ما الذي كان يحصل في مدرسة الجبل؟ (الجزء الثاني)

كذّبَت نجاح الخبَر، أي أنّها أنكرَت أن يكون ما جرى لِذراع الطفل يوسف له دخل بأيّ شيء غير زلّة يقَع ضحّيتها عادةً الأولاد، بالأخصّ يوسف الذي وصفَته بالمُشاغب. إستغربتُ الأمر، فذلك الصبيّ البالغ مِن العمر خمس سنوات كان بغاية الهدوء. لَم أكتفِ بتفسير تلك الصبيّة لكنّني لَم اُصرّ عليها، فكان مِن الواضح أنّها لن تقول المزيد، خاصّة بعدما تذكّرتُ أمرًا هامًّا للغاية: كانت نجاح قد ساعدَتني في بداية الأمر بإعطاء الحمّام لقسم مِن الأولاد وكان يوسف دائمًا في قسمها... هل يُعقَل أنّها أخذَته معها عن قصد؟ هل انتظَرت حتى أصبحتُ فردًا مِن المؤسّسة على أمل أن أتغاضى عن الذي يجري؟ أسئلة كثيرة مرَّت ببالي وصمّمتُ على إيجاد أجوبة لها بأسرع وقت. فمَن يعلم ماذا سيُصيب يوسف بعد ذلك؟ إضافة إلى ذلك، كان مِن واجبي كمُدرّسة وكإنسانة أن أحمي مَن هم أضعف منّي.

قصدتُ عايدة وسألتُها عن تاريخ التحاقها بالمدرسة، وعلِمتُ منها أنّها قدِمَت قبل ثلاث سنوات، أي أنّها كانت حتمًا على علم بما يجري، إن كان يجري شيء، فلَم أنسَ أنّني حصلتُ على الخبَر مِن تلميذة صغيرة قد تكون تخيّلَت الموضوع بأسره. سألتُها أيضًا عن الذي لاحظتُه عند التلاميذ، أي كثرة انضباطهم وهدوئهم وعن وسائل المُعاقبة المُتبّعة في المؤسّسة. إستغربَت الأمر وكذِبتُ عليها فقلتُ إنّني آتية مِن مدرسة تسمحُ باستعمال العقاب الجسديّ. عندها أجابَتني عايدة:

 

ـ لا! أبدًا العقاب الجسديّ أو أي عقاب آخر هو ممنوع هنا.

 

ـ إذًا كيف نتعامل مع تلميذ مُشاغب؟

 

ـ نُرسله إلى السيّد المدير.

 

ـ وهل يفي ذلك بالغرض عادةً؟

 

ـ أجل! فالمدير له أسلوب خاص بإقناع المُشاغبين بالإلتزام بقوانينا، ونادرًا ما نواجه أيّة مشكلة بعد ذلك.

 

ـ مِن الواضح أنّ أسلوب السيّد المدير هو فعّال للغاية!

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ لا شيء... أنا مُعجبة بمديرنا فحسب.

 


لم أذهَب إلى البيت في نهاية ذلك الأسبوع، فحادثة يوسف حصلَت بينما كان الكلّ خارج المؤسّسة. القلائل كانوا يبقون في المدرسة لأسباب مُتعدّدة، مِن بينها، كما في حالة يوسف، أنّ لا مكان لهم يذهبون إليه. وكان لا بدّ لي أن أكتشف بسرعة ما حصل، فقد كان مِن الصعب عليّ تبرير بقائي في المؤسّسة خلال نهاية الأسبوع في كلّ مرّة مِن دون أن أُثير الرّيبة.

لاحظتُ أنّ مُوظّفة واحدة تبقى مع الأولاد، الأمر الذي سهَّلَ مِن مهامي لأستجوبها. سألتُها عن المدير، وقالَت لي إنّه يسكنُ في المدرسة في جناح مُخصّص له. رحتُ أساعدُها وهي شكرَتني على ذلك فالحَمل كان ثقيلاً عليها. وبينما كنّا في استراحة قلتُ لها:

 

ـ لا بدّ أنّكِ تتعبين للغاية لوحدكِ، وخلال يومَين كاملَين كلّ أسبوع.

 

ـ أجل! لكن ما عسايَ أفعل؟ زوجي كسيح ولا مدخول لنا سوى ما أتقاضاه هنا.

 

ـ مِن حسن حظّكِ أنّ الأولاد هم قليلون وأنّهم هادئون. لكن ماذا لو أثارَ أحدهم المشاكل؟ لقد سمعتُ أنّ المُدير هو الذي يهتمّ بالمُعاقبة لكنّني لَم أرَه يفعل ذلك قط... ربمّا يهتمّ بالمُشاغبين خلال فرصة نهاية الأسبوع؟

 

ـ حصَلَ ذلك فعلاً وبالتحديد الأسبوع الفائت.

 

ـ مع الولد يوسف أليس كذلك؟

 

ـ عليّ إنهاء عملي... عن إذنكِ آنستي.

 

ردّة فعلها أكّدَت لي شكوكي، لكن مِن دون إثبات لَم أكن قادرة على فعل أيّ شيء.

قضيتُ النهار مع الأولاد، وخاصّة المسكين يوسف، لأتأكّد مِن أنّه بأمان معي.

في صباح اليوم التالي قالَت لي الموظّفة إن المُدير يُريدُ رؤيتي في مكتبه. شيء ما قال لي إنّه يودّ مكالمتي بشأن تحرّياتي، وكنتُ على حقّ. جلستُ قُبالة الرجل وهو نظَرَ إليّ بشيء مِن الغضب. قال:

 

ـ نحن لا نحبّ الفضوليّين هنا يا آنسة.

 

ـ الفضول أمرٌ معيبٌ يا سيّدي، أنا أيضًا لا أحبُّه... إلا إذا كان في مكانه.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ ماذا تقصد حضرتكَ بكلامكَ هذا؟

 

ـ أقصدُ أنّ أصداءً وصلَت إليّ مفادها أنّكِ تودّين معرفة أشياءً لا دخل لكِ بها.

 

ـ لي دخل بكلّ ما يحصل لتلاميذي يا سيّدي، فهذه مهمّتي.

 

ـ أريدُكِ أن تركّزي على التدريس وحسب.

 

ـ سأركّز على التدريس... وعلى تلاميذي يا سيّدي.

 

ـ إسمعي... الحياة ليست كما في الكتب، أي أنّ الأمور ليست إمّا بيضاء أو سوداء. وأحيانًا علينا الخروج عن القواعد لاصلاح ما هو خطأ.

 

ـ الخروج عن القواعد يكون مِن أجل الأفضل ولمصلحة الطالب، لتعليمه ليس فقط درسه بل أنّ المحبّة هي الوسيلة الوحيدة ليتطوّر ويبني شخصيّته.

 


ـ كفاكِ كلامًا كبيرًا لا تفهمين نصفه! خبرتي بالتعليم والتربية تفوق خبرتكِ بأشواط!

 

ـ سيّدي... أنا لا أتّهمُ أحدًا، لكنّني سأجدُ نفسي مُضطرّة للتبليغ عن أيّ شواذ يحصل في المؤسّسة.

 

ـ أستطيع طردكِ على الفور.

 

ـ لكنّكَ لن تفعل وسأُبقي عينًا ساهرة على الأولاد، جميع الأولاد، وأرجو مِن كلّ قلبي ألا يحصل لأيّ منهم أيّ مكروه مِن أيّ نوع. نحن لسنا في القرون الوسطى بل في الألفية الثالثة، عصر العلم والتكنولوجيا واحترام الإنسان مِن ولادته إلى مماته. وإنْ وجَبَ تأديب أحد الأولاد، سأهتمُّ بذلك بنفسي مِن الآن وصاعدًا.

 

ـ لن أدَعكِ تخربين كلّ ما بنَيتُه.

 

ـ لقد بنيتَ مملكتكَ على الرّعب والأذى، وهما أمران سيُكرّرهما الأولاد مع غيرهم حين يكبرون. إنّكَ تُراهن على كونهم فقراء وضعفاء وأيتامًا... هل كنتَ لتفعل الشيء نفسه معهم لو كانوا أبناء أناس أثرياء؟ لا أظنّ ذلك يا سيّدي. مِن السهل استهداف مَن لا صوت ولا مرجَع له.

 

ـ هل تقولين إنّني جبان؟!؟

 

ـ أنتَ قلتَها سيّدي وليس أنا.

 

ـ سألقنّكِ درسًا...

 

ـ مهلاً! لستُ إحدى تلامذتكَ! لن تفعل شيئًا بي أو لي، فأنا أخبرتُ ذويّ بالذي يجري هنا وسيُبلّغون عنكَ فور حصول أيّ مكروه لي. أنصحكَ بعدم الإنجراف خلف طبعكَ المؤذي.

 

ـ لَم أرَ بحياتي هذا الكمّ مِن الوقاحة!

 

ـ لأنّكَ مُحاط بمدرّسات وموظّفات تحتجنَ لراتبهنّ للعَيش، وبأولاد لا حول لهم ولا قوّة. سأعودُ الآن إلى الأولاد لأهتمّ بهم وأُعطيهم الحبّ والحنان الذي ينقصُهم، وأُنسيهم القسوة التي يشعرون بها في هذا المكان الرهيب.

 

لا أدري كيف ومِن أين جئتُ بهذه القوّة، لكنّني كنتُ فخورة جدًّا بنفسي. كذبتُ على المدير عندما قلتُ له إنّني أعلمتُ أهلي بكلّ شيء، لكنّه لَم يعرف بأنّها كذبة، الأمر الذي منعَه مِن طردي أو أذيّتي. لكنّ الجميع نبذَني، فهو حتمًا أمرَهم بعدَم التعاطي معي. لَم يهمّني الأمر، فكل ما كنتُ أريدُه هو سلامة الأولاد الذين صاروا بمثابة أبنائي وبناتي. صرتُ أبقى مع الأطفال في كلّ نهاية أسبوع، إلى أن تأكّدتُ مِن أنّهم بأمان مِن دوني.

بعد خمس سنوات على بدء عملي في المؤسّسة، دخَلَ المدير السجن، ليس بسبب تعنيفه الأولاد بل بعد أن تشاجَرَ مع أحد السائقين على أفضليّة مرور وضربَه بعنف شديد وأدخلَه المشفى. رجل شنيع لاقى ما يستحقّه. جاءَت بدلاً عنه سيّدة في الستّين مِن عمرها تحمل شهادات عديدة ولها خبرة عميقة في التربية، والأهمّ، لها أولاد وأحفاد أي لدَيها العاطفة والحنان اللازمان للقيام بمهامها.

ومنذ وصول المديرة الجديدة، تغيّر كلّ شيء. فباتَ الجميع يبتسمُ ويُدرّسُ ويعملُ بفرح وتفانٍ وتحسّنَت علاقتي بهم بشكل ملحوظ. أمّا في ما يخصّ الأولاد، فارتاحوا مِن الترهيب الذي خيّمَ فوق رؤوسهم.

بعد سنة، أخبرتُ المديرة عمّا حصل معي قبل مجيئها، وهي هنّأتني على شجاعتي ونزاهتي. إعترفَت لي أنّ سبَب طردها مُساعدة المدير السّابق كان مُحاولة هذه الأخيرة إقناعها بفرض سياسة رعب على أولاد المؤسّسة.

أنا اليوم مديرة المؤسّسة بعد أن أُحيلَت المديرة السابقة إلى التقاعد، وبتوصية خاصّة منها لأنّها شعَرَت أنّني الإنسانة المُناسبة لهذا المركز.

لَم أتزوّج لسبب واحد وهو أنّني لن أقبَلَ أن يُسيء أحد في أيّ وقت لأيّ مِن "أولادي"، وتضحيتي ليست كبيرة بالنسبة إلى الرسالة التي أخذتُها على عاتقي.

ماذا حصَلَ ليوسف؟

صارَ يوسف شابًا قويًّا ووسيمًا، دخَلَ الجامعة بعد تركه المؤسّسة ونال شهادته بامتياز وهو الآن مُهندس. يأتي "إبني" لزيارتي تقريبًا أسبوعيًّا لنُناقش مُستقبله ومشاكله سويًّا، وليأخذَ منّي الحنان والحبّ اللذَين يحتاجُهما. ففي آخر المطاف، أنا أمّه البديلة وحاميته، وسأظلَّ كذلك حتى آخر يوم مِن حياتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button