محتال مخضرم

عندما وقَعَ نظري على وجدي، شعرتُ على الفور بأنّني أعرفُه مِن قبل. كنتُ قد قرأتُ مرارًا أنّ ذلك الإحساس يعني أنّ الشخصَين مُناسبَين لبعضهما، ويذهب البعض إلى القول إنّ هذَين كانا مُتحابَّين في حياة سابقة. وجدتُ الأمر رومنسيًّا للغاية، لِذا ردَدتُ لوجدي إبتسامته، الأمر الذي حمَله على ترك طاولته والمجيء إليّ. كنتُ أنتظرُ حضور صديقاتي الأربع ووصلتُ قبلهنّ إلى مقهانا المُفضّل.

وقَفَ ذلك الشاب أمامي، وبالرّغم مِن أنّه لَم يكن وسيمًا أو حتى جذّابًا، إلا أنّه حصَلَ على إعجابي الكامل. قال لي:

 

ـ ماذا تفعلُ صبيّة جميلة مثلكِ لوحدها؟ هل فقَدَ الشبّان نظرهم؟

 

ـ هـ هـ هـ... أنتظرُ صديقاتي، ولقد وصلتُ مُبكرًا بعض الشيء.

 

ـ إذًا القدر إلى جانبي، وسأستغلُّ فرصتي هذه لأطلبَ منكِ رقم هاتفكِ قبل أن تصل صديقاتكِ.

 

فكّرتُ لِدقائق طويلة في طلب الشاب، ثمّ أعطَيتُه رقمي لأنّني كنتُ أؤمِنُ بالصّدف الجميلة. هل كنتُ رومنسيّة أكثر مِن اللازم؟ أجل.

عادَ وجدي إلى طاولته بعد أن تبادَلنا أرقام هاتفَينا، وعملتُ جهدي ألا أنظر ناحيته بوجود رفيقاتي كي لا يصل الخبر إلى أبوَيَّ.

فالجدير بالذكر أنّني إبنة وحيدة، أي أنّ أنظارهما واهتمامهما وصرامتهما موجهُة عليّ بشكل مُركّز.

إنتظرتُ مُكالمة وجدي ليومَين كاملَين، وعندما سمعتُ صوته أخيرًا، إمتلأ قلبي بالدّفء. كان هو أوّل شاب في حياتي، أيّ الأهمّ.

صِرنا نتكلّم يوميًّا، إلا أنّني بقيتُ أرفضُ الالتقاء به، فقد خفتُ إغضاب والدَيَّ بالكذب عليهما. لِذا، عادَ وجدي وانتظرَني في ذلك المقهى حين جلستُ مرّة أخرى مع صديقاتي. إبتسَمتُ له بالخفاء، وهو أشارَ برأسه إلى الحمّامات. إستأذنتُ مِن رفيقاتي ووافَيتُه أمام باب الحمّامات في زاوية غير مرئيّة. هناك، أعرَبَ لي عن اشتياقه وتفكيره الدائم بي. وقبل أن أستدركَ الأمر، طبَعَ وجدي قبلة خاطفة على شفتيَّ وركَضَ يجلسُ إلى طاولته. بقيتُ واقفة حالمة بأوّل قبلة ليّ لدقائق طويلة.

 


لَم أنَم قط في تلك الليلة، وأنا استذكرُ قُبلتنا الأولى. وحين غلَبَني النوم أخيرًا، كانت بسمة عريضة مُرتسمة على وجهي. كنتُ على ما يبدو إحدى المحظوظات اللواتي وجدنَ الحبّ مِن أوّل مُحاولة.

وصارَت مكالماتي مع وجدي أكثر حميميّة، أيّ أنّه أخبرَني أنّه ينتظرُ بفارغ الصّبر لحظة أصيرُ زوجته ليُعبّر لي فعليًّا عن حبّه الكبير لي، وأنا بدأتُ أتصوّرُ ليلتنا الأولى كزوجَين. لكن بعد فترة قصيرة، أعرَبَ وجدي لي عن قلقه حيال مشاعري تجاهه، فحسب قوله، لَم يرَ أيّة مبادرة منّي تطمئنُه، بعد أن بقيتُ مُصرّة على عدَم مُقابلته على انفراد. إتّهمَني بأنّني أتلاعبُ بقلبه المسكين أو أنّ هناك شخصًا آخر في حياتي. إستنكرَتُ عاليًا، ومِن ثمّ قبِلتُ برؤيته. أعرفُ تمامًا ما تقولونَه عنّي الآن، أيّ أنّني فتاة ساذجة على وشك الوقوع في فخّ محتال مُخضرم. وأنتم تمامًا على حقّ.

إلتقَيتُ بوجدي في مقهى بعيد عن الأوّل، وقد استقلَّيتُ سيّارة أجرة للوصول إلى هناك. جلستُ بالقرب مِن حبيبي في ذلك المكان المُظلم. نظرتُ إلى الطاولات مِن حولنا، وبالرّغم مِن الظلام، إستطعتُ رؤية أناس آخرين أو بالأحرى عُشّاقًا يتبادلون القُبَّل وأكثر مِن ذلك أيضًا. شعرتُ بِخجل كبير، وحين ابدَيتُ انزعاجي لوجدي بما يخصّ اختياره للمكان والذي يجري فيه، قال لي ضاحكًا:

 

ـ تُعجبُني براءتكِ... وهي بالذات ما شدّني إليكِ... هؤلاء الناس مُتحابّون.

 

ـ ولماذا الظلمة؟

 

ـ لأنّ مُعظمهم مثلنا، يختبئ مِن أعيُن الناس. وهناك مَن هم مُتزوّجون ولا يُريدون فضح علاقتهم غير الشرعيّة.

 

ـ صحيح أنّني لا أريدُ أن يعرفَ أهلي بالتقائي بكَ، إلا أنّني لا أفعلُ شيئًا فظيعًا لدرجة الجلوس في مكان كهذا.

 

ـ ربّما ليس بعد.

 

وقبّلَني وجدي مرّة أخرى، إلا أنّني لَم أستمتع بالقبلة كالمرّة السابقة، بل ابتعدتُ عنه قائلة:

 

- لستُ كهؤلاء النساء... أريدُ الرحيل!

 

ركضتُ باكية خارجًا، ووقفتُ عند زاوية الشارع لإيقاف سيّارة أجرة والعودة إلى البيت. أمِلتُ طبعًا أن يلحق بي وجدي للاعتذار منّي ومواساتي بعدما بدأتُ بالبكاء، إلا أنّه بقيَ في الداخل، الأمر الذي أثارَ استغرابي. لِذا، نسيتُ موضوع التكسي وراقبتُ مدخل المقهى وساعتي. وبعد أكثر مِن ساعة على هذا النحو، رأيتُها.

ركنَت صديقتي رنا سيّارتها أمام المقهى، وخَرَجَت منها مُرتدية ملابس غير لائقة. لَم أحسب حساب رؤيتها في مكان كهذا، خاصّة أنّها كانت تشدّدُ كثيرًا على سمعتها، وتقضي مُعظم وقتها بالصّلاة وحفظ تعاليم الله. إنتظرتُ حوالي الربع ساعة ودخلتُ المقهى. وبعد أن تعوَّدَ نظري على الظلمة، إستطعتُ رؤية رنا بصحبة وجدي، أو بالأحرى وهي تقبّلُه بِشغف. كدتُ أصرخُ لشدّة مفاجأتي وغضبي، فقد حسبتُها جاءَت للقاء أحد ما ولكن ليس حبيبي. عدتُ إلى البيت وقلبي ينزفُ، وبقيتُ في غرفتي طيلة يومَين. عندها استوعَبتُ لماذا وجه وجدي كان مألوفًا عندي، فلا بدّ أنّني رأيتُه قبل ذلك في المقهى حيث أجلسُ مع صديقاتي، حين كان ينتظرُ رنا.

 


وعندما نشَفتُ دموعي، إتصَلتُ بِرنا لأقول لها إنّ الشاب الذي سلّمَت نفسها له كان يُريد فعل الشيء نفسه معي، و ادّعى أنّه يُحبُّني. لكنّ ردّة فعلها لَم تكن كما توقّعتُ، بل هي بدأَت بالصّراخ عليّ واتّهمَتني بأنّني لست فقط أتجسّسُ عليها بل حاولتُ أخذ حبيبها منها. حاولتُ جهدي لإفهامها أيّ نوع مِن الرجال هو وجدي، وأنّه لا يُحبّها بل يستغلُّها، إلا أنّ رنا بقيَت على موقفها العدائيّ منّي. حزنتُ كثيرًا لفقدان صديقة عزيزة عليّ بسبب إنسان بلا اخلاق، لِذا التجأتُ إلى باقي صديقاتي مُلتمسةً النصيحة منهنّ، مِن دون أن أخبرهنّ بأنّني رأيتُ رنا في ذلك المكان البشع تقبّلُ حبيبها، بل اكتفَيتُ بالقول إنّ شابًّا تلاعَبَ بنا نحن الاثنتَين وإنّ رنا ظنَّت أنّني سرقتُه منها عمدًا.

عند استماعهنّ لي وأنا أروي ما جرى، سادَ السكوت بين صديقاتي. ولَم أفهَم لماذا إلا حين بدأَت احدهنّ بالبكاء وتلَتها الثانية ثمّ الثالثة. واتّضَحَ لي أنّ وجدي كان قد أغرى جميعنا، الوحدة تلوى الأخرى، إلا أنّني كنتُ الوحيدة التي لَم تدَعه يلمسُها، ليس لأنّني أكثر حكمة مِن الباقيات، بل لأنّ وجدي لم يتسنّ له الوقت الكافي لإقناعي. فالفتيات في سنّنا تنقصهنّ الخبرة في الحياة، وما هو أهمّ، الجرأة الكافية لرفض شاب كهذا. واكتشَفنا جميعًا أنّ وجدي كان يوهمُ كلاً منّا بأنّه يأتي إلى المقهى لرؤيتها، وأنّه يُحبُّها ويُريدُ التأكّد مِن حبّها له فعلاً، أي بالاستسلام له. إلا أنّ أيًّا منّا لَم تخسَر أغلى ما لدَيها. لكن كان هناك أفظع مِن ذلك.

فبعد أن أخبَرنا بعضنا بالذي يجري، بقيَ أن تعرف رنا الحقيقة، لذا دَعَتها صديقاتي إلى بيت إحداهنّ بعد أن أكّدَت لها أنّني لن أكون موجودة بسبب ارتباط عائليّ. بالطبع كنتُ أنا موجودة مختبئةً في إحدى الغرف بانتظار مجيئها. وحين صارَت رنا داخل البيت، ظهرتُ فجأة صارخة:

 

- لستُ خائنة، بل ضحيّة وجدي شأننا جميعنا. لقد تلاعَب بمشاعرنا كلّنا، ووقَعنا في فخّ إنسان وسخ لا ضمير له. عندما أفكّر أنّه ليس وسيمًا أو حتى مميّزًا وأنّه أوقَعَ بخمس بنات في حبّه، أدركُ مدى جهلنا، وما هو أهمّ، تعطّشنا للحبّ والحنان، أو حتى لمَن يُصغي إلينا. يُمكنكِ الرحيل إليه الآن، وإعطاؤه ما يسعى إليه، أو الاستماع إلينا وتصديقنا.

 

بدأَت رنا بالبكاء وتمتمَت:

 

- لقد فات الأوان

 

بكينا معها، وبكينا مِن أجل فتاة خسَرت شرفها مع شاب بلا ضمير لا ولن يُحبّها يومًا. وبعد حوالي الساعة، عندما استطاعَت رنا التكلّم، قالَت لنا إنّ ذلك الوحش يملكُ صورًا لها وله بأوضاع حميمة في ذلك المقهى المُقزّز الذي اصطحبَني إليه، وإنّه يبتزُّها منذ فترة. وهي بالتالي مُجبرة على فعل ما يُريدُه منها وأن تلبس له ثيابًا خاصّة.

فجأة صرختُ فيها:

 

- إنّه يكذب! لقد ذهبتُ إلى ذلك المكان ولا يُمكنُ لأي لأحد أخذ صور لكثرة الظلمة!

 

لكنّ إحدى صديقاتي أجابَت:

 

ـ هناك الكاميرات الليليّة ذات الأشعة تحت الحمراء!

 

ـ لا أظنّ أنّ وجدي مجّهَز بهكذا تكنولوجيا، فهو لا يملكُ المال الكافي لاستئجار غرفة في فندق لأخذ ضحاياه إليها. لا، إنّه يُخيفُ رنا فقط.

 

ـ وماذا لو كانت هناك فعلاً صوَر لِرنا معه؟ كيف نُجازف بِشرفها؟

 

ـ المُجازفة بِشرفها قد حصلَت. ولكن هل يُعقل أن تبقى رهينة له مدى حياتها؟ إلى جانب ذلك، إن ظهرَت تلك الصوَر، فسيكون مُتضرّرًا أيضًا.

 

ـ كيف ذلك؟

 

ـ دعوا الأمر لي.

 

إتّفقتُ مع صديقاتي على أن نُعطي جميعنا موعدًا لوجدي في مقهانا المُعتاد. وعندما وصل، قمتُ مِن مكاني ورحتُ أجلسُ معه. تفاجأ كثيرًا وقال:

 

ـ ماذا تفعلين؟ عودي لمكانكِ! ستعرفُ صديقاتكِ بأمرنا!

 

ـ أريدُهنّ أن تعرفنَ... فحبّي لكَ أكبر مِن أن يبقى في الخفاء.

 

ـ إذًا سأرحلُ أنا، وسوف أكون مَن يُحافظ على سمعتكِ.

 

ـ بل ستبقى مكانكَ أيّها الكاذب والغشّاش والمبتزّ!

 

إستدَرتُ نحو صديقاتي وأومأتُ إليهنّ بأن تجلسنَ معي إلى طاولة وجدي. ومِن ثمّ قلتُ له:

 

ـ تقولُ إنّ بحوزتكَ صورًا فاضحة لِرنا؟

 

ـ أجل!

 

ـ أرِنا إيّاها! للحقيقة، لا أصدّقُكَ! وإن كنتُ مُخطئة، فأنا أكيدة مِن أنّكَ لن تستعمِلُها.

 

ـ وما الذي يُؤكّدُ لكِ ذلك، يا شاطرة؟

 

ـ لأنّ القانون يُعاقبُ المُبتزّين والكذّابين والذين يسرقون شرَف البنات. لحظة ما تظهرُ أيّة صورة، سندّعي جميعنا عليكَ. صحيح أنّ الناس ستتكلّم عن رنا، لكنّهم سينسون قصّتها فور ظهور قصّة مشوّقة أكثر. أمّا أنتَ، فستكون في السجن. وحتى بعد أن تخرج منه، سيكون ذلك مدوّنًا على سجلّكَ إلى الأبد. فمَن الخاسر الأكبر... يا شاطر؟

 

نظَرَ وجدي إليّ بخوف شديد وكأنّه يرى أمامه وحشًا. كدتُ أبتسمُ لذلك المشهد إلا أنّني تماسكت. وتمتمَ وجدي:

 

- ليس لديّ صوَر على كلّ حال

 

وخرَجَ ركضًا مِن المقهى... ولَم نرَه أو نسمَع عنه بعد الآن.

علِمنا لاحقًا أنّ رنا لَم تخسر شرفها بعد أن ذهبَت إلى طبيبة نسائيّة، فأرتاح قلبنا. ويا لَيت كان أهلنا أقرب إلينا، لكانوا أخبرونا عن الحياة بدلاً مِن أن يجعلوا بقمعهم كل شيء مرغوبًا. يا لَيتهم كانوا أصدقاء لنا، لِنحكي لهم كلّ ما يحصلُ لنا ونستمع إليهم ولِنصائحهم. صحيح أنّنا تجنّبنا مصيبة كبيرة، لكن ماذا كان سيحصل لو تمكّنَ وجدي فعلاً منّا؟ مَن كان سيُلام؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button