّة إلى أحد المعالم الأثريّة أقومُ بها لتلاميذي سنويًّا، وانتابَني الهمّ. ماذا لو حصَلَ مكروه للتوأمَين؟ هل كنتُ سأتسبّبُ بأذّيتهما كما فعلتُ مع أخوَيّ؟ لَم أنَم لليالٍ مُتتالية، وقرّرتُ عدم اصطحاب تلاميذي إلى الرحلة وانتهَت همومي بلحظة.

أعترفُ أنّني في تلك السنة لَم يؤلمُني ضميري كأستاذ لِما أفعلُه بالتوأمَين، فراحة بالي كانت أهمّ منهما بكثير. أجل، فالخوف أكبر مِن أي منطق أو عاطفة، وعندما ينتابُنا تستيقظُ فينا الغريزة وينامُ العقل والضمير.

لكن في أحد الأيّام، دخَلَ زائر صفّي ولَم أصدّق عينَيّ حين رأيتُ أستاذي القديم السيّد كمال واقفًا أمامي يبتسمُ لي بِفخر. طلبَ منّي الأذن بحضور حصّتي وقبلتُ بسرور. سارَت الحصّة بسلاسة إلى حين قال لي الأستاذ كمال عاليًّا:

 


ـ أرى أنّ هذا التلميذ يرفعُ يده باستمرار ولدَيه ما يقوله... أليس كذلك؟

 

كان بذلك يعني أحد التوأمَين. فاضطرِرتُ إلى إعطاء الكلام للولد وحتى حمله على القدوم إلى اللوح لِحلّ مسألة. لَم أكن مسرورًا للأمر فسرعان ما رفَعَ أخوه يده. إستجبتُ لطَلب الأخ وكَم تفاجأتُ بهما، فقد كانت لدَيهما الأجوبة الصحيحة على خلاف باقي التلامذة وعلى خلاف أيضًا علاماتهما في الامتحان. عندها قال لي الأستاذ كمال:

 

ـ أرى أنّ هناك مواهب في صفّكَ... ومِن المؤسف ألا نُنميّها... هل تُشاطرُني رأيي؟

 

لَم أجب وتابعتُ الحصّة. عادَ الأستاذ كمال يوميًّا إلى صفّي لأسبوعَين، ولَم أرَه سوى خلال حصصي مع أنّني حاولتُ اللحاق به لأسأله عن أحواله لكنّه بقيَ يتفاداني. للحقيقة لَم يُرِد التكلّم معي حتى ينتهي الدرس الأخير الذي كان ينوي تلقينه لي، درس كان بمثابة خشبة خلاصي مِن خوف لازماني طوال سنوات.

فيومًا بعد يوم، ومِن أجل أستاذي، بدأتُ أُعطي أهميّة للتوأمَين لا بل صرتُ أحبّ معرفة أجوبتهما التي كانت دائمًا صحيحة ومنطقيّة. كان لدَيّ شخصان موهوبان للغاية وكدتُ أقضي على مستقبلهما.

وبعد أسبوعَين قال لي الأستاذ كمال:

 

- أرى أنّ الوقت حان للقيام بتلك الرّحلة التثقيفيّة.

 

نظرتُ إليه بدهشة، فمِن الواضح أنّه كان يعرفُ الكثير عن عملي. حاولتُ مُناقشة الأمر معه إلا أنّه أدارَ ظهره وغادرَ الصفّ قائلاً:

 

- علينا يوماً القضاء على شياطيننا... فنحن أقوى منهم بكثير.

 

لَم أنَم في تلك الليلة وأنا أفكّر بطريقة لتفادي الرحلة، لكنّني خجلتُ مِن أستاذي وأرَدتُ، كأيّ تلميذ في العالم، إثبات نفسي له.

لن أُطيل الشرح عن حالتي النفسيّة خلال رحلتنا التثقيفيّة، فكانت عينايَ مُثبّتة على التوأمَين أنتظرُ أن يحصل لهما مكروه في أي لحظة. وبقيتُ أتفقّد ساعتي بانتظار انتهاء الوقت المُتاح لنا، وخلتُ أنّ النهار لن يمرّ بسلام. لكنّ شيئًا لم يحصل سوى أنّ تلاميذي قضوا وقتًا مُمتعًا... على خلافي!

حين وصلتُ إلى البيت في آخر النهار، أحسَستُ وكأنّني قمتُ بمجهود جسديّ هائل فنمتُ نومًا عميقًا. عندما استيقظتُ في الصباح شعرتُ براحة لَم أختبرها مِن قبل. رددتُ الأمر إلى ساعات النوم الطويلة التي حظيتُ بها إلا أنّ شيئًا آخر كان قد حصَلَ لي. علِمتُ ما هو حين بدأتُ أسبوعي التعليميّ ودخلتُ صفّي. فعندما نظرتُ إلى تلاميذي الجالسين على مقاعدهم، لَم أعد أرى التوأمَين فقط بل المجموعة بأكملها. إبتسَمتُ وقلتُ لهم:

 

- أظنّ أنّنا سنقضي يومًا مُمتعًا سويًّا.

 

لَم يأتِ الأستاذ كمال في ذلك اليوم أو في الأيّام التالية، ولأنّني لَم أكن أملكُ رقم هاتفه أو عنوانه طلبتُ تلك المعلومات مِن المدير، فكان مِن الواضح أنّه الذي سمَحَ له بحضور حصصي أو معرفة موضوع الرحلة. تفاجأتُ كثيرًا عندما ابتسمَ مديري وقال لي:

 

ـ لا بدّ أنّكَ كنتَ تلميذًا مميّزًا لدى الأستاذ كمال، فهو صديق عزيز عليّ وعندما علِمَ بأنّكَ مدّرس هنا، طلَبَ منّي خدمة... غير إعتياديّة.

 

ـ تقصد حضور حصَصي؟

 

ـ هذا... وأيضًا وضع توأمَين في صفّكَ.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ أجل... إسمع ما سأقوله لكَ جيّدًا... التعليم ليس مهنة بل رسالة، وعلى الأستاذ أن يُعطي كلّ ما لدَيه لتلاميذه وأنّ يتخطّى كلّ العوائق مِن أجل تحضيرهم لِملاقاة العالم ومستقبلهم. لكنّ الأستاذ هو أيضًا إنسان كباقي الناس وليس بطلاً خارق، لِذا عليه أن يتعلّم مِن تجاربه ليرتقي بِرسالته. وهذا ما فعلَه الأستاذ كمال مِن أجلكَ.

 

أخذتُ رقم أستاذي القديم وأسرَعتُ للإتصال به وشكره على الذي فعله مِن أجلي. وقبل أن نُقفل الخط قال لي:

 

ـ أنتَ جاهز الآن... صحيح أنّكَ أضعتَ سنوات عديدة مِن حياتكَ لكنّ الأوان لَم يفت... إفتح قلبكَ وعقلكَ للعالم واستمتع بالحياة فهي هبة ثمينة. مهمّتي إنتهَت معكَ وها أنا أُسلّمُكَ الشعلة. إذهب وغيّر حياة تلاميذكَ إلى الأفضل. أنتَ إنسان مميّز وبإمكانكَ فعل المعجزات.

 

أنا اليوم متزوّج وسعيد في حياتي كزوج وأب. أذهبُ للتدريس كلّ صباح بحماس وسعادة، فمع كلّ شروق، لديّ فرصة لأغيّر العالم إلى الأفضل.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button