مثل طائر الفينيق

قد تحكمون عليّ وتنعِتوني نعوتًا بشعة، لكنّ ظروف الناس، خاصّة النساء، تكون أحيانًا أقوى مِن بعض القيَم والمبادئ. وكَوني أمًّا هو الذي دفعَني إلى القيام بتلك العلاقة، فكلّ شيء يهون أمام صرخة جوع طفل يتيم الأب. فزوجي ماتَ بحادث سَير وتركَني وإبني الرضيع نتدبَّر أمرنا. كان المرحوم فقيرًا شأني وشأن كلّ الذين يُحيطون بي. فالفقر موجودٌ يا ناس، ومَن يُعاني منه ليس كمَن يتفرّج عليه.

وجدتُ عملاً في أحد المصانع كعاملة بسيطة طبعًا، فليس لدَيّ خبرة بشيء أو شهادة ما. ففي عائلتنا، البنت مُخصّصة للطهو والتنظيف ولا تستحقّ أن يُصرَف على تدريسها أيّ قرش. زوّجوني بسرعة لأوّل عريس جاءَ ليتفرّغوا لتزويج باقي بناتهم. لماذا يُنجِبُ الفقراء أولادًا عديدين لا يسعُهم تربيتهم كما يجب؟ لغزٌ لَم أجِد له جوابًا حتى اليوم.

راتبي في المصنع كان كافيًا إمّا لإيجار البيت أو لشراء الحليب والحفاضات لإبني الذي كنتُ أضعَه خلال النهار عند ذويّ الذين قالوا لي، بكلّ وضوح، إنّهم لن يصرفوا عليه قرشًا واحدًا. إلى جانب ذلك، هم رفضوا أن أتركَ بيتي لأعيش معهم وإبني بصورة دائمة، فالمكان لا يتّسعُ لنا جميعًا.

إحترتُ بأمري وكنتُ أقضي وقتي بالبكاء أسألُ نفسي لماذا جئتُ إلى الدنيا. هل لأتعذّب وأشقى؟

وفي تلك الفترة الصّعبة بالذات، بدأَ صاحب المصنع يتقرّبُ منّي بشكل ملحوظ لدرجة أنّ الأمر باتَ محطّ نقاش العاملات اللواتي صِرنَ يتهامسنَ حولي، إلى أن قالَت لي إحداهنّ:

 

ـ جاء دوركِ يا جميلة!

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ السيّد مدحَت يُلقي بشباكه عليكِ... لا تقولي لي إنّكِ لَم تُلاحظي شيئًا! هو سئِمَ منّا وأنتِ وجهٌ جديد هنا، فالأمر طبيعيّ.

 

ـ ما هذا الكلام؟

 

ـ لا تتعالي علينا مِن فضلكِ! لستِ أفضل منّا!

 


ـ معاذ الله! لَم أقصد الإهانة لكن...

 

ـ إسمعي، الخيار خياركِ... إن كنتِ بحاجة إلى رعاية رجل، فاقبلي به. أنا رفضتُه لكن هناك مِن قبِلَ معه.

 

ـ قبِلَ بماذا؟

 

ـ يا لبراءَتكِ! قبِلَ بإقامة علاقة معه.

 

ـ لكنّه مُتزوّج وله أولاد! والعلاقات خارج الزواج أمرٌ مُحرَّم!

 

ـ الحياة هي عبارة عن عرض وطلَب والقرار هو قراركِ، لكن إحترسي، فالسيّد يملُّ بسرعة.

 

في تلك اللحظة، أقسمُ أنّني لَم أتخيّل أبدًا أن أقبلَ بإقامة علاقة مع السيّد مدحَت، لكنّ الدنيا تلعبُ بنا كما تشاء. هل كان لي حريّة القرار كما قالَت لي زميلتي؟ نعم ولا. كان بإمكاني الرفض ويجوع ولدَي أو أُرمى في الشارع... وهي صورة داكنة للغاية لشابة وأمّ مثلي.

إشمأزَّيتُ لأقصى درجة مِن لمسة ذلك الرجل الذي يستغلُّ فقر عاملاته وكأنّه في حريم كبير هو سلطان عليه، وكرهتُ نفسي. لكن بالمُقابل، هو دفَعَ لي ضعف راتبي وأهداني بعض الأمور التي كنتُ بحاجة إليها.

علاقتي مع باقي الفتيات في المصنع تأثّرَت بذلك، فهنّ اعتبرنَ أنّني صِرتُ أتشاوَف عليهنّ والبعض نظَرَ إليّ نظرة تحقير. تحمّلتُ الوضع مِن أجل إبني لكنّني لَم أكن فخورة بنفسي أبدًا.

بقيتُ على هذا النحو حوالي السنة إلى أن ملَّ منّي السيّد كما تنبّأَت لي زميلتي، فباتَ يتفاداني وعادَ راتبي كما كان. للحقيقة، لَم أزعَل بل أرتحتُ منه لكنّني صرتُ أنزعجُ مِن تلميحات العاملات، فقرّرتُ أنّ مِن الأفضل تَرك المصنع بعد أن استطعتُ وضع بعض المال جانبًا. لكنّ المبلغ لَم يكن كافيًا إلا لشهر أو إثنَين على الأكثر، فصلَّيتُ لأجد عملاً آخر بسرعة.

في تلك الأثناء، تزوّجَ أخي وجلَبَ زوجته إلى البيت الأهليّ، فقالَت لي أمّي بعد أن علِمَت بحَمل كنّتها الجديدة، إنّه لَم يعد هناك مكان عندها لإبني وعليّ أخذه إلى مسكني. وكيف لي أن أهتمُّ به إلى حين أجدُ عملاً؟ بكيتُ كثيرًا لأنّ أهليّ لَم يكونوا يهتّمون لمصيري وكأنّ لي ذنبًا بموت زوجي. فبنظرهم لَم يعودوا مسؤولين عنّي مِن لحظة تزوّجتُ، مهما يحصل لي بعد ذلك. وأنا مُتأكّدة مِن أنّ معظم مَن سيقرأون قصّتي لدَيهم عائلة مُحبّة شبعوا مِن حنانها ولن يفهموا تمامًا ذعري مِن الذي ينتظرُني في كلّ لحظة. فالإنسان مِن دون سنَد كمَن يعيشُ باستمرار في بيت بِلا سقف.

لِذا بقيتُ في المصنع بالرّغم مِن الأجواء البشعة التي أحاطَتني، آملةً أن تتغيّر أحوالي بأيّ شكل كان، وأقنَعتُ أمّي بأن تُبقي إبني عندها إلى حين تلِدُ زوجة أخي.

في تلك الفترة بالذات تعرّفتُ إلى مازن، سائق أجرة لطيف كان يقلّني وإبني حين أقصدُ العيادة لمُعاينة صغيري. بعد فترة، أعرَبَ ذلك الشاب عن رغبته بالزواج منّي واعتبار إبني وكأنّه منه. إمتلأَ قلبي بالأمل، هل يعقَل أن يكون القدَر قد قرَّرَ أخيرًا إنصافي؟ قبلتُ بسرعة قبل أن يُغيّر عريسي رأيه.

عشنا مع مازن في بيت صغير للغاية، وأقنعَني زوجي الجديد بترك عمَلي، فهو قادر على الإعتناء بنا بنفسه. لبستُ دور الزوجة والأمّ بطيبة خاطر وفكّرتُ جدّيًّا بإعطاء مازن ولدًا.

لكن بعد أشهر قليلة على زواجنا، صارَ زوجي صعب المزاج ويقضي معظم وقته خارج البيت. ووصَلَ الأمر به لِعَدم لمسي، على خلاف عادته. وعندما سألتُه عمّا يُزعجه، صاحَ بي:

 


ـ أفكّر بالتخلّص منكِ ومِن إبنكِ!

 

ـ لماذا يا حبيبي؟!؟ ما الأمر؟ ماذا فعلنا لازعاجكَ؟

 

ـ علِمتُ مِن أحد أنّكِ إمرأة سهلة! هذا هو السبب! كنتِ عشيقة صاحب المصنع!

 

حاولتُ أن أشرَح له الظروف التي حملَتني على القبول بتلك العلاقة، لكنّه لَم يأبَه حتى لسماع تفسيراتي. طلبتُ منه الترّيث والتفكير مليًّا بما سيحصلُ لي ولإبني إن رمانا خارجًا، مِن دون أن يكون لنا مسكن أو عمل. ولكثرة بكائي وتوسّلاتي، قبِلَ مازن بإعطائي بعض الوقت لأتدبّر أموري.

تمنَّيتُ لنفسي الموت، ولولا صغيري لأنهَيتُ عذابي وارتحتُ مِن حياتي البائسة. لماذا يولَد البعض منّا في الفقر بينما ينعم آخرون بالمال والراحة؟ معاذ الله أن يكون الخالق غير عادل ويلعبُ بنا ليتفرّج على بؤسنا؟ ماذا فعلتُ لأستحقّ ما يحصل لي؟ هل كان يجدرُ بي ترك إبني يموتُ جوعًا أو أن أعيشَ في الشارع لأنّ الذين جاؤوا بي إلى الدنيا لا يليقُ بهم لقَب أهل؟ صحيح أنّني عاشرتُ رجلاً خارج نطاق الزواج، لكنّ عقابي لا يجب أن يكون بهذه القساوة!

وحصَلَ أن وقَعَ مازن ضحيّة حادث وهو يقطع الطريق، الأمر الذي أجبرَه على الجلوس على كرسيّ مُتحرّك لمدّة غير مُحدّدة. لَم يكن مشلولاً كليًّا لكن شفاءه كان طويل الأمد ويتطّلبُ عناية كبيرة.

أُصيبَ زوجي بكآبة لا مثيل لها، فعملتُ جهدي للتمويه عنه وقضيتُ وقتي أهتمُّ به مِن كلّ قلبي، فلقد أحببتُ ذلك الشاب فعلاً. لكنّ المال قرُبَ أن ينفذ. عندها خطَرَ ببالي أمرٌ أنقذَنا كلّنا.

قصدتُ مكتبًا لتعليم السواقة وطلبتُ مِن الرجل تعليمي مُقابل خاتم الزواج الذي أهداني إيّاه مازن. لَم أتصوّر أن أكون تلميذة بهذه المهارة، فلقد صِرتُ أجيدُ القيادة بغضون أيّام وبشكل مُمتاز. تمرَّنتُ سرًّا على سيّارة مازن إلى أن تمكّنتُ مِن السيطرة التّامة على المركبة. وبقيَ لي أن أحصل على رخصة سَير لكنّ المبلغ المتوجَّب كان كبيرًا. لِذا قرّرتُ جَمع المال وبسرعة. أوكلتُ زوجي بالإهتمام بإبني بينما درتُ على أهالي المبنى والحَي أعرضُ عليهم توصيل الفتيات والسيّدات في نطاق المنطقة كي لا توقفني الشرطة وتكتشف أنّني لا أملكُ رخصة قيادة. فرِحَت السيّدات بمشروعي، فالكثيرات منهنّ لا تُحِبّ الركوب مع سائق وتخاف على بناتهنّ.

وحين أخبرتُ زوجي بما فعلتُ، رأيتُ الفخر في عَينيَه، الأمر الذي شجّعَني أكثر على العمل. جمعتُ ثمَن الرخصّة مِن التوصيلات ورحتُ لأُجري الفحص... ونجحتُ به. كنتُ قد أصبحتُ جاهزة للإنطلاق بالعمَل مِن دون خوف!

بدأ مازن بالتحسّن يومًا بعد يوم لكنّه ظلَّ غير قادر على القيادة. وبقاؤه طوال الوقت مع إبني حملَه على حبّه والتعلّق به بشكل قويّ وكأنّه مِن لحمه ودمه. شيء آخر حصَلَ مع زوجي، فهو رأى كيف أنّني أخذتُ زمام الأمور بيدَيّ وأنقذتُه مِن حالته، بينما كان بإمكاني تركه في وضعه الصعب وإيجاد رجل آخر، لكنّني اهتممتُ به ودفعتُ ثمَن علاجه وساعدتُه للخروج مِن كآبته نفسيًّا وجسديًّا.

بعد حوالي السنة، إستطاعَ مازن أخيرًا الركوب في سيّارته والعمل مُجدّدًا. للصّراحة، خفتُ أن يستغني عنّي بعدما صارَ قادرًا على تدبير أموره بنفسه، إلا أنّه قال لي:

 

ـ لن أشكركِ كفاية على الذي فعلتِه مِن أجلي. وكَم أنا خجِلٌ مِن نفسي على إهانتي لكِ سابقًا. أنتِ إمرأة عظيمة يتمنّاها كلّ رجل، لكنّك لم تكوني تُدركين إمكاناتكِ حين عاشرتِ ذلك الرجل فاخترتِ ربمّا الحلّ الأسهل. أُحبّكِ... وأُحبّ ذلك الولد إلى أقصى درجة وأُريدُكما معي إلى الأبد. لا داعٍ لأن تعملي بعد الآن.

 

ـ لا بل سأعملُ كسائقة لكن بعدما يدخلُ الصغير المدرسة، فلقد أحببتُ التعامل مع الناس. سأقودُ السيّارة في النهار وأنتَ في الليل إلى حين نجمعُ ما يكفي لإيجاد مسكن أكبر وأفضل. أريدُ إعطاء ولدي...

 

ـ ولدنا!

 

ـ أريدُ إعطاء ولدنا أجمَل حياة كي لا يضطرّ يومًا إلى اذلال نفسه كما حصَلَ لي!

 

وفهمتُ أنّ الله لا يُريدُنا أن نستسلم بل أن نبحثَ في داخلنا عن القدرات التي أعطاها لنا لنستحقّ السعادة. فما أجمَل مِن أن نشعر بثمرة تعبنا ونستمتع بها. لا تفقدوا إيمانكم بالله وبنفسكم، فالأمل دائمًا موجود!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button