ما وراء طلبات حبيبتي؟

يقال أنّ الحبّ أعمى لَبل يُعمي وأوافق على هذه المقولة بعد أن وقعتُ ضحيّة حبّي لتلك الفتاة التي لم تتردّد على إستغلال مشاعري تجاهها بطريقة لم أتصوّرها موجودة. والجدير بالذِكر أنّني لستُ ولم أكن يوماً إنساناً مغفّلاً بل يشهد الجميع بأنّني موزون وأتحلّى بمنطق سليم ورصين. ولكنّني وقعتُ بغرام داليا التي كانت بجمال الزهرة التي تحمل إسمها. وأظنّ أنّ فارق العمر بيننا حملَني على البحث عن جميع السبل لأنسيها أنّني أكبرها بخمسة عشر سنة ونيّف. وكانت تلك الفتاة مِن عائلة متوسّطة الدخل أقرب إلى الفقر مِن الثراء أمّا أنا فكنتُ أجني الكثير بفضل سلسلة محلات الحلوى التي كنتُ أملكها في أنحاء البلاد. وكنتُ قد ورثتُ هذه المهنة الجميلة مِن أبي الذي تعلّمها مِن أبيه وكنتُ فخوراً أنّني حملتُ الشعلة وحسّنتُ الأعمال وأصبح إسمنا معروفاً في كل مكان.

وحين دخَلَت داليا مع أمّها لشراء الحلوى شعرتُ بدقّات قلبي تتسارع وبالكاد إستطعتُ الكلام ما أضحكَ الفتاة وحملَها على التحدّث معي لإزالة إرباكي. وما حصلَ لي كان أمراً غريباً خاصة أنّ العديد مِن النساء يدخلنَ يوميّاً المحل ولم يسبق أن وقعتُ في حالة أرباك كتلك. وأسرعتُ في طلب رقم هاتفها بعد أخذ إذن الأم التي كانت تنظر إليّ بإستياء وبعد أن أوضحتُ لها أنّني لستُ مِن الرجال الذين يلهون مع بنات الناس. وهكذا حصلتُ على موافقة صاحبة القرار وعلى رقم الهاتف. وإتصلتُ بداليا بعد ساعة كي أتحدّث إليها بعيداً عن أمّها وتبادلنا بعض الكلمات وعلِمتُ عمرها وأنّها في الجامعة تدرس الصحافة وتحب الرقص والقراءة. وسألتُها إن كان سنّي يزعجها فأجابَت أنّها تفضّل الرجال الناضجين على الشبّان لأنّهم يشعرونها بالأمان. وسررتُ لسماع ذلك وأخذتُ وعداً منها بأنّها ستتصل بي ليلاً قبل أن تنام. وفعلَت وكنتُ جدّ مسوراً أن يكون صوتها آخر ما أسمعه قبل أن أخلد إلى النوم.

وهكذا بدأنا نتكلّم عبر الهاتف يوميّاً حتى أن طلبتُ منها أن نخرج سويّاً ونجلس في مقهى أو مطعم. وتقابلنا وأغرمتُ بها أكثر خاصة عندما سمحَت لي أن أمسكَ بيدها حين خرجنا مِن المكان. كنتُ فخوراً بها وأنا أمشي جنبها والناس تنظر إليها بإعجاب وصمّمتُ حينها على أن تكون زوجتي وأمّ أولادي.

 


ولكنّ داليا كانت تريد إنهاء دراستها والحصول على إجازتها بعد سنتَين الأمر الذي أحبَطَني لأنّني لم أكن مستعدّاً للإنتظار كل ذلك الوقت. وحين أطلعتُها على عدم رغبتي في التأجيل قالت لي بكل بساطة: "أذاً علينا الكفّ عن التواصل أنتَ رجل مقتدِر ومِن عائلة معروفة ولن أرضى أن ينظر إليّ أحد نظرة فوقيّة... حتى أنتَ". وفكرة العيش مِن دونها كانت أقوى مِن إرادتي في الزواج منها في الحال فرَضَختُ لرغبتها ووعدتُها أن أكون صبوراً. ولكثرة سرورها على موقفي أضافَت: "سنكون وكأنّنا متزوّجان... ماعدا القسم الحميم طبعاً... أنا لكَ... إلى الأبد... وأنتَ لي." وكم كانت فرحتي لسماع ذلك فلم أتوقّع منها أن تقول تلك الكلمات القويّة المعنى بعد شهرَين مِن تعارفنا فقط.

وبدأتُ أذهب إلى منزلها وأجلس على مائدة أهلها وكأنّني فعلاً صهرهم وأتحدّث مع أخيها الكبير الذي كان جنديّاً في الجيش عندما يكون في مأذونيّة وآخذ معي الهدايا والحلوى لأري الجميع أنّهم أحسنوا الإختيار.

وفي ذات يوم رأيتُ داليا والدموع تملأ عيونها وبعد أن توسّلتُ إليها أن تقول لي ما بها أجابَت:

 

ـ لقد طالبوني بقسط الجامعة وأبي لا يستطيع مواصلة دفع تكاليف دراستي... هل أنت مسرور هكذا؟ لم تكن تريدني أن أدرس وتحقّقَت أمنيتَكَ... أريد أن أموت...

 

ـ لا! لا تقولي هذا! لقد وعدتكِ أن أنتظر وسأوفي بوعدي... سأدفع كل ما يجب... لا تبكِ ولا تتمنّي الموت أبداً... أريدكِ أن تعيشي وطويلاً.

 

وهكذا أصبحتُ أعطي المال لخطيبتي لتكمل حلمها وأزيد المبلغ كي تلبس ثياباً جميلة في الجامعة بعدما أخبرَتني أنّها لم تعد تتحمّل نظرات زميلاتها المؤذية حيال مظهرها. ومرَّت ستّة أشهر على هذا النحو حتى أن ظهَرَ "مرَض" داليا. ففي ذاك يوم عندما كنّا سويّاً نتناول العشاء في مطعم جميل شعَرَت حبيبتي بصداع حاد ودوخة قويّة إضطرِرنا بسببها العودة فوراً.

وإنشغلَ بالي عليها ولكنّها طمأنَتني قائلة: "لا تخف يا حبيبي فذلك يحصل لي مِن وقت لأخر... خاصة عندما أكون تعبة". وتحجّجَت بكثرة دروسها ونسيتُ الأمر حتى أن وقعَت أرضاً أمامي بعد بضعة أيّام. عندها جعلتُها تعِدني بأن تذهب إلى الطبيب وإلاّ أخذتُها بنفسي. نظَرَت إليّ بحزن قائلة:

"يا ليتَني قادرة على ذلك... تعلم كم أنّ تكاليف الأخصّائيين عالية..." وأعطَيتُها فوراً مبلغاً كبيراً مِن المال صارخاً: "لقد إتفقنا أنّنا شبه متزوّجين... ولا أرضى أن تكون زوجتي مريضة ولا تستطيع أن تتعالج... سأتكلّف بكل شيء... لا تبالي".

ذهبَت داليا عند الطبيب الذي طلَبَ لها عدّة فحوصات وصوَر أشعّة وفي كل مرّة كانت تقول لي بخجل كم كانت تريد أن أعطيها. وفي تلك الفترة لم نكن نتقابل إلاّ قليلاً لأنّها كانت نائمة معظم الوقت بعد أن أوصاها الطبيب بالراحة التامة وكانت مكالماتنا قصيرة ونادرة. ولكنّني لم أشتكِ مِن ذلك لأنّ صحّة حبيبتي أهم شيئاً بالنسبة لي. ولأنّها لم تكن قادرة على الذهاب إلى الجامعة كانت داليا تأخذ الدروس مِن صديقتها وزميلتها التي كانت تأتي لها بها وشعرتُ بالفخر بهكذا جهد رغم ظروفها القاهرة. وكي تستطيع والدتها الإعتناء بها إضطّرّت المرأة لترك عملها في المعمل والمكوث جانبها ما أثّر وبشكل ملحوظ على مدخول العائلة الذي كان في الأساس متواضعاً.

 


وكي لا ينقص عليهم شيء بدأتُ بأعطائهم مبلغاً شهرياً يوازي ما فقدوه. وبالرغم مِن أنّ تكاليف حبّي لداليا بدأت تكثر لم أشعر بأيّ إنزعاج لأنّني كنتُ أحبّها جدّاً وأعتبر نفسي مسؤولاً عن راحتها وسعادتها حتى لو تضمّنَ ذلك إسعاد عائلتها أيضاً.

وفي أحد الأيّام ومِن كثرة شوقي لخطيبتي قرّرتُ زيارتها حتى لو كانت نائمة فوجودي بالقرب منها كان سيكون كافياً لإسعادي. ولكن عند وصولي قيل لي أنّها ليست موجودة بالرغم أنّني حين كلّمتُها في الصباح علِمتُ منها أنّها في حالة سيئّة جداً. وأمام إستغرابي قال لي أخوها أنّها ذهبَت مع أمّها إلى المستشفى. وصرختُ مِن الدهشة والقلق وسألتُه عن إسم المستشفى وأسرعتُ باللحاق بهنّ. ولكن عند وصولي إلى مكتب الإستعلامات قالت لي الموظّفة أنّ لا أحد بإسم داليا دخلَ أيّ قسم وأنّ لا بّد أنّني أخطأتُ بالعنوان. وحاولتُ حينها الإتصال بداليا ولكنّ خطّها كان مقفولاً لِذا عدتُ إلى منزل أهلها للإستفسار. وجلستُ مع أخيها أخبره بالحيرة التي أنا فيها وفيما كان يعمل على إطمئناني وصَلت داليا وأمّها وتفاجأَت لرؤيتي عندهم. ونظَرَت إلى أخيها الذي أسرعَ بالقول:

 

ـ قلتُ لخطيبكِ أنّكِ شعرتِ بوعكة وذهبتِ مع أمّي إلى المستشفى وحين لحِقَ بكِ لم يجدكِ... أرى أنّكِ شعرتِ بِتحسّن وعدتِ... أليس كذلك؟

 

ـ أجل... لم نصل إلى المستشفى... عدنا إلى هنا لأنّني فعلاً بأفضل حال.

 

وأظنّ أنّ أيّ إنسان آخر كان رأى الإرباك القويّ الذي كان بائناً على وجه داليا ولكنّني لم أفعل بل ركضتُ أحضُنها وأخذتُها إلى الأريكة حيث جعلتُها تجلس لترتاح. وبعد بضعة دقائق رحلتُ لأتركها تنام قليلاً. ولأنّ الله يحبّني ولا يريدني أن أتعذّب أكثر مِن ذلك توضّحَت لي الأمور بعد فترة ليست طويلة وبفضل صدفة لم تكن لتحدث لولا وقوع هاتفي في المحل وتحطّمه. عندها أسرعتُ بأخذه إلى محل التصليح وهناك عملَ الموظّف على إعادة تشغليه. وعندما إستطاعَ فتحه ظهَرَت صورة داليا على الشاشة الرئيسيّة. عندها قال لي الموظّف:

 

ـ أعرفها... إسمها داليا...

 

ـ أجل... وضعتُ صورتها على الشاشة الرئيسيّة لأرى وجهها الجميل كلّما إستعملتُ هاتفي.

 

ـ لا أظنّ أنّ ذلك سيرضي زوجها.

 

ـ لا! ليست متزوّجة! أنا خطيبها وسنتزوّج حالما تنهي دراستها في الجامعة.

 

ـ أليست تلك داليا م.؟

 

ـ بلى...

 

ـ أنّها متزوّجة ومِن جندي في الجيش... وليست في الجامعة... لقد تركَت الدراسة منذ سنَتَين حين تزوّجَت... تعيش مع زوجها عند أهلها... أعرفهم جيّداً فأبوها هو إبن عمّ أمّي.

 

وجلستُ لكثرة إنفعالي. هل يُعقل أنّني كنتُ مغفّلاً إلى هذه الدرجة؟ المرأة التي كنتُ أواعدها كانت متزوّجة والكل إلاّ أنا كان على علم بذلك؟ والأخ الكبير كان زوجها وأهلها مشتركين باللعبة؟ لقد إستفادوا منّي إلى أقصى درجة فقبضوا ثمن دراسة لا وجود لها ومصاريف طبيّة وهميّة ومعاش الوالدة والهدايا العديدة. وأنا كالأحمق كنتُ أنتظر يوم زفاف لن يأتِ. وحمدتُ ربّي أن علِمتُ بالحقيقة قبل أن أُستغلّ أكثر مِن ذلك فمع كل يوم كان حبّي ومصروفي لداليا يزيد عن يوم. خَطَرَ على بالي أن أذهب إلى هؤلاء الناس وأفضحهم ولكنّني خفتُ أن نتشاجر وأن يؤذوني خاصة إن كان الزوج موجوداً. فمَن يحيك هكذا مكيدة يستطيع إرتكاب أفظع الأذى. وإكتفَيتُ بأتصال هاتفي لدليا كان مفاده أنّني علِمتُ بالحقيقة وأنّني أحتقرها جداً وأنّني لا أريد أن أراها أو أسمع صوتها مجدّداً وإلاّ إشتكيتُ عند للشرطة. أمّا هي فلم تقل شيئاً بتاتاً ولم تعتذر حتى أو تقدّم أي تفسير عن الذي فعَلَته.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button