ماتَت أمّي مكسورة الخاطر

كانت أمّي مِن الجميلات والمثقّفات وكان الجميع يثني على خصالها الحميدة وحسن تربيتها لنا ومعاملتها المثاليّة لزوجها، لكنّ ذلك لم يمنع أبي مِن خيانتها. وحتى لحظة ما كُشِفَ أمره، كنّا جميعًا نعتقد أنّه رجل مستقيم وخلوق، لأنّه ربّانا على النظام والانضباط وبطريقة عسكريّة وذلك بسبب نوع عمله. وإذ بنا ندرك أنّه لم يخن أمّنا وحسب، بل ثقتنا به وزعزَعَ صورة الأب الفاضل التي كبِرنا عليها.

اكتشفَت أمّي لأوّل مرّة وجه زوجها الحقيقيّ عندما كانت بصحبتنا عند والدتها. اغتنَمَ والدي فرصة غيابنا جميعًا ليجلب إلى البيت عشيقته التي عَرَفها قبل زواجه، ليقيم علاقة معها في قلب سرير أمّي. كانت تلك العشيقة تعمل كممّرضة لدى جدّتي أمّ أبي التي كانت آنذاك على شفير الموت وتحتاج إلى رعاية طبيّة.

وعند عودة أمّي إلى البيت، لم تتأخّر جارتنا لإخبارها أنّ امرأة جاءَت إلى المنزل بصحبة أبي، وأنّهما لم يخرجا إلا عند الصباح. ومِن المواصفات التي أعطَتها لها الجارة، استطاعَت أمّي التعرّف إلى الممرّضة.

وبالطبع لم تتقبّل أّمي هذا الكم مِن الوقاحة مِن قِبَل زوجها، فأخبَرَت أهلها بالأمر وتَرَكَته، ووصَلَ الأمر إلى أمام قاضي الأسرة.

وتوسَّلَ أبي أمّي وأهلها وبكى كالطفل لينال مسامحتها. وفي اندفاع شجاع، طلَبَت أمّي منه أن يكتب لها بيتنا الكبير الذي كان ثمرة تقشّف كبير طوال مدّة كبيرة. لكنّ أبي لم يكن مِن الذين يتنازلون عن شيء، فبعد أن حصَلَ على مسامحة أمّي عادَ إلى طبعه السلطَويّ وعادَ عن وعده بالبيت.

ومنذ تلك اللحظة، بدأَت أمّي تذوب شيئًا فشيئًا. فلم تفقد ثقتها نهائيًّا بأبي وحسب، ولكنّها أدركَت أيضًا أنّ حياتها لم يعد لها طعم. وبالطبع كانت المسكينة تبكي بعيدًا عن الأنظار طوال الوقت، خاصّة عندما كانت تسمع قصص عن زوج خان زوجته فتركض إلى الحمّام لتخفي دموعها. ولكنّ عَينَيها الحمراوَين كانتا تفضحها دائمًا.

 


إلى أن توفَّيَت بعد سنة ونصف. وفي لحظاتها الأخيرة، بينما كانت محاطة بنا، همستُ لها بأذنها على أمل أن تسمع كلماتي: "لا تخافي يا أمّي... البيت مليء بأحبّائكِ ولقد أتممتِ واجباتكِ الدينيّة كلّها... نحن معكِ يا حبيبتي". ثم جاءَ دور أخي الصغير الذي قال لها: "الله يرحمكِ يا أمّي ويُدخلكِ الجنة". عندها فتحَت عينَيها بِصعوبة وقالت:"آمين".

وكان أخي الصغير هو محبوبها، وقبل وفاتها أوصَتني به شخصيًّا، وجعلَتني أعدها بألا أسمح لأبي أو أخي الكبير بمضايقته. وأوصَت أمّي زوجها بألا يأتي بامرأة إلى البيت مِن بعدها كي لا يتشتَّت شمل العائلة، مضيفة أنّ ذلك شرطها لمسامحته. ونادَت عاليًا امرأة كانت موجودة واسمها علياء التي كانت أرملة صديق مقرّب مِن أبي. وحين اقتربَت تلك الأخيرة منها، همَسَت والدتي في أذنها شيئًا لم نعرف فحواه حتى اليوم. ودخَلت أمّي في غيبوبة عميقة بعد يومَين، ومِن ثم فارقَت الحياة إلى دار البقاء.

بكى أبي عليها كالطفل، وأقامَ لها جنازة مهيبة حكى عنها سكّان المدينة لمدّة طويلة، وشعَرَ الناس أنّهم خسروا امرأة شابة ونشيطة ومتفانية لعائلتها.

وبعد شهرَين، جفّت دموع والدي وركَضَ يتزوّج مِن جديد مِن علياء نفسها التي كانت على علاقة به منذ وقت طويل. ولكنّ تلك العلاقة لم تكن سرًّا إلا علينا، فالكلّ كانوا على علم بها لأنّ أبي لم يكن يخجل مِن الظهور بصحبة عشيقاته، بالرّغم مِن سمعتها السيّئة، وكونها ضُبطَت في بيت للدعارة، وطلقها زوجها الأوّل وتزوّجَت ثانية مِن زوج صديقتها الذي أفلسَته لاحقًا قبَيل موته.

هذه هي المرأة التي اختارَها والدي لتحلّ مكان أمّي الطاهرة. ولم يكتفِ بذلك وحسب، بل كتَبَ لها المنزل واشترى لها قطعة أرض وأهداها الذهب. ناهيكَ عن راتبه الكبير الذي كانت تأخذه كلّه لتترك لنا منه بضعة قروش.

واستحوذَت علياء على عقل وعاطفة أبي، وأصبحَت هي حياته ونحن أعداءه، حتى أخي الصغير الذي أوصَته به أمّي. وفضَّلَ والدي المرأة العاهرة والأميّة على أولاده الطيّبين والخَلوقين وحامليّ الشهادات. وسكَنَ مع زوجته في المنزل الذي أهداها إيّاه وسكنّا في القسم الأسفل، ولا أذكر أنّه باتَ ولو ليلة واحدة معنا خلال تسع سنوات أو اشترى لنا الأضاحي أو الملابس. كانت أختي الكبيرة هي التي تتكفّل بذلك بفضل عملها في أحد البنوك.

وانعزَلَ والدنا عنّا ليعيش مع علياء وكأنّنا لم نكن موجودين.

 


أمّا بالنسبة إليّ، فقد أغرمتُ بشاب سرَقَ قلبي وعقلي. وبدأنا نؤسّس لحياتنا المستقبليّة سوّيًا لينال بعد فترة مركزًا مرموقًا في شركة ضخمة وتزوّجنا وأنجبنا طفلة جميلة. ولكنّ والدته لم تتقبّلني يومًا لأنّها لم تختَرني بنفسها كما فعَلَت مع باقي أولادها، لذا اصطدَمتُ بمشاكل عائليّة مؤلمة. ولكنّني لم أسمح لتلك المشاكل بأن تؤثّر على العلاقة المميّزة الموجودة بين ابنتي وأبيها بعدما ذقتُ الأمرّيَن مِن بُعد والدي عنّي. فالجدير بالذكر أنّ أبي لم يحضر فرَحي، وكانت الدمعة عالقة في عينيَّ طوال الزفاف لأنّني أتزوّج مِن دون وجود والدَيَّ. يا للشعور البشع الذي لا يزال يحفر في قلبي حتى اليوم!

ولأنّنا خضنا تجارب أليمة سويًّا، حافظتُ على الرّابط الأبديّ الموجود بيني وبين أخوَتي وأخواتي، على عكس أخي الكبير الذي نسيَنا حالما تزوّج، كما يحصل مع مَن ينصاع لزوجته ويترك ماضيه وراءه.

ما الذي حصَلَ لأبي بعد كل الذي فعَلَه مِن أجل علياء؟ هجَرَته وعادَت إلى منزل أهلها حيث مكثَت ستة أشهر محتجّة بمرض أمّها. ولِشدّة كبريائه، لا يعترف والدي بتركها له، بل يُردّد لِمَن أرادَ سماعه أنّ "المسكينة تهتمّ بوالدتها المريضة". ولكنّ الجميع يعلم مِن ملابسه ونحالة جسمه أنّها تركَته وأنّه يُعاني بصمت.

لم نحزن عليه كثيرًا فهو الذي جنى على نفسه. كان لدَيه زوجة جميلة تشغل منصبًا رفيعًا قبل أن يمنعها مِن العمل، واستبدلَها بأخرى لا تعرف معنى الحب أو حتى الشَرَف. اختار أسوأ إنسانة يُمكنه إيجادها بالرّغم مِن معرفته بماضيها. كان يعلم أنّها أخَذَت أموال اللذَين سبقاه، وعاشَت حياة انحلال خلقيّ إلى أقصى الدّرجات، وبالرغم مِن ذلك أعطاها اسمه ورزقه وحرمنا نحن أولاده. هل أرغمَته على ذلك باستعمال أساليب لا تعرفها سوى امرأة مِن نوعها، أم أنّه لم يكن منذ البداية الأب الذي وثقنا به وتطلّعنا إليه بفخر واعتزاز؟

مسكينة أمّي... ماتَت مكسورة الخاطر، ولم تعش الحياة التي تليق بها ولم يتسنّى لها أن تفرح بنا. وكلّما أرى فتيات برفقة أمّهاتهنّ، تدمع عَينايَ وأترحَّم على التي أعطَت حياتها للرّجل غير المناسب. وأسأل نفسي مرارًا إن كانت والدتي تعلم حقيقة أبي منذ البدء، أو أنّها اكتشفَت حبّه للنساء لاحقًا. وإن كان الجواب الأخير هو الصحيح، فإنّ ذلك يعني أنّنا لا يسعنا معرفة أحد معرفة جيّدة، وقد يحصل أيّ شيء في أيّ وقت ويزعزع ما بنَيناه ويهدمه.

لذلك أربّي ابنتي على حبّ أبيها ولكن في الوقت نفسه على التمكّن مِن العيش مِن دونه أو حتى مِن دوني. فمَن يعلم ما يُخبّئه لنا الدّهر، ولا أريدها أن تكبر وفي قلبها الفراغ والضياع اللذان عشتُ معهما.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button