لا أستطيع نكران منافع الإنترنت العديدة لأنّه مكّنَ الناس مِن الوصول إلى المعلومات وذلك بطريقة خارقة السرعة ووصَلَ أفراد المعمورة بِبعضهم. ولكن سيّئاته أيضاً موجودة ولقد رأيتُ بِعينيَّ مخاطر الغَوص في هذه الشبكة العملاقة التي تجرفنا إلى أعماقها وتبتلعنا أحياء.
وآنذاك كنتُ كحَال جميع زملائي أستعمل النِت لِتسهيل عملي في الشركة ولم أكن مهتمّاً أبداً بما يسمّى مواقع التواصل الإجتماعيّ لأنّني لم أكن بحاجة إلى البحث عن أصدقاء جدد، فالموجودون كانوا كُثُر مِن حولي. ولكنّ زوجتي لم تكن مِن رأيي وكانت مولعة بالإنترنِت ووجَدَت فيه التسلية والرفقة التي حرمتُها منها بسبب إنشغالي الدائم بِعملي.
وكان لِداليا المئات مِن الأصدقاء عبر مواقع عديدة على حاسوبها وهاتفها وكانت تستمتع بذلك كثيراً. حاولَت مراراً أن تخلق لدَيّ إهتماماً ولو بسيطاً في الأمر ولكنّني بقيتُ مصرّاً على موقفي. ولم أكن حتى على قائمة أصدقائها على فيسبوك لِسبب وجيه وهو أنّني كنتُ أعيش معها وأعرف كل أخبارها. والحقيقة كانت أنّني كنتُ مسروراً أنّها وجَدَت بذلك سلوى لِيرتاح ضميري قليلاً خاصة أنّنا لم نُرزق بأطفال بسبب عقري.
وبالرغم أنّها كانت تستطيع تركي ليكون لها حياة طبيعيّة، فضّلَت داليا البقاء معي لأنّها كانت تحبّني كثيراً. قد يقول البعض أنّ السبب الآخر هو الحياة الجميلة التي كانت تعيشها بِفضل راتبي وأملاكي العديدة ولكنّني كنتُ متأكّداً مِن مشاعرها تجاهي.
وفي عيد زواجنا الخامس أقامَت داليا لنا حفل عشاء فاخر في أحد المطاعم المعروفة دعَت إليه كل الأقارب والأصدقاء. وهناك تتالَت التهاني والأمنيات لِحياة زوجيّة طويلة وسعيدة. كنتُ سعيداً أن تفكّر زوجتي بِجمع كل هؤلاء الناس حولنا لأنّه كان دليلاً على أنّها تحبّني كثيراً وتنوي الإستمرار معي بالرغم مِن الفراغ الذي ولّدَته عدم قدرتي على إعطائها طفلاً. ولكن خلال العشاء لاحظتُ أنّ داليا كانت تترك كرسيّها وتذهب إلى الطاولة مجاورة للتحدّث مع مجموعة مِن الزبائن وتعود. ولم أكن أعرف أيّ منهم لذا سألتُها مَن يكونون. فأجابَتني:
ـ هم أصدقاء لي.
ـ ولكنّني لم أرَ هؤلاء في حياتي.
ـ هذا لأنّكَ دائم الإنشغال... تعرّفتُ اليهم عبر الفيسبوك وأصبحوا أصدقائي... على كل حال لا يهمّكَ سوى عملكَ حتى أنّكَ تجلب أحياناً ملفّاتكَ إلى البيت وتعمل خلال فرصة نهاية الأسبوع.
ـ عليّ فعل ذلك إن كنتِ تريدين إقامة عشوات كهذه!
ـ لا تفسد علينا هذه الجلسة الجميلة أرجوكَ... دعنا نستمتع بسلام.
وأُقفِلَ الموضوع. ولكنّ نظرات الرجلَين والمرأة الجالسين على تلك الطاولة لم تُعجبَني وشعرتُ بإنزعاج خاصة عندما عادَت إليهم زوجتي وقالت لهم شيئاً وضحكوا سويّاً. وبالرغم مِن ذلك لم أقل شيئاً خوفاً مِن إفساد الحفل. ولكنّني قرّرتُ أن أحاول إعطاء داليا المزيد مِن الإهتمام لأنّني كنتُ أعلم أنّها على حق. لِذا فاجأتُها بعد أسبوع بإصتحابها إلى أحد الفنادق لِقضاء يومَين سويّاً. عندها قالت لي:
ـ التاريخ لا يناسبني فلدَيّ إرتباطات أخرى.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ كلامي واضح... في تلك الأيّام لدَيّ مشاريع مُسبقة مع أصدقائي.
ـ مع هؤلاء الذين كانوا في المطعم؟
ـ أجل.
ـ لم لا تقولين لي مَن هم.
ـ وحتى لو قلتُ لكَ أسماءهم هل ستعرفهم؟ لدَيّ العديد مِن المعارف على شبكات التواصل... أتريد أن أعدّدهم كلّهم؟ إسمع... يمكننا الذهاب إلى الفندق في الأسبوع الذي يلي... لا تصعّب الأمور!
وكان هذا أسلوبها أي أنّها كانت دائماً تلقي عليّ اللوم في كل شيء لأنّها كانت تعلم أنّ اللّوم الكبير هو عقري وأنّني أشعر بالذنب حيال ذلك. وسكتُّ مرّة أخرى وذهبنا إلى الفندق في التاريخ الذي أرادَته هي. ولكن الأجواء كانت متشنّجة لأنّني كنتُ قد أنزعجتُ مِن هذا التأجيل ولأنّ زوجتي قضَت معظم وقتها على الهاتف تبعث رسائل وتقرأ التعليقات على حسابها. كنتُ سأوبّخها ولكنّني عدَلتُ عن ذلك كي لا أسمع منها أنّني أفسد إجازتنا. ولكنّني قرّرتُ وبِجدّية أن أكلّمها بشأن الإنترنت الذي كان يأخذ الكثير مِن وقتها ومِن وقتنا نحن الإثنَين وعزمتُ على إجبارها على التخفيف ولو قليلاً.
ولكن قبل أن نترك الفندق بساعات قليلة لمحتُ أحد أصدقاء داليا هناك. في البدء لم أتعرّف إليه بل شعرتُ أنّني رأيتُ ذلك الشخص في مكان ما. ومِن ثمّ تذكّرتُ أنّه كان في المطعم يوم عيد زواجنا. ولم أتحمّل فكرة جلب داليا لأصحابها أثناء وجودنا سويّاً في إجازة أرَدتُها حميمة لذا ذهبتُ إلى الرجل الذي كان جالساً في ردهة الفندق يقرأ صحيفة وقلتُ له:
ـ ماذا تفعل هنا؟
ـ عفواً؟ لم أفهم قصدكَ.
ـ سألتُكَ ما الذي تفعله هنا.
ـ كما ترى... أقرأ الصحيفة!
ـ أعني في الفندق! ماذا تفعل في الفندق؟
ـ أفعل ما يفعله النزلاء... ما الموضوع؟ هل أنتَ صاحب الفندق؟
ـ تعرف تماماً مَن أكون! كفى تمثيلاً! إسمع... أريد أن تبتعد أنت وأصدقاؤكَ عن زوجتي... أفهمتَ؟
ـ فهمتُ جيّداً... أسأل نفسي فقط ما ستكون ردّة فعل داليا عندما تعلم بِتهديدكَ لي.
ـ لستُ خائفاً مِن زوجتي... هيّا! إرحل مِن هنا! لا أريد رؤيتكَ مجدّداً!
وهلعتُ إلى الغرفة لأسأل زوجتي لما صديقها هنا معنا. نظَرَت إليّ بِدهشة وقالَت:
ـ وما دخلكَ أنتَ؟ هذا مكان عام ويحقّ لأيّ كان التواجد فيه... وما هذه العدائيّة؟ لقد تغيّرتَ كثيراً... تلومني على كل ما أفعله.
ـ لا تبدأي! أعرف تماماً ما ستقولينه لي... جلبتكِ إلى هنا كي نكون لِوحدنا.
ـ وماذا لو لا أريد التواجد معكَ لِوحدي.
ـ ماذا؟
ـ أجل... أنتَ مملّ... عندما لا تعمل تنام أو تأكل... ليس لدَيكَ أي موضوع نتكلّم به... لم أتزوّج منكَ لأعيش بوحدة تامّة... ولم أتزوّج منكَ لأصرف مالكَ... ومَن قال لكَ أنّني أحبّ المال؟ لقد أحببتُكَ أنتَ ولكنّكَ كنتَ آنذاك طريفاً ومحبّاً وتهتمّ بي بِحنان... أشعر بالملل عندما أكون بصحبتكَ.
ـ أصدقاؤكِ أكثر ترفيهاً منّي؟
ـ بكثير!
وعُدنا إلى البيت دون أن نتكلّم لأنّني كنتُ جدّ مستاء مِن الذي قالَته لي داليا. وفي اليوم التالي أخبَرتُ زميلي المقرّب عن مشاكلي على أمل أن يعطيني النصائح لأنّه كان متزوّجاً مِن سنين عديدة ولدَيه 4 أولاد. إستمعَ إليّ جيّداً ثم قال لي:
ـ أخشى يا صديقي أن تكون زوجتكَ على علاقة حميمة مع أحد... كل شيء يدّل على ذلك.
ـ هذا غير وارد... أعرف داليا وأنا متأكّد مِن وفاءها لي.
ولكن بالرغم مِمَا قلتُه لِصديقي لم أكن مقتنعاً تماماً مِن عدم خيانة زوجتي لي لأنّني كنتُ قد سمعتُ العديد مِن القصص عن تفكّك عائلات بِسبب الانترنت. لِذا قرّرتُ أن أراقب تحرّكات داليا لأعرف الحقيقة. ولاحظتُ أنّها تقصد يوميّاً مبناً بعيداً عن منزلنا وتخرج منه بعد ساعات. وفي إحدى المرّات رأيتُ الرجلَين واقفَين على الشرفة يلّوحان لها. وشعرتُ بِغضب كبير وأعمَتني رغبتي في الإنتقام. وفي اليوم التالي دخلتُ المبنى وراءها وسألتُ الناطور أيّة شقّة قصَدَت المرأة التي سبقَتني فدلَّني عليها. ورحتُ أخبّط على الباب بقوّة مُخيفة. وعندما فتحَ لي أحد الرجلَين صرختُ له كلامجنون بعدما مسكتُه برقبته:
ـ أين داليا أيّها السافل؟ أين الخائنة؟
وأطلَّت داليا مِن وراءه بِصحبة الرجل الآخر والمرأة. وقالت لي:
ـ أتركه... هذا إبن عمّي.
وأدخلوني وجعلوني أجلس على الأريكة وعلى وجهي الدهشة وعدَم الأستيعاب. ثم قالت لي زوجتي:
ـ أعرّفكَ على مازن وطارق ولَدَي عمّي وعلى إيمان زوجة طارق... عادوا مِن أستراليا الشهر الفائت.
ـ ولكن... لماذا أخفَيتِ عنّي هويتّهم؟
ـ لكي تصحى مِن غيبوبتكَ... لم أعد أتحمّل تجاهلكَ لي... فكّرتُ مراراً بِترككَ ولكنّني أحبّكَ وأعلم أنّكَ تحبّني... لِذا قرّرتُ أن أريكَ أنّ بإمكانكَ فقداني في أيّة لحظة... وشعوركَ بالذنب لعدم الإنجاب مزعج للغاية... قبِلتُ بالوضع منذ البدء فلا داعي لِتذكيري به في كل كلمة أو موقف... ما يهمّني هو أنتَ ولا شيء آخر...
ـ كم خفتُ أن تكوني على علاقة مع أحد... كنتُ على وشك الإنهيار... أحبّكِ كثيراً يا داليا... كثيراً!
ـ النوايا والكلمات لا تكفي... عليكَ أن تريني حبّكَ لا أن تتكلّم عنه فقط...
ـ أنتِ على حقّ... ما الذي تريدينَني أن أفعل؟
ـ ليس عليّ أن أقول لكَ بل عليكَ أنتَ التصرّف.
- حسناً... لن أبقى بعد الآن في العمل بعد الدوام ولن أجلب ملفّاتي إلى البيت.
ـ ولن تشعر بالنقص بما يختصّ بالأولاد؟
ـ لا... سأنسى الموضوع... إلى الأبد.
ـ أو يمكننا التبنّي؟
ـ ربمّا... لماذا لم أفكّر بذلك؟
حاورته بولا جهشان