كنتُ أتوقّع أن يخون ثقتي أيّ إنسان في العالم، إلّا زوجتي العزيزة منال. فهي كانت أوّل حبّ في حياتي وعلمتُ أنني سأقضي عمري معها فور وقَعت عيوني عليها، أيّ عندما كنّا ما زلنا في المدرسة. وكبرنا سويّاً ودخلنا الجامعة معاً وتزوّجنا بعد تخرّجنا. وإعتقدتُ أنّ حياتي ستسير كما رسمتُها وأستمتع أخيراً برفقة منال الدائمة. ولكنّني لم أتذكّر سوى لاحقاً ما كانت تقوله أمّي لي:
- طيبتكَ ستنقلب عليكَ يوماً يا إبني... إحترس... الناس ليسوا كلّهم مثلك... لن أعيش إلى الأبد ولن أستطيع أن أحميكَ طوال الوقت...
ولكن ما مِن أحد كان بإستطاعته التكهّن بما كانت ستفعله منال. في البدء سار كلّ شيء على ما يرام، أيّ أخذنا شقّة لطيفة قرب أمّي المريضة وإستقريّنا بها، لنؤسس عائلتنا الجديدة. مرّت الأشهر دون أن ننجب ولكن هذا لم يشغل بالي كثيراً، فكان لدينا العمر كلّه وتابع كلّ منا عمله أنا في شركة تجاريّة ومنال في مكتب عقاري. كنّا نذهب كل مساء إلى منزل والدتي للإطمئنان عليها وعلى العاملة التي جلبتُها لها لتساعدها في الأعمال المنزليّة وتُبقي عيناً عليها. ولكن في يوم من الأيّام، جاءني عند الرابعة بعد الظهر، إتّصالاً يقول أنّ أمّي نُقِلت إلى قسم الطوارئ. ركضتُ كالمجنون إلى المستشفى وعندما رأيتُ الطبيب الذي عالجها قال لي:
- لا تخف... الأمر ليس خطيراً... إنّها إمرأة مسنّة وهكذا أمور تحصل...
- ولكن ما الذي حدث لها؟ هل وقعَت؟
- لا بل لم تستطع العاملة إيقاظها من قيلولتها لتعطيها الدواء، فإتّصلت بالإسعاف... في سن والدتكَ يصبح الجسد تعباً ولا يتجاوب كالسابق.
- وما العمل الآن؟
- لا شيء... أعطيناها منشّطات... وظائفها الحيويّة جيّدة وهذا ما يهمّنا...
دخلتُ غرفة أمّي ووجدتُها متعافية تضحك وتتكلّم مع الممرّضات، فشعرتُ بإرتياح كبير. سألتُها:
- كيف حالكِ الآن؟
- كما ترى يا إبني... أنا بخير لا تقلق... أنام كثيراً مؤخّراً واليوم نسيتُ أن أستفيق!
وضحِكَت. لم أجد الأمر مضحكاً، لأنّني أدركتُ أنّ يوماً سيأتي ولن تستفيق أمّي أبداً وإمتلأت عيوني بالدموع. بقيتُ معها حتى المساء ولحقّت بي منال عند إنتهاء عملها ثمّ رحلنا سويّاً. قلتُ لأمّي:
- سآتي غداً لآخذكِ إلى بيتكِ... لا أحبّ أن أراكِ في هذا السرير!
وهكذا حصل وسررتُ لرؤيتها في بيتها وكأنّ شيئاً لم يحصل. وبدأتُ أتّصل عدّة مرّات في النهار للإطمئنان عليها وتارةً كانت هي التي تردّ عليّ وتارة العاملة عندما تكون أمّي نائمة وكنتُ أوصيها بأن تنتبه جيّداً إلى نوم والدتي. وتابعنا جميعاً حياتنا وأخذتُ أسأل منال إن كانت فعلاً تريد طفلاً أم لا. قالت لي:
- طبعاً حبيبي... ولكنّ عملي شاق ويسبّب لي الإرهاق...
- هل تظنّين أنّ علينا الذهاب إلى الطبيب؟ ربّما أحدنا لا يستطيع الإنجاب أو بحاجة إلى علاج.
- أبداً! كلانا في صحّة جيّدة!
- وكيفَ لكِ أن تعرفي ذلك؟ القدرة على الإنجاب أو عدمها ليس لها علاقة بالصّحة العامة.
- لا تقلق حبيبي... أعطني بعض الوقت وسأجلب لكَ ستة أولاد!
ضحكنا سويّاً وقبّلتني بحبٍّ وحنان ونسيتُ مخاوفي. ولكن بعد بضعة أيّام، وجدتُ شيئاً في قعر درج لفتَ إنتباهي: قارورة ليس عليها ورقة، تحتوي على حبوب لم أرها من قبل. لا أدري لماذا ولكنّني لم أسأل زوجتي عنها، بل أخذتُها عند الصيدلي وقلتُ له:
- وجدتُ هذه القارورة... ونسيتُ لما هي... هل تستطيع مساعدتي قبل أن أرميها...
وأخذها وقارنها مع أخريات وفحص الحبوب ومحتواها ثمّ قال:
- إنّها حبوب لمنع الحمل... لا أظنّكَ بحاجة إليها!
وضحِكَ مطوّلاً. شكرتُه وخرجتُ مهموماً. لماذا تأخذ منال حبوباً لتمنع نفسها من الحمل؟ كان بإستطاعتها مصارحتي بالأمر وكنّا ناقشناه سويّاً بدل هذا الغش. وبينما كنتُ أستعدّ لمواجهة زوجتي بما إكتشفته، دقّ هاتفي وسمعتُ صوت عاملة أمّي تصرخ لي بأن آتي بسرعة لأنّها مرّة جديدة لا تشتطيع إيقاظ والدتي. وصلتُ إلى هناك ووصلَت سيّارة الإسعاف بعد دقائق وركبتُ مع أمّي فيها حتى وصلنا المستشفى. أدخلوها غرفة الطوارئ وأخذتُ أنتظر في الخارج لكيّ يأتي أحد ويخبرني عن حالتها. وبينما كنتُ في قاعة الإنتظار، مرّ الطبيب الذي عالج أمّي في المرّة السابقة وتفاجأ لرؤيتي هناك. أخبرتُه بما حصل فقال:
- غريب... هذه الأمور تحدث لكن ليس بإستمرار... سأذهب لأكلّم الطبيب المقيم... سأطلب لها الفحوصات... غريب جداً...
ودهشنا جميعاً عندما جاءت نتيجة الفحوصات بإكتشاف مادة مخدّرة بدمها. وطبعاً لم يكن هناك إلّا شخصاً واحداً بإستطاعته إعطاء المنوّم لأمّي: العاملة. أبلغتُ فوراً الشرطة وتوجّهتُ مع المفتّشين إلى منزل والدتي وهناك أخذوا يسألوا العاملة أسئلة عديدة. في البدء نكرَت كل شيء، ثمّ إنهارَت كليّاً خاصةً عندما كذبنا عليها وقلنا لها أنّ أمّي قد ماتت وعليها الإعتراف فوراً إن لم تكن تريد أن تُتّهم بالقتل. قالت أنّها كانت تدسّ لها المخدّر في فنجان الشاي عندما يحين وقت قيلولتها بعد الظهر. فسألها المفتّش لماذا كانت تفعل هذا، ألِتجلب صديق لها سرّاً إلى البيت أم لغرض آخر؟ أجابت:
- لا... لا لهذا ولا لذاك...
- تكلّمي! لن تدسّي المخدّر من دون سبب!
- حسناً... لم تكن فكرتي... بل فكرة السيّدة منال...
عندها صرختُ مندهشاً:
- لمَ الكذب؟ زوجتي لا مصلحة لها في هذا!
نظرت إليّ العاملة بأسف وتابعَت:
- هي التي طلبَت منّي أن أُبقي السيّدة الكبيرة نائمة كي... كي تأتي بعشيقها... كنتُ أترك لهما البيت وأغيب حتى تتّصل بي وتأذن لي بالعودة... أعطتني مالاً... الكثير من المال لأساعد أهلي... هم فقراء... أنا أحبّ السيّدة الكبيرة لكنّ أهلي بالكاد يأكلون... سامحوني...
نظر إليّ المفتّش بتعاطف وبدأتُ بالبكاء... منال حبيبة العمر! وعندها فهمتُ أنّها كانت تأخذ تلك الحبوب خوفاً مِن أن تحمل مِن عشيقها. أُخِذَت العاملة إلى التحقيق وتوجهنا جميعاَ إلى مكان عمل زوجتي حيث سُئلَت عن علاقتها بما حصل لأمّي. حاولَت منال أن تنكر هي الأخرى ولكنّ المفتّش أخبرها أنّه يعرف بأمر العاشق والمواعيد السريّة. عندها نظرَت إليّ وقالت:
- هذا صحيح...
صرختُ بها:
- لماذا تزوّجتيني إن كنتِ ستخونيني؟ لم أجبركِ على شيء... ظننتُكِ تحبّينني...
- أحببتُكَ فيما مضى... ثمّ أصبحَت علاقتنا روتينيّة... تزوّجتكَ لأنّني إعتدتُ على وجودكَ بحياتي ولكنّني إحتجتُ إلى عنصر الإثارة وذهابي إلى منزل أمّكَ أثناء وجودها لممارسة الجنس في غرفة مجاورة كان مثيراً للغاية!
سُجنَت منال والعاملة وأقمتُ دعوة طلاق. عادَت أمّي إلى بيتها متعافية وأنا اليوم أهتمّ شخصيّاً بها.
حاورته بولا جهشان