ما حقيقة مرضي هذا؟

كم كانت حالتي مزرية وأنا جالسة في قسم الشرطة بانتظار قدوم زوجي!

عند وصولي، نظرتُ مِن حولي، وحين رأيتُ مَن يُقاد عادة إلى القسم شعرتُ بالعار المميت. كان هناك رجل سكّير وفتاة بثياب تدلّ على مهنتها غير المشرّفة. لم أكن أبدًا مثلهما، بل لطالما تحلَّيتُ بأعلى نسبة مِن الأخلاق وتمسّكتُ بالقيَم والقوانين.

 

وبدأتُ بالبكاء على ما آلَت إليه حياتي وعلى ما سيقول لي وعنّي توفيق زوجي.

ربما كان يجدر بي أن أخبره منذ البدء عن مشكلتي، ولكنّني كنتُ متأكّدة من أنّه سيرفض الإرتباط بسارقة.

نعم، أنا سارقة ولكن ليس بالمعنى التقليديّ، لأنّ مشكلتي نفسيّة. ولقد إكتشفتُ مرضي أو بالأحرى ظواهره عندما كنتُ مراهقة. كنتُ في السوبر ماركت، وشعرتُ برغبة جامحة لسرقة شيء ما، أيّ شيء. كان الدّافع قويًّا جدًا إلى درجة أنّني فعلتُ ما لم أتصوّره: أخذتُ معجون الحلاقة وخبأتُه في معطفي وخرجتُ كأنّ شيئًا لم يكن. شعرتُ باكتفاء عميق تبعه بعد دقائق شعور بالعار والخزي. وقطعت على نفسي وعدًا بألا أعيد الكرّة، خاصّة أنّني لم أفهم لِما أسرق غرضًا لا قيمة له ولن أحتاج إليه.

ولكن سرعان ما وجدتُ نفسي أسرق مِن جديد، وفي كلّ مرّة أشياء سخيفة. إلا أنّ شعور الإكتفاء الذي كان يملأني كان يستحق المجازفة.

 

ومع مرور السنوات، أخذتُ أتعايش مع مرضي. فبتُّ أنظّم سرقاتي بحسب قوّة نوباتي. فعندما كان الأمر محتملاً، كنتُ أجبر نفسي على الإمتناع عن أخذ ما ليس لي، وأترك السرقة وما تجلبه لي مِن عار وخطر للأوقات الصّعبة التحمّل.

 


وبقيَ وضعي سريًّا حتى أقترَفتُ غلطتي الأولى، وهي إطلاق العنان لرغبتي السريّة أثناء تناولي العشاء عند صديقة لي. كان هناك الكثير مِن المدعوّات، ولاحظتُ أنّ احداهنّ تبقي حقيبة يدها مفتوحة طوال الوقت. وبدأت الفكرة تراودني حتى امتلَكَتني، وبات الأمر ملحًّا إلى درجة أنّ السرقة أصبحَت خلاصي الوحيد.

لاحظَت صديقتي إضطرابي، وسألَتني إن كنتُ بخير فطمأنتُها مع أنّي بالكاد سمعتُها لكثرة حاجتي لأخذ أيّ شيء مِن تلك الحقيبة. وانتظرتُ حتى طلبَت صاحبة الدعوة منّا الإنتقال إلى مائدة الطعام، فقصدتُ الصالون حيث ترَكَت المدعوّات أمتعتهنّ، ومدَدتُ يدي إلى الحقيبة مِن دون أن أختار شيئًا معيّنًا. فكما قلتُ سابقًا لم يكن يهمنّي سوى عنصر التشويق.

ولكنّ صاحبة الحقيبة عادَت إلى الصالون في تلك اللحظة بالذات، وضبطَتني بالجرم المشهود وبدأَت توبّخني بصوت عالٍ. وتركَت باقي الضيفات الطاولة، وركضنَ ليرَينَ ما الذي يجري. وشعرتُ بالخجل لِدرجة لا توصَف، وتمنَّيتُ لو أنّني متُّ في تلك اللحظة المخزية.

لم أستطِع أعطاء صديقتي أيّ تفسير لما فعلتُه، لذا طلَبَت منّي بجفاف مغادرة منزلها. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد طبعًا مرحّبًا بي عند الجميع، ولم أحاول مِن جانبي التواصل مع أيّ منهم.

قضيتُ الليل وأنا أبكي لكثرة حزني على نفسي، وقرَّرتُ رسميًّا أن أستشير طبيبًا نفسيًّا على أمل أن أتعافى. بالطبع لم أقل لأهلي شيئًا خوفًا من أن أخذلهم، فقد كان أفراد عائلتي يعتبرونني قدوة في الأخلاق.

 

وبدأتُ جلساتي عند المعالج النفسيّ، الذي شَرَحَ لي أنّني أعاني مِن الكلِبتومانيا أو هوَس السرقة الذي لا علاقة له بقلّة الأخلاق بل بعدم قدرتي على التنفيس عن إحباطي. وكان على حق عندما قال لي إنّ مشكلتي تعود إلى طفولتي، فقد كانت أمّي مِن اللواتي تمسكنَ البيت بقبضة مِن حديد. كان ممنوع علينا أن نشتكي، بل أن نتقبّل كلّ ما تمليه علينا حتى لو لم يكن عادلاً. لِذا اعتَدتُ على كبت كلّ شيء في داخلي وإخراجه مِن خلال السرقة التي كانت تعطيني شعورًا بالراحة والاكتفاء. والدليل على أنّني لم أكن سارقة، هو أنّني لم آخذ يومًا أي غَرَض ثمين.

 

وقد كنتُ لأشفى لولا دخول توفيق إلى حياتي. فلكثرة فرحَتي بإيجاد رجل بهذا القدر مِن الوسامة والأخلاق واللطف، شعرتُ بتحسّن ملموس أوهمَنَي بأنّني شفيتُ. إلى جانب ذلك، لم يكن أبدًا مِن المطروح أن يعرف حبيبي أو خطيبي أنّني أزور مرّة أو اثنتَين طبيبًا نفسيًّا. وكيف لي أن أبرّر غياباتي الأسبوعيّة دون أن أثير الشكوك؟

وهكذا توقّفتُ عن حضور الجلسات، وصببتُ اهتمامي على توفيق الذي رأى فيّ مثالاً للمرأة.

 


وتزوّجنا ولم أعد أشعر بالحاجة إلى السرقة، على الأقل خلال أوّل فترة. ولكن في إحدى الليالي وبعد أن خَلَد زوجي إلى النوم وكنتُ على وشك اللحاق به، مرَرتُ قرب محفظته التي كان يضعها على طاولة صغيرة قرب المدخل. وانتابَني إحساس كنتُ قد ظنَنتُه اختفى، ولكنّه كان نائمًا في داخلي ولا ينتظر سوى فرصة الإستيقاظ.

ومَددتُ يدي إلى المحفظة وأخذتُ مبلغًا زهيدًا مِن المال. لم أنَم طوال الليل لكثرة كرهي لنفسي، فقمتُ مِن السرير وأعدتُ المال إلى حيث كان. وفي الصباح، قصدتُ السوبر ماركت وسرقتُ كيسًا صغيرًا مِن القطن لأشفي غليلي.

ولم أعد أذق طعم الهناء بعد أن عدتُ إلى السرقة وبانتظام. ولم يفهم توفيق سبب تغيرّي معه، فكيف له أن يعلم أنّني كنتُ أخجل من نفسي ومنه، ولم أعد قادرة على النظر بفي َينَيه خوفًا مِن أن يعرف أنّ التي أحبّها تحمل سرًّا ثقيلاً لا يُمكنها الإفصاح عنه.

واعتقَدَ زوجي أنّني لم أعد أحبّه، وتشنّج جوّ البيت ليبلغ حدًا خطيرًا، خاصّة أنّه ظنّ أنّ لي عشيقًا لأنّني امتنَعتُ عن القيام بواجباتي الزوجيّة معه.

حاوَلَ المسكين أن يحملني على التكلّم، ولكنّني، ولا أدري لماذا، فضَّلتُ أن يظنّ أنّني أخونه على أن يعرف أنّني سارقة. وعندما قال توفيق لي إنّه مِن المستحسن أن ننفصل، شعرتُ بظلم كبير. كم مِن الصعب الإعتراف بمرض نفسيّ! ربّما ذلك يعود إلى أنّ المشاكل النفسيّة تمسّنا في داخل أعماقنا، وتمتدّ مِن طفولتنا إلى حاضرنا، والإفصاح عن حالتي كان يعني لي أن أكشف أمام زوجي جزءًا كان مختبئًا مِنذ سنوات طويلة. وتوسَّلتُ إليه كي يبقى، ولكنّه فضّلَ أن يذهب إلى أمّه لبضعة أيّام ليُفكّر بمصير زواجنا.

ولكثرة حزني على ما فعلتُه، كَبِرَت حاجتي للتعبير عن إستيائي عبر السرقة. ولكن في تلك المرّة، كان قلبي معميًّا ولم أنتبه إلى شرطيّ المحل الذي رآني وأنا آخذ ما وقعَت عليه عيناي. وبالرّغم مِن توسّلاتي ودموعي، لم يرضَ مدير المحل مسامحتي حتى لو دفَعتُ له ثمَن ما سرَقته، فكان قد طفَحَ كيله مِن التغاضي عن كلّ المرّات التي خرجتُ فيها مِن السوبر ماركت محمّلة بالمسروقات.

وجاءَت الشرطة، وبعد أن عايَنت أشرطة الفيديو تمّ القبض عليّ وأخذي إلى القسم. هناك سمحوا لي بالإتصال بمَن أريد فاختَرتُ توفيق لأنّه كان الوحيد القادر على مساعدتي. إضافة إلى ذلك، جزء منّي كان يُريده أن يعلم بما أعاني كي يفهم سبب تصرّفاتي الغامضة.

ووصَلَ زوجي واستغربَ جدًّا عندما قال له الشرطيّ إنّني سارقة. وبعد أن وقّع على الأوراق المطلوبة ودفَعَ ثمن ما سَرَقتُه، إستطاع أخذي إلى البيت. وفي طريقنا لم يقل لي شيئًا سوى: "لماذا؟". عندها أجبتُه أنّني سأشرح له كلّ شيء حين نصل. وهذا ما فعلتُه. إستمَعَ إليّ مطوّلاً، وعندما انتهَيتُ مِن الكلام قال:

 

ـ هذا يعني أنّكِ لم تكوني على علاقة مع أحد... وفضّلتِ السكوت على أن تبوحي لي بمشكلتكِ؟

 

ـ أجل.

 

ـ أنتِ غبيّة! لو قلتِ لي ما بكِ لجنّبتِ نفسكِ دخول القسم ولاحقًا جلسة المحكمة! أنا زوجكِ، أي نصفكِ الثاني... مِن واجباتي مساندتكِ ومساعدتكِ وإلا لِما الزواج؟ للإنجاب فقط؟ الحيوانات تلد صغارًا أيضًا! إبتداءًا مِن الغد ستكملين جلساتكِ، وسأرافقكِ لأتعلّم مِن المعالج كيفيّة مساعدتكِ... أنا شريك حياتكِ... إفهمي ذلك.

 

مضى على تلك القصّة خمس سنوات ولم أسرق شيئًا. لزِمَني وقت طويل لأتجاوز مشكلتي، ولكنّني إستطعتُ فهم نفسي ودوافعي بفضل العلم وزوجي الحبيب. لدَينا اليوم إبن جميل يُعطيني هو الآخر دافعًا إضافيًّا لأنسى الماضي الذي كاد أن يخرب حياتي، وأركّز على حاضري الجميل وأعمل على مستقبل أجمل.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button