حزِنَ زوجي كثيرًا حين أخبرتُه أنّني وجدتُ عَملاً كموظّفة تنظيفات، فبسبَب الحادث الذي تعرّضَ له هو لَم يعُد قادرًا على تأمين القوت لنا. أنا الأخرى وجدتُ صعوبة لإستيعاب رداءة حالتنا المادّيّة وضرورة الحصول على مصدر رزق، لكنّني لطالما كنتُ شجاعة وواقعيّة. كان لا بدّ أن نُطعِمَ أولادنا حتى لو اقتضى الأمر القيام بالتضحيات. وبما أنّني لَم أُنهِ علمي ولَم أعمَل سابقًا، كانت الفُرص محدودة. أكّدَ لي زوجي أنّه سيتّبع تعليمات الطبيب، ويقوم بالتمارين اللازمة لاستعادة حركته طالبًا منّي الصبر والتحمّل. قبّلتُه بحنان وتمنَّيتُ له الشفاء العاجل.
بدأتُ العمل في ذلك الفندق الكبير، وشعرتُ بالهمّ حين علمتُ كَم يحتوي من غُرف. لِحسن حظّي، لَم أكن العاملة الوحيدة، بل كنّا فريقًا ترأسُه سيّدة بدأَت مِن أسفل السلّم وارتقت بسبب عملها الجدّي والدّؤوب. أرَتني إحدى زميلاتي كيف عليّ تنظيف وترتيب كلّ غرفة أدخلُها، وبما عليّ ملء عربَتي التي تُرافقُني أينما كنتُ.
وفي يومي الأوّل، عدتُ مُنهكة إلى البيت، لكنّني لَم أدَع أيّ فرد مِن عائلتي يشعرُ بتعَبي. غرقتُ في النوم بعد أن داعَبَ زوجي شعري وشكرَني على ما أفعله.
في اليوم التالي، قصدتُ الفندق بعزم وفرَح، فما عساي أفعل سوى ذلك؟ وجدتُ مهمّتي أسهل وأقلّ تعبًا، وتسنّى لي التكلّم مع زميلاتي في غرفة الاستراحة ووجدتُ أنّ الأجواء بينهنّ كانت مرِحة، الأمر الذي فرَّحَ قلبي. فكَم مِن الصعب أن يدخل الإنسان مجموعة جديدة حيث الكلّ يعرف الكلّ منذ فترة. إلا أنهنّ رحَّبنَ بي، وعمِلنَ ما يلزم لأشعر بأنّني لستُ غريبة عنهنّ... ما عدا السيّدة هند، المسؤولة عنّا. فهي لَم تستلطفني على الإطلاق بل عاملَتني بقساوة واضحة. لَم أفهَم سبب موقفها منّي، فهي لَم ترَني كفاية لتكوّن فكرة عنّي، إيجابيّة كانت أم سلبيّة. إلا أنّ إحدى زميلاتي أخذَتني جانبًا وقالَت لي حين رأَت الدموع في عَينَيّ:
ـ إنّها هكذا... نحن أيضًا عانَينا منها في البدء. الأمر ليس مُصوبًّا ضدّكِ، بل لأنّكِ جديدة. فهي تصبّ كلّ ما لدَيها عليكِ قَبل أن تفهمي قصدها.
ـ يا للمسكينة!
ـ مسكينة؟
ـ أجل، فوحدهم التعساء يتصرّفون هكذا. أنا لا أُحسدُها.
شعرتُ أنّ زميلتي تودّ إخباري شيئًا، إلا أنّ فترة الاستراحة انتهَت وكان علينا العودة إلى عمَلنا. ومنذ ذلك اليوم حاولتُ تفادي السيّدة هند قدر المُستطاع، وإذا لَم أنجَح بذلك، فكنتُ أفعلُ جهدي لتجاهل لهجتها القاسية ومُلاحظاتها المجّانيّة.
مرَّت حوالي الثلاثة أشهر على وجودي في الفندق، حين رأيتُ في غرفة المؤن السيّدة هند وهي تبكي. هي خالَت أنّ لا أحدًا سيجدُ مخبأها، لِذا صرخَت بي عاليًا وهي تحاول إخفاء دموعها:
ـ ماذا تفعلين هنا؟!؟ هيّا أخرجي في الحال وعودي إلى عملكِ!
ـ لَم أرتكب خطأ سيّدتي، بل جئتُ أعبّىْ عربتي... للعودة إلى العمل.
ـ حسنًا، حسنًا... هيّا أخرجي!
ـ لِما أنتِ تعيسة يا سيّدتي؟
ووضعَت يدي على كتفها وأنا أقول لها ذلك، لأريها أنّني أشعرُ بحزنها مهما كان. لكنّها إبتعدَت عنّي وصفعَتني بقوّة على يدي ، صارخة:
- إيّاكِ أن تلمسيني مُجدّدًا!
أسِفتُ مِن أجلها، فكان مِن الواضح أنّها تُعاني مِن مشاكل مُهمّة، لذلك فضّلتُ تركها لوحدها. مرَّت بضع أيّام حين طلبَت المسؤولة عنّي رؤيتي على إنفراد. خفتُ أن تكون قد قرّرَت طردي، إلا أنّها قالَت لي بهدوء:
ـ أنا آسفة على تصرّفي... لَم أقصد... لكنّكِ تمادَيتِ معي، أعني أنّكِ حاولتِ التقرّب منّي ومِن حياتي الشخصيّة.
ـ كنتُ فقط أودّ مواساتكِ والتخفيف مِن حزنكِ يا سيّدتي. فلا يجدرُ بأحد أن يختبئ للبكاء.
ـ لَم أكن أبكي.
ـ كما تشائين سيّدتي.
ـ عودي إلى ما كنتِ تفعلينه... شيء آخر... إحترسي مِن صاحب الفندق.
ـ لماذا؟
لَم تُجِب بل تركَتني ورحَلت. كنتُ سعيدة بأنّها اعتذرَت لي، لكنّ جملتها الأخيرة شغلَت بالي. للحقيقة، لَم أتعرّف إلى صاحب الفندق لأنّه كان قد سافَرَ مرّات عديدة منذ بدء عمَلي في فندقه، ولَم أتصوّر أنّه قد يودّ رؤية عاملة تنظيف. لِذا رحتُ إلى تلك الزميلة التي صارَت مُقرّبة منّي وسألتُها:
ـ ما رأيكِ بصاحب الفندق؟
ـ لِما تسألين عنه؟
ـ مِن دون سبب... سمعتُ أنّه دائم السفَر وأصابَني الفضول بشأنه.
ـ حين يكون مُسافرًا نكون بأفضل حال... يا لَيته لا يعود!
ـ ماذا تقصدين؟ وهل هو صعب الطباع؟
ـ نصيحة منّي... لا تأتي على ذكره أمام زميلاتنا وخاصّة السيّدة هند!
عندها شعرتُ حقًا أنّ هناك ما عليّ معرفته. لِذا إنتظرتُ أن يعود الرجُل مِن سفرته لأراقب ماذا يحصل.
بعد فترة سمعتُ الفتيات وهنّ يتبادلنَ خبَر وصول السيّد كمال مِن الخارج، وقرأتُ الهمّ على وجوه أغلبيّتهنّ والترقّب في عيون البعض. عندها اخذَتني زميلتي جانبًا وأوصَتني بعدَم ترك مكان عمَلي والصعود، ولو سهوًا، إلى ردهة الفندق، فالمكان مليء بأجهزة الفيديو.
وسألتُها إن كانت غرفة الاستراحة أيضًا مُجهّزة بالكاميرات وهي أجابَت مُبتسمة:
- لقد عطّلناها مرّات عديدة، فاستسلمَ مسؤول الصيانة ولَم يعُد يُحاول إصلاحها. فيحقّ لنا أن نحظى ببعض الخصوصيّة.
لَم أرتَح لهذا الخبر، فكان مِن الواضح أنّ شيئًا مُريبًا يحصل في الفندق، لكن لماذا التكتّم؟
علِمتُ الجواب حين استدعاني السيّد كمال وقرأتُ الهمّ في عيون زميلاتي، فركضَت السيّدة هند وأزالَت عن وجهي أحمر الشفاه وبعثرَت شعري قليلاً. وقفتُ وسط الصبايا أتساءَل عمّا قد حصَلَ فجاءَت إحداهنّ ورشّتني بسائل الكلور ذي الرائحة القويّة والمُزعجة. للحقيقة غضبتُ منهنّ إلا أنّ صاحب الفندق كان بانتظاري ولَم يعُد وقت لتبديل ملابسي وتحسين مظهري. ماذا يحصل؟ هل أرادَت المسؤولة وزميلاتي تشويه صورتي أمام السيّد كمال؟ وماذا لو طردَني بسبب مظهري ورائحتي؟ كنتُ بحاجة ماسّة إلى هذا العمل، فإلى جانب مُرتّبي، كنتُ أجني الكثير مِن الإكراميّات مِن قِبَل النزلاء.
دخلتُ مكتب السيّد كمال بِخجل، وهو انزعجَ مِن رائحة الكلور لدرجة أنّه فتَحَ شبابيكَ مكتبه، ونظَرَ إليّ بقرَف واضح. إلا أنّه قال لي:
ـ أهلاً بكِ في فندق... كنتُ أودّ التعرّف إليكِ كونكِ عنصرًا جديدًا في فريق التنظيفات. هيّا، عودي إلى عمَلكِ.
إمتلأت عينايَ بالدموع، لأنّني فهمتُ أنّ ما فعلَته الصبايا والسيّدة هند قد حمَلَ السيّد كمال على الاشمئزاز منّي. رحتُ إليهنّ غاضبة للغاية وبدأتُ أصرخُ بهنّ عاليًا:
ـ زوجي شبه كسيح وليس لدَينا مورد رزق سوى هذا العمَل! أتردنَ أن نموت جوعًا؟ حسبتُكنّ صديقاتي!
إلا أنّ السيّدة هند أمسكَتني بذراعي، طالبةً منّي التوقّف عن الصراخ ومُرافقتها إلى غرفة المؤن. وهناك قالَت لي:
ـ أيّتها الغبيّة، لقد أنقذناكِ مِن مخالب السيّد كمال... فهو وحش ضار، وسيقلبُ حياتكِ إلى جحيم لأنّه يستغلّ حاجتنا إلى لقمة العَيش لإرضاء حاجاته الجنسيّة المرَضيّة.
ـ ماذا؟ إنّه مُتزوّج، وإن قرَّرَ إقامة علاقة مع امرأة، يُمكنه اختيار مَن يشاء مِن النساء!
ـ لكنّه يهوى مَن هنّ دون مستواه... يُحبُّ العاملات لأنّه بذلك يشعرُ بالتفوّق عليهنّ. كلّنا مرَرنا على أريكة مكتبه، صدّقيني.
ـ أنتِ أيضًا يا سيّدتي؟!؟
ـ كنتُ أوّلهنّ... في البدء صدّقتُه حين قال لي إنّه يُحبّني، وقبلتُ بالقيام بكلّ ما طلبَه منّي، أي بأمور لا يتصوّرها العقل... لكن حين اكتشفتُ أنّه فقط إنسان مريض ومُنحرف، بدأ يتصرّف معي بعدائيّة وهدّد بطردي. آنذاك كنتُ يافعة وبحاجة للمال مِن أجل علاج أمّي المريضة، رحمها الله.
ـ ولماذا بقيتِ في هذا العمَل بعد وفاة أمّكِ؟
ـ للحفاظ على سُمعة وشرَف الصبايا. فأنا أقسو عليهنّ على أمّل أن تتركنَ العمَل مِن تلقاء أنفسهنّ أو، إذ بقينَ، فأنا أُخذّرُهنّ منه. وكنتُ أوّل مَن عطَّلَ الكاميرات في غرفة الاستراحة بعد أن عرفتُ كيف أنّ ذلك الوحش يُراقبُنا يختارُنا حساب مزاجه.
ـ يعني أنّ زميلاتي...
ـ ليس جميعهنّ... فالبعض أفلَتَ منه لسبب أو لآخَر، والبعض بقيَ بسبب حاجتهنّ للعمَل وهناك مَن... مَن يروقُ لها أن يهتمّ بها صاحب الفندق.
ـ علينا إخبار زوجة السيّد كمال بالذي يفعله!
ـ فكّرتُ في الأمر منذ البدء، إلا أنّها على علم بذلك، والوضع يُريحُها إذ أنّها لا تُفكّر سوى بصرف ماله.
ـ سأقدّم استقالتي!
ـ لا، فأنا مُتأكّدة مِن أنّ السيّد كمال ليس مُهتمًّا بكِ، فلقد فعلنا اللازم!
ضحكنا سويًّا إلا أنّني صمّمتُ على الرحيل فور تحسّن حالة زوجي. لَم أسأل زميلتي المُقرّبة إن كانت وقعَت ضحيّة صاحب الفندق كي لا أحرجُها.
نما في قلبي احترام فائق للسيّدة هند، وصرنا أعزّ الصديقات. ويوم تركتُ العمل بعد سنة كاملة، ذرفنا سويًّا الدموع. لَم أخبِر زوجي بالذي حصَلَ ويحصُل كي لا أزيد مِن شعوره بالذنب.
بعد سنة، علِمتُ أنّ زوجة السيّد كمال رفعَت عليه دعوى طلاق، وحصلَت على نصف الفندق وباتَت هي تجلسُ مكانه في مكتبه. هي ارتاحَت أخيرًا مِن خياناته لها، فمهما كانت تُحبّ المال، لن ترضى سيّدة بأن يخونها زوجها علنًا. سافَرَ الزوج مِن غير عودة، فهو لقي مصرعه في حادث سَير، ولَم يبكِه أحد.
وحتى اليوم لا أزالُ على تواصل مع كامل فريق العمَل وخاصّة السيّدة هند.
حاورتها بولا جهشان