ما أكبر حكمتكَ يا رب!

تعلّقي بالله وتعاليمه يعود إلى صغري. كنتُ في السّابعة مِن عمري حين سمعتُ موعظة أثّرَت بي كثيرًا تتناول حبّ الخالق لنا وحرصه على حمايتنا، وتيسير أمورنا لأنّه يُحبّنا ويعرف خَيرنا. وإيماني هذا ساعَدَني على تحمّل أشياء كثيرة حَدَثَت لي خلال حياتي، بدءًا مِن تصرّف والدَيَّ تجاهي.

لم أعرف يومًا لماذا كانا يُفضّلان أخي الصّغير عليّ. وقد عانَيتُ مِن العزلة والتوبيخات على كلّ كبيرة وصغيرة ومن عدم إيمانهما بقدراتي. ولكنّني لم أكن لوحدي، لأنّ حليفي كان أقوى مِن الكلّ وكان يحثّني على التحمّل والمثابرة. وهكذا استطعتُ أن أدرس مِن دون مساعدة أحد، وأحصد أعلى العلامات في المدرسة وأنال شهادتي بتفوّق. وبالرّغم مِن ذلك، لم أسمع كلمة تهنئة مِن اللذَين أنجباني، ولم أرَ في عينَيهما نظرة الفخر والإعتزاز. فهما كانا مشغولَين بأخي الذي كان، ومِن كثرة الدلَع، يرسب سنة بعد سنة، ويخلقان له شتّى الأعذار ربما ليُقنعا نفسهما بأنّهما ليسا المخطأين.

ولن أستطيع وصف فرحتي حين قُبِلتُ بجامعة كبيرة في العاصمة، وعلمت أنّني سأنام في حرمها بعد أن رأى أبوايَ أنّهما سيرتاحان منّي ويستطيعان تكريس وقتهما لإبنهما الأصغر. فالجدير بالذكر أنّهما وجدا أنّ رسوب أخي سببه تفوّقي، وأنّني السّبب في عدم نجاحه وتحطيم شخصّيته. لم أكترث للأمر، بعدما فُتِحَت بوجهي أبواب السّجن الذي كنتُ أعيش فيه.

ودخلتُ الجامعة لأتخصّص بإدارة الأعمال، وكانت حياتي جميلة وسط زملائي الذين سرعان ما أصبحوا عائلتي الثانية لا بل عائلتي الحقيقيّة. معهم عرفتُ معنى الأخوّة والمحبّة والمساعدة المتبادلة. وهناك تعرّفتُ إلى علياء، أجمل فتاة في حَرَم تلك المؤسّسة الضخمة. كانت رقيقة وذكيّة ومِن عائلة محترمة. وأحببنا بعضنا، واتفقنا أن نتزوّج حالما نحصل على إجازتنا. كانت الدنيا تبتسم لي مِن كلّ النواحي ولم أنسَ طبعًا شكر الله على عَينه الساهرة.

ومرَّت السنوات مِن دون أيّة مشكلة، حتى خلتُ حقًا أنّني أعيش في نعيم. وحدّدنا موعد الفرح، وفرّقنا بطاقات الدّعوة واشترَيتُ بذّتي الجميلة. ولكن قبل الزفاف بيومَين لم تعد علياء تجيب على مكالماتي.

 

إنشغل بالي عليها كثيرًا، فلم يكن مِن عادتها أن تترك هاتفها يرنّ هكذا خاصّة بعد محاولات عديدة. قصدتُ منزل ذويها، وحين فتحَت أمّها الباب بدا على وجهها الإحراج والأسف. خلتُ طبعًا أنّ مكروهًا حَصَلَ لخطيبتي، وبدأتُ بالصّراخ لأحثّ المرأة على التكلّم. ولكنّها اكتفَت بقول جملة لن أنساها بحياتي:

 

ـ ذهبَت علياء خطيفة مع غيركَ.

 


وقفتُ أمامها والدّموع تنهمر على خدَّيَّ كالطفل الصغير، ورحلتُ أبكي على سجيّتي في المكان الذي كنت ألجأ إليه حين كنتُ أعاني مِن برودة أبويَّ، أي في حرج قريب مِن بيتنا مليء بالأشجار العالية والكثيفة. جلستُ على جذع شجرة مقطوعة، ونادَيتُ الله الذي لطالما سانَدَني، وسألتُه لِما تخلّى عنّي حين كنتُ على وشك بلوغ أقصى سعادتي. وبعدما مسحتُ دموعي، عدتُ إلى البيت حيث سجنتُ نفسي لمدّة أشهر.

وبعدما استطعتُ لملمة نفسي مِن جديد، قرّرتُ البحث عن عمل ووجدتُ بسرعة وظيفة في شركة عالميّة. وعادَ إليّ التفاؤل، وانكببتُ على مسؤوليّاتي لأنسى علياء وخيانتها لي.

وصعدتُ سلّم النجاح بفضل ذكائي ومهارتي، فكما قلتُ سابقًا كنتُ دائمًا مِن المتفوّقين في مجالي. وجاء مديري وعَرَضَ عليّ منصبًا يتطلّب أخذ القرارت المهمّة لمسار الشركة، وتفاجأتُ بهذا الكم مِن الثقة واختياري أنا بالذات على مَن كان موجودًا قبلي بكثير. ولكنّني لم أخَف مِن شيء لأنّني كنتُ أهوى التحدّيات. وازدَدتُ اجتهادًا، وبتُّ أعمل لساعات طويلة بعد الدوام لأنجز الملفّات في الوقت المناسب، خاصّة أنّني كنتُ أضع توقيعي على كلّ منّها وأتحمّل مسؤوليّة سير العمل. كنتُ قد نسيتُ علياء بعد أن انفَتَحَت الأبواب التي أغلَقتها بمكرها.

ولكنّ نعيمي لم يدم طويلاً. فذات مساء حين كنتُ كعادتي في الشركة أنهي ملفًّا بعد الدوام، غرقتُ في النوم لكثرة تعبي. وإذ بي أستيقظ على أصوات آتية مِن آخر الرّواق. في البدء ظننتُ أنّني أحلم، لأنّ كلّ الموظّفين كانوا قد غادروا منذ ساعات، ولكن سرعان ما أدركتُ أنّ هناك فعلاً أحد في أحد المكاتب. نهضتُ مِن كرسيّ وتوجهتُ نحو مصدر الأصوات، وإذ بي أفاجئ المدير وسكرتيرته في وضع حرج. وصَرَخ بي الرجل:

 

ـ ما بكَ تنظَرَ إليّ هكذا؟ إرحل! إرحل!

 

وتركتهما وملفّي وعدتُ إلى بيتي. صحيح أنّني تفاجأتُ بما كان يفعله مديري، خاصّة أنّه كان متزوّجًا، ولكنّ الأمر لم يكن مِن شأني. فعندما عدتُ إلى الشركة في اليوم التالي، كنتُ قد نسيتُ الموضوع لكثرة إنشغالاتي. إلا أنّ مديري لم يكن ينوي المخاطرة بإبقائي بالقرب منه، فقد خاف أن أفضَحَ أمره عند زوجته أو باقي الموظّفين. لِذا قرَّرَ الإستغناء عن خدماتي. وحين استدعاني إلى مكتبه في الصباح الباكر قال لي:

 

ـ إسمع... لَديكَ خياران: إمّا أن تستقيل على الفور أو أن تبقى. إذا إختَرت الثاني لن تكون مسرورًا، لأنّني سأعمل جهدي لإيجاد أصغر خطأ تقترفه لأتذرّع به وأحمل قضّيتَكَ أمام مجلس الإدارة... وهذا لن يكون لمصلحتكَ عندما تفتّش عن عمل جديد... هل كلامي واضح كفاية؟

 

وأمام ذلك التهديد ولأنّني كنتُ أعلم أنّ الرجل ينوي فعلاً التخلّص منّي، فضّلتُ الإستقالة. وتبخّرَت أحلامي بالنجاح وذهَبَ معها تعبي. كنتُ قد تغلّبتُ على ما حَدَث لي مع علياء بفضل انكبابي على عملي، فوجدتُ نفسي فجأة مِن دون شيء. قصدتُ ملجئي المعتاد لأتحسّر على نفسي وأناجي ربّي بعدما خذلني مرّة أخرى.

وفي طريقي إلى البيت، عادَت إليّ آمالي، لأنّني قرّرتُ تأسيس شركة خاصّة لي بالمال الذي ادَّخَرتُه مِن عملي والذي سلّمتُه لأمّي قائلاً:

 

ـ خذي منه ما يلزمكِ للمنزل وخبّئي لي الباقي، فلَن أجد مكانًا أفضل لحفظه.

 

وحين طالبتُ والدتي بما هو لي، نظَرَت إليّ بِحَرَج وأجابَتني:

 

ـ تعلم كيف هو أخوكَ...

 

ـ وما دخل أخي بالموضوع؟

 

ـ أعنّي أنّه في ضيقة ماليّة دائمة... هو ليس بذكائكَ أو شطارتكَ وكلّ شيء صعب عليه... لم أستطع تركه هكذا... لذا...

 

ـ ماذا فعلتِ؟؟؟

 

ـ لقد أعطَيتُه مدّخراتكَ... لا تزعل منّي يا بنيّ! قال إنّه سيُرجع مالكَ حالما يجد عملاً.

 

- وصدّقتِه؟؟؟ لطالما كان كسولاً وكذوبًّا... وذلك بسبب تدليعكِ له أنتِ وأبي... فضلّتماه عليّ وأعطيتماه حبّكما وانتباهكما، والآن ما هو لي... يا ليتني أعرف السّبب... ماذا فعلتُ لكما كي أكافأ على هذا الشكل؟ ليُجازيك الله... هذا إن كان يسمعني بعد... فالظاهر أنّه تخلّى عنّي هو الآخر... وداعًا يا أمّي.

 


وركضتُ إلى الحرج لأسأل الذي خلقَني لماذا تَرَكني بعدما أوهمَني أنّ بإمكاني تذوّق طعم السعادة. جلستُ على جذع الشجرة ونظرتُ إلى السماء وصرختُ:

 

ـ أين أنتَ؟ منذ صغري وأنا أصلّي لكَ ووثقتُ بحكمتكَ المطلقة... تركَتْني خطيبتي قبل يومَين مِن الزفاف، وطردَني مديري وأنا في أوج مسيرتي المهنيّة، وخانَت أمّي ثقتي باعطاء ما جنَيتُه لأخٍ فاشل... عفوكَ، يا ربّي... أين الحكمة في كلّ ذلك؟

 

ولم أنتهِ مِن لفظ تلك الكلمات حتى سمعتُ صوتًا بالقرب منّي. للوهلة الأولى ظننتُ أنّ الله هو الذي يُجيبني. ولكنّ مخاطبي كان رجلاً في الستّين مِن عمره إستوقَفه صراخي. قال لي بصوت هادئ:

 

ـ لا داعٍ للصّراخ، يا بنيّ... فالله يسمع همسات قلبكَ المتألّم ويعمل على تضميد جراحه.

 

ـ على تضميد جراحه؟ لا بل على زيادة آلامه!

 

ورويتُ له قصّتي منذ البداية. إستمَعَ الرجل اليّ وبقيَ صامتًا يهزّ برأسه، وانتظر حتى أكملتُ حديثي ليقول لي مبتسمًا:

 

ـ سامحني إن كنتُ ابتسم ولا تظنّ أنّني أستخفّ بما حصل لكَ، ولكنّني أرى في قصّتكَ إثباتًا واضحًا لرعاية الله لكَ، لأنّه لا يترك عباده عرضة للعذاب والقهر بل يأخذهم إلى برّ الأمان... لا يسعنا فهم حكمته لأنّنا نفكّر كبشر وهو إله... خلقَنا لنكون سعداء وبؤسنا لا يأتي منه بل مِن أفعالنا وخياراتنا. قلتَ لي إنّكَ لطالما وضعتَ حياتكَ بين يدَيه ووثقتَ بحكمته، فلا تتوقّف الآن بل أنظر بتمعّن إلى ما فعَلَه مِن أجلكَ... راجع أحداث حياتكَ، وستجد أنّ ما حصَلَ لكَ لم يكن إلّا لمصلحتكَ، حتى لو دلّت المؤشّرات على غير ذلك... هل سألتَ نفسكَ ما الذي حصل بعدما تركَتكَ خطيبتكَ، وطردَك مديرك، وأخذ أخوكَ مالكَ؟ أطلب المغفرة مِن ربّكَ ونقّي روحكَ وذهنكَ وسترى الصورة الكاملة.

 

قال الرّجل ذلك وأدارَ ظهره وأكمل طريقه. وقبل أن يغيب عن نظري، صرختُ له:

 

ـ قل لي مَن أنتَ!

 

ـ أنا؟ أنا... عابر سبيل أمرّ بكلّ مَن احتاج الرّجوع إلى الطريق الصّحيح.

 

جلستُ أصلّي حتى الليل. خجلتُ مِن نفسي لأنّني تجرّأت على الشكّ بتدبير ربّي، فمَن أكون لأملي عليه كيفيّة التصرّف بحياتي؟

 

وحين عدتُ إلى البيت قبّلتُ أمّي وقلتُ لها: "خيرًا فعلتِ".

 

وتابعتُ حياتي بتفاؤل وإيمان، وسرعان ما وجدتُ عملاً آخرًا يُوازي الأوّل. ومرَّت الأشهر ومِن ثم السنة، ووصلَني خبر إقفال الشركة التي كنت أعمل فيها بالشمع الأحمر، بعدما اكتشفَت السلطات أنّها كانت تبيّض الأموال. وتمّ القبض على المدير وعلى الموظّف الذي أخَذَ مكاني لأنّه كان يضع توقيعه على الملفّات. وتذكّرتُ حديث الرجل الغامض، وأدركتُ أنّني كنتُ سأسجَن لو بقيتُ في عملي. وخطَرَ ببالي أن أستقصي عن أحوال خطيبتي السّابقة علياء. وعلِمتُ أنّ زوجها طلّقها بعد أشهر مِن زواجهما، لأنّها خانَته مع حبيب سرّيّ لم تتوقّف يومًا عن رؤيته. وهذا ما كان سيحصل لي لو بقيّت معي. وفهمتُ كلّ شيء وشكرتُ ربّي على ما فعلَه مِن أجلي، إذ خلّصَني مِن مأزقَين كبيرَين. وتغيّرَت حياتي ونظرتي للأمور. لم أعد أخاف مِن شيء تمامًا كما كنتُ في صغري.

وتعرّفتُ إلى نجوى وعرفتُ فورًا أنّها المرأة المناسبة. فلم يعد يعني الجمال لي شيئًا بل الجوهر.

وبعد زفافنا بأشهر قليلة، ألقيَ القبض على أخي بعدما حاول مع أصحابه سرقة أبوَينا. كان يُريد مجوهرات أمّي ليبيعها لاحقًا. جاء مقنّعًا وقيّد أباه وأمّه وأخذ هو وأصحابه ما أمكنهم أخذه. وحين تمّ القبض عليه، إستوعَب أبواي أخيرًا أنّهما خلقا مِن أخي وحشًا لا يوقفه شيء وأنّهما ظلماني طوال حياتي.

 

عفوكَ يارب! ما أكبر حكمتكَ!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button