ما الذي كان يحصل في مدرسة الجبل؟ (الجزء الأول)

ما الذي أخذَني إلى ذلك المكان الرهيب؟ حاجتي إلى المال وإلى إيجاد مكان بعيد عن كلّ ما يُذكّرُني بخطيبي السابق مروان. كنتُ قد تركتُ عمَلي لأكون زوجة وأمًّا مثاليّة، ووجدتُ نفسي بلا مدخول بعدما كشفتُ حقيقة مروان البشعة ووضعتُ حدًّا لعلاقة دامَت أكثر مِن ثلاث سنوات. لِذا، عندما قرأتُ إعلانًا عن مؤسّسة تربويّة داخليّة تبحثُ عن مُدرّسة قسم إبتدائيّ، لَم أتأخّر للإتصال بهم، خاصّة أنّ فرَص العمَل باتَت قليلة وسط ظروف البلد الإقتصاديّة.

أُجريت مُقابلة في مكتبهم في العاصمة، وكان القيّمون ممنونين مِن سيرتي الذاتيّة فبدأتُ العمَل في المؤسّسة بعد حوالي الشهر، أي ما يكفي لأُحضّر كلّ ما آخذه معي للعَيش بصورة شبه دائمة بين تلاميذ المُستقبل.

لَم يلقَ رحيلي الترحيب مِن قِبَل ذويّ، خاصّة والدي الذي كان مُتعلّقًا جدًّا بي كوني إبنته البكر، لكنّ والدتي أقنعَته بتقبّل الأمر لأنّني شبه مُحبطة بعد فسخ خطوبتي ولأنّ الإبتعاد سيُفيدني كثيرًا. قبّلتُهما وأخوَتي وأخذتُ الباص إلى تلك المدرسة الضخمة الموجودة في أعالي الجبال. لَم يخطُر ببالي أنّ موقعها كان عنصرًا مُساعدًا لإخفاء ما يحصل داخلها. فكنتُ سأكتشفُ أشياءً كثيرة رغمًا عنّي وأنسى تمامًا مروان.

إستقبلَتني نائبة المدير، إمرأة في الأربعين مِن عمرها. كانت ملامحها قاسية وتنظرُ إليّ وكأنّني فعلتُ شيئًا مُشينًا. إبتسمتُ لها مرارًا على أمل أن تردّ لي تلك البسمات، إلا أنّها بقيَت جدّيّة طوال حديثها عن واجباتي كمدرّسة في المؤسّسة. هي لَم تأتِ على ذكر حقوقي، وكأنّني ليس لي أيّة منها ثمّ نادَت صبيّة إسمها نجاح وطلبَت منها مُرافقتي إلى "غرفتي" التي كانت أشبَه بزنزانة. وقفتُ عند الباب أنظرُ إلى السرير الصغير المُلتصِق بالحائط والخزانة الضيّقة الموضوعة قبالته. في إحدى الزوايا كانت هناك طاولة بشعة وقديمة فقط. سألتُ عن الحمّام، فأجابَتني الفتاة أنّه في آخر الرواق وأنّ عليّ تقاسمه مع باقي المدرّسات. لَم يُعجبني الأمر طبعًا لكنّني سكتُّ، ففي آخر المطاف لَم أكن في بيتي لأنعَمَ بالرخاء بل في مبنى عمره حوالي المئة سنة. كان الوقت قد صارَ مُتأخّرًا فلَم أحصل على وجبة العشاء التي قُدِّمَت قبل ساعات، ففضّلتُ النوم لأتحضّر لبدء عملي في الصباح الباكر.

 


لم أنَم إطلاقًا ونهضتُ مِن سريري بمزاج سيّي حاولتُ إخفاءه عن الذين كانوا سيتعرّفون إليّ للمرَة الأولى مِن زميلات وتلامذة.

دخلتُ غرفة الطعام لتناول الفطار فسكَتَت المُدرّسات الموجودات، الأمر الذي أربكَني. إلا أنّ نجاح أسرعَت وأجلسَتني قرب مُدرّسة لطيفة. بدأَت الصفوف وجرَت الأمور جيّدًا نسبة لِما توقّعتُه، خاصّة أنّ تلامذة المؤسّسة كانوا مُنضبطين للغاية. للحقيقة، لَم أرَ طوال حياتي المهنيّة هكذا انضباطًا.

في فرصة نهاية الأسبوع ذهبتُ أزورُ أهلي وعدتُ إلى المدرسة لأبدأ أسبوعًا آخر.

فور رجوعي، طلَبَ مُدير المؤسّسة رؤيتي، الأمر الذي سرَّني، فهو تجاهلَني على مدى أسبوع بكامله. دخلتُ مكتبه والبسمة على وجهي فوجدتُه عابسًا تمامًا كمساعدته. جلستُ على كرسيّ قبالته فقال لي:

 

ـ أهلاً بكِ يا آنسة، هل أخبروكِ عن واجباتكِ؟

 

ـ أجل سيّدي لكن ليس عن حقوقي... أعني بذلك أنّني لَم أطّلِع على قانون المؤسّسة.

 

ضحِكَ المدير ثمّ تابَعَ:

 

ـ لدَينا قُصر في الموظّفين... قليلون هم الذين واللواتي يرغبون بالعمل في مدرسة داخليّة، لِذا سنطلبُ منكِ القيام ببعض المهمّات.

 

ـ مهمّات؟ مثل ماذا؟

 

ـ ستعرفين في الوقت المُناسب. أرجو منكِ القيام بما يُطلَب منكِ مِن دون مُناقشة.

 

ـ إن كانت تلك الأمور مقبولة فسأقبلُها.

 

لَم يُعجِبه جوابي فأشارَ إليّ الباب بإصبعه مُضيفًا: "إنتهَت المُقابلة".

لاحقًا في النهار سألتُ عايدة، المُدرّسة اللطيفة، عمّا قصَدَه المُدير، فقالَت إنّني سأعتني بأولاد صفيّ كما هي تفعل، أي أقومُ بدور الموظّفة التي استقالَت والتي كانت المسؤولة عن نظافة التلامذة والتحقّق مِن ترتيب أسرّتهم ومُراقبة نومهم. نظرتُ إليها بتعجّب، فتلك لَم تكن مواصفات عمَلي بل جئتُ لأدرّس وحسب. بقيتُ بمزاج عكر حتى المساء ونمتُ على أمَل ألا يُطلبَ منّي أكثر ممّا جئتُ أفعله.

لكن في صباح اليوم التالي دقَّت مُساعدة المُدير بابي باكرًا وزفَّت لي الخبر: كانت زميلتي على حقّ. حاولتُ التملّص مِن تلك المهام لكن مِن دون جدوى فقد كان عليّ القبول أو المغادرة. إمتلأَت عينايَ بالدموع لأنّني كنتُ بحاجة إلى ذلك العمل والتجأتُ إلى نجاح التي وعدَتني بمساعدتي، على الأقل في البداية لأنّها هي الأخرى كانت مشغولة للغاية.

في المساء، إصطفّ التلامذة أمام باب الحمّام ومنشفة بِيَدهم، واحترتُ لكيفيّة إعطائهم الحمّام فلَم أفعل ذلك مِن قبل. أخذَت نجاح عددًا منهم وأرَتني كيف أفعل. شكرتُ ربيّ أنّ التلامذة هم في سنّ صغير للغاية وإلا لكان الأمر مُحرجًا، فقد كان هناك عدد مِن الصبيان بينهم. ثمّ دخلوا أسرّتهم وبعد أن تحقّقتُ مِن أنّهم صاروا جاهزين للنوم، أطفأتُ الأنوار. عدتُ إلى غرفتي لأجدها خالية مِن أمتعتي. ركضتُ إلى نجاح لأستفسر عن إختفاء أغراضي، فأخبَرتني أنّها نقلَتها بنفسها إلى غرفة مُلاصقة لِمسكن الأولاد. أقولُ غرفة، لكنّ المكان كان قسمًا مِن المهجع يفصلُ بينهما ستار فقط. كدتُ أبكي لكنّني حبستُ دموعي. لَم يقُل لي أحدُ حين أجريتُ المقابلة إنّ كلّ ذلك مطلوب منّي. لقد أوقعوا بي.

 


علاقتي بباقي المدرّسات كانت عاديّة للغاية لا بل ناشفة بعض الشيء، ووحدها عايدة كانت تجلسُ معي ونتبادَل الأحاديث. لكنّها لَم تكن تأتي أبدًا على ذكر ظروف عملها في المؤسّسة وكأنّ الأمر هو إمّا مُحرّم عليها أو يُخيفها.

زادَ توترّي على مرّ الأيّام وصِرتُ أنامُ بصعوبة، مع أنّ الأولاد لَم يُزعجوني خلال نومهم بل حبّهم لي أعطاني القوّة للإستمرار. فكّرتُ كثيرًا بأوضاع هؤلاء الصغار الذين كانوا بمعظمهم أيتامًا والباقي أولاد أناس ليس باستطاعتهم إرسالهم إلى مدارس عاديّة بسبب ظروفهم الصعبة، وشكرتُ ربّي مرارًا على الطفولة الهنيئة التي حظيتُ بها وسط أهل محبّين.

بعد حوالي الشهر، أخبرَتني نجاح أنّني صرتُ جاهزة للإهتمام بالأولاد لوحدي، لكنّني شعرتُ بهمّ كبير لهكذا مسؤوليّة.

في المساء نفسه، أعطَيتُ حمامّهم لكلّ تلاميذي، الأمر الذي أرهقَني لأقصى درجة فقد كان عددهم كبيرًا للغاية. لاحظتُ أنّ أحدهم، يوسف، يحمل آثار كدمات، فسألتُه عن الأمر وهو أجابَني بأنّه وقَعَ وأذى نفسه. عانقتُه لأنّه بدأ بالبكاء وحملتُه إلى سريره وبقيتُ معه إلى أن غاصَ في النوم. حزنتُ مِن أجله فمِن الواضح أنّه كان بحاجة إلى حنان أمّه التي، كما علِمتُ لاحقًا، كانت قد ماتَت وهي تلِده. سألتُ نجاح عن والده وعلِمتُ أنّه ترَكَ إبنه في المؤسّسة وسافَرَ بعيدًا. وعدتُ نفسي بأن أُبقي عليه عينًا ساهرة، وأن أُبذلُ جهدي لإعطائه الإهتمام الذي هو بحاجة إليه.

مرَّت الأيّام والأسابيع مِن دون حدَث معيّن حتى لاحظتُ غياب يوسف. إستغربتُ الأمر فتوجّهتُ إلى نجاح التي أخبرَتني بأنّه مريض بعض الشيء ويقضي النهار في مستوصف المؤسّسة. لَم أزُر ذلك المكان مِن قبل الذي يتواجد في جناح بعيد عن مكان النوم والتدريس. إنتظرتُ حتى أنهَيتُ التدريس لأرى ذلك الولد الصغير. وجدتُه نائمًا في المستوصف مِن دون مُراقبة وحول ذراعه جبس. عندما استفاق المسكين سألتُه عمّا حدَثَ له فأجابَني أنّه وقَعَ مرّة أخرى. قبّلتُه ووعدتُه بأن أعود لاحقًا وقصدتُ بسرعة نجاح لمعرفة لماذا قالَت لي إنّ يوسف مريض وليس إنّه كسَرَ ذراعه. وتفاجأتُ بها تصرخُ بي: "كفاكِ أسئلة! ما الفرق؟ مرَض أم كِسر، فالأمر سواء!". بقيتُ واقفة مكاني أفكّر بسبب تصرّف تلك الصبيّة غير المُبرَّر وهي تركَتني وعادَت إلى أشغالها.

بعد يومَين، عادَ يوسف إلى الصفّ وإلى سريره وصارَ بمثابة أخ صغير لي. لكنّ المسكين كان دائم الحزن بالرغم مِن اهتمامي به، وكان كلامه قليلاً خاصّة عندما أحثُّه على الإنتباه مِن الوقوع، فكان مِن الواضح أنّه أخرَق بعض الشيء.

إكتشفتُ حقيقة ما يحصل مِن إحدى تلاميذي التي قالَت لي بعدما أعطَيتُها حمّامها:

 

ـ لا تقسي على يوسف يا آنسة فلا دخل له بكسر يده.

 

ـ أنا لا أقسو عليه بل أُريدُه أن ينتبه أكثر... أعلم أنّ لا دخل له بما حصل فهو وقَعَ ولا أحد يقصدُ الوقوع.

 

ـ لا... أعني أنّ المدير هو الذي سبَّبَ له ذلك... فهو يضربُنا ويُؤذينا إذا اشتكى أحدٌ منّا.

 

ـ ماذا؟!؟

 

خافَت الفتاة مِن صرختي فسكتَت ثمّ بدأَت بالبكاء. قبّلتُها بحنان وهدّأتُها إلا أنّها لَم تقل لي المزيد.

هل يُعقل أنّها قالَت الحقيقة، أم أنّ الأمر هو مُجرّد خيال وتأليف كما يحصل غالبًا مع الأولاد؟ كان عليّ معرفة الحقيقة... لكن بأيّ ثمن؟

 

يتبع...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button