ما الذي يخفيه ذلك الجرّاح التجميلي؟

عندما بدأتُ دراستي في الطبّ، ظننتُ أنّني سأصبح لاحقاً طبيبة ماهرة، أريح الناس مِن أوجاعهم وأتمتّع بحياة رخاء. ولكنّ الظروف عاكسَتني عندما توفيّ أبي وأنا في السنة الجامعيّة الثانية. ولكي أساعد أمّي وأخواتي، كان عليّ التخلّي عن أحلامي ولو لفترة وإيجاد عمل بأقرب وقت. وشاء القدر أن أجد مكاناً شاغراً كسكريتيرة طبيب في عيادة تجميل.
صحيح أنّني كنتُ أفضّل أن أعمل في مجال طبيّ آخر، حيث أساهم في إنقاذ المساكين ولكنّني إكتفيتُ بما وجدته. كان الدكتور زاهي رجلاً في الستين من عمره ويتمتّع بشهرة واسعة وزبائن كثر، خاصة أنّه كان يراعي دائماً ظروف مرضاه الماديّة. وبدأتُ عملي بحماس فاتر ولكن بنيّة حسنة. وتعرّفتُ سريعاً على أنواع الإجراءت التي تحسّن من مظهر الناس وتزيدهم ثقة بنفسهم، حتى لو تطلّب الأمر أن يتألّموا ويخاطروا بما هو عزيز عليهم. فهناك دائماً خطر بألّا تنجح العمليّات وأن تترك تشويهات دائمة على أصحابها.
كان عملي يقتصر على أخذ المواعيد وإدخال المرضى إلى غرفة المعاينة لكي يراهم الطبيب. عندها كنتُ أعود إلى مكتب الإستقبال وتحلّ مكاني ممرّضة متمرّسة للمساعدة في العمليّات. ومع الوقت أصبحتُ أعرف كل من يأتي إلينا وأسمع قصصهم وتساؤلاتهم وآمالهم وولِد بيني وبين هؤلاء رابط شبيه بالصداقة. وفي ذات نهار، رأيتُ زبونة تدخل العيادة وهي مستاءة جداً لأنّ جرحها لم يلتئم جيّداً وجلست في قاعة الإنتظار تخبرني عن الألم الشديد الذي تشعر به في صدرها وخوفها من تفاقم حالتها. أدخلتُها بسرعة وبعد أن مكثَت مطوّلاً مع الطبيب خرجَت تصرخ له:

- لن أسكت عن هذا! كنتُ أفضل بكثير قبل العمليّة! إن لم تفعل شيئاً بهذا الخصوص سأرفع دعوى ضدّك وأقفل عيادتكَ!

ثم رحلَت دون أن تنظر إليّ. ركضتُ إلى الداخل وسألتُ الدكتور الزاهي عن الموضوع فأجاب:

- أنتِ جديدة هنا وسترين العديد من المرضى يتصرّفون هكذا لأنّهم لم يتّبعوا جيّداً تعليماتي ويريدون إلصاق السبب بي... تصرّف إعتدنا نحن الأطبّاء عليه... لا تخافي فتلك المرأة تعرف جيّداً أنّ لا دخل لي بما حصل لها وستهدأ قريباً.

إقتنعتُ بتفسيره، لأنّني أعلم كم أنّ الإعتناء بالجرح بعد العمليّة مهمّ وأنّ الراحة عنصر أساسي بالشفاء. وعدتُ إلى عملي وتابعتُ حياتي كالعادة ونسيتُ كليّاً ما حصل في ذلك النهار. حتى أن حدثَ الأمر مجدّداً، هذه المرّة مع رجل أتى من أسبوع لشفط دهون بطنه. وعندما جاء للمراجعة، رأيتُ إنتفاخاً غريباً في بطنه وعلمتُ منه أنّه يشعر بألم شديد لم يختبره يوماً. ركضتُ أبلّغ الطبيب الذي طلب منّي أن أكذب وأقول للرجل أنّ كل المواعيد مأخوذة وأن يعود في اليوم التالي. قلتُ للدكتور:

- ولكن بطنه متورّم جداً!

- هذا طبيعي بعد هكذا عمليّة... أنتِ سكريتيرة ولستِ طبيبة، فأرجو منكِ ترك الأمور الطبيّة لي!.

إمتلأت عيوني بالدموع لأنّني لولا موت أبي، كنتُ سأصبح طبيبة ولم أكن لأسمع هذا الكلام المهين. أعطيتُ للمريض موعداً لليوم التالي وإنتهى الموضوع. أو هكذا إعتقدتُ. فبعد يومين على الحادثة، دخل العيادة مفتّش من وزارة الصحّة يطلب رؤية الطبيب. وبينما كان ينتظر دوره سألني:

- هل تعرفين السيّد س.؟

- أجل إنّه مريضنا... هل من مشكلة؟

- أجل... هو في غرفة العناية الفائقة وحالته خطيرة جداً... وهل...

وفي تلك اللحظة فتح الدكتور بابه وطلب منه أن يدخل فقام الرجل من مكانه وقال لي:

- لم ننتهي من الحديث.

وسمعتُ أصواتاً تتعالى من داخل غرفة المعاينة والدكتور زاهي يقول: "هذا ليس ذنبي، فهو يعاني من مشاكل صحيّة مسبقة ونبّهته من خطورة العمليّة ولكنّه أصرّ على المضي بها." ولكن هذا لم يكن صحيحاً، فعندما كان المريض عند الدكتور، أدخلتُ له الإستمارة التي تحتوي على كل التفاصيل الشخصيّة للمريض سمعتُ الطبيب يقول: "إن كان لديكَ بعض السكر في الدم أو كوليستيرول أو أي شيء آخر ليس مهماً... إنّها عمليّة بسيطة ولا خطر عليكَ منها." وعندها علمتُ أنّ الطبيب يكذب وبشكل فاضح. خرج المفتّش قائلاً: "المسألة لم تنتهي فالقضيّة لم تقفل... أريد معرفة ما جرى بالتحديد... ستراني مجدّداً." إصفرّ وجه الطبيب وأقفل الباب بقوّة وطلب منّي أن ألغي جميع مواعيد النهار.
ومنذ ذلك النهار قررتُ أن أراقب الطبيب عن كثب، لأنّه كان من غير المقبول أن يسبّب بالضرر لمرضاه وسكوتي عن الموضوع يجعل منّي شريكة فيما يحصل. وبما أنّ عدّة أيّام قد مرّت دون أن يحصل أيّ جديد، قررتُ تفتيش مكتب الدكتور خلال غيابه. لذا أتيتُ إلى العيادة أبكر من المعتاد ودخلتُ أبحث عمّا يمكّنني من معرفة حقيقة ما يجري. وفي أحد الأدراج وجدتُ مراسلة بين الدكتور زاهي ومستشفى في الولايات الأميركيّة بشأن طلب الطبيب بالإلتحاق بها. ولكنّ الرد كان قاطعاً: لن يقبلوا إنضمامه إليهم لأنّهم تحقّقوا من شهاداته ووجدوا أنّها كلّها مزيّفة وأنّه لم يدرس الطب يوماً بل إكتفى بالعمل كمساعد جرّاح تجميلي. وأنهوا ردّهم بتوبيخ صارم اللهجة وطلبوا منه أن يكفّ عن مزاولة المهنة كي لا يقترف أخطاء بحقّ الناس. ذهلتُ عند قراءة تلك الرسائل ونظرتُ إلى الحائط حيث كانت شهاداته معلّقة بفخر وفهمتُ ما الذي يجري لهؤلاء المساكين. وبينما كنتُ أستعدّ لإعادة الأوراق إلى مكانها فاجأني الطبيب بالدخول إلى مكتبه:

- ماذا تفعلين هنا؟

- لا شيء... أزيل الغبار...

- أرى أنّكِ أصبحتِ على علم بسرّي... وهذا خطير جدّاً... لا تخافي لن أؤذيكِ بل سأفعل أفضل من ذلك... ماذا لو أعطيتكِ مكان مساعدتي؟ أعلم أنّكِ تحلمين أن تصبحي طبيبة حقيقيّة وبمساعدتي أثناء العمليّات ستتعلّمين المهنة تماماً كما فعلتُ أنا.

- وأشوّه الناس وأضع حياتهم بخطر مثلكَ أيضاً؟

- إسمعي... تلك الأمور تحصل حتى مع مَن يحمل شهادات حقيقيّة ولكنّ لا أحد يستطيع محاسبتهم بفضل نقابتهم القويّة النفوذ... وليست كل جراحاتي فاشلة فالكثير من مرضاي تعافوا وأصبحوا أكثر جمالاً وثقة بانفسهم. أنتِ رأيتِ مدى شهرتي فالناس تتدافع لأخذ موعد عندي.

- لأنّ أسعاركَ متدنّية وهؤلاء المساكين ليسوا أغنياء.

- فكّري بعرضي مليّاً فقد تكون فرصتكِ الوحيدة لتحقيق حلمكِ... سأتقاعد قريباً وستأخذين مكاني وإلى جانب الشهرة ستجنين الكثير من المال... لا تتسرّعي.

كان على حق، فكنتُ قد أوقفتُ الجامعة بسبب قلّة المال وكنتُ أدرك أنّني لن أتابع الجامعة يوماً بسبب حاجتنا إلى المال وكنتُ قد رأيتُ آمالي تتبخّر أمام عينيّ دون أن أستطيع تغيير شيئاً. وكان أيضاً محقّاً عندما قال أنّ قسماً لا بأس به من العمليّات لا تلقى النجاح المنتظر حتى من أبهر الأطبّاء. ولكنّه نسيَ شيئاً مهمّاً وهو أنّ الطبيب عند تخرّجه يقسم قسََم "ابقراط" الذي يَعِدُ فيه أن يريح المريض من أوجاعه وأن يكون عند حسن ظنّه ويكون صريحاً معه وأنّ هدف مهنته هو المعالجة وليس جني المال. ومع أنّني لم أتخرّج كطبيبة، كنتُ أحترم هذا القَسَم وأتوقّع من أيّ دكتور أن يتبعه. لذا لم أقبل عرضه، بل توجهتُ إلى وزارة الصحّة وأبلغتُ ذلك المفتّش عمّا علمته وقدّمتُ إستقالتي. عدتُ إلى البيت وأنا فخورة لما فعلت، لأنّني أنقذتُ حياة الناس وجنبّتهم تشويهات وآلام قد تؤثّر على بقيّة حياتهم..
علمتُ أنّ الشرطة داهمَت العيادة وحجزَت كل محتوياتها وأُخِذَ الطبيب إلى التحقيق. طُلِب منّي الإدلاء بشهادتي وإستدعوا المساعدة أيضاً. وبفضل شهادة المرضى أيضاً تمّ سجن الدكتور زاهي لمدّة طويلة. وبعد فترة قصيرة جاءني إتّصال من ذلك المريض الذي عانى من عمليّة شفط في بطنه يشكرني على ما فعلته ويعرض عليّ عملاً في مؤسّسته. قال لي: "ستكونين مسؤولة عن شؤون الموظّفين لأنّكِ إنسانة نزيهة وجادة ودؤوبة وأعلم أنّكِ لن ترتشي ولن تغضّي النظر عن الشوائب."

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button