الجشع... لن يعرف أحدٌ معنى هذه الكلمة أكثر منّي، بعدما قضيتُ سنوات أعيش مع تجسيد الجشع في شخص أمّي.
وهذه السيّئة تحوَّلَت عندها إلى إثم كبير، بعدما قضَت على كلّ مَن كان مِن حولها بدءًا بي ومِن ثمّ أبي.
صحيحٌ أنّه لاحظ عليها جوع نفسها عندما كانا يتواعدان، ولكنّه ردّ الأمر إلى حالة أهلها المتواضعة وظنَّ أنهّا ستنكفئ عندما يُعطيها ما لطالما طلبته نفسها. لذا بدأ يُغرقها بالهدايا ويأخذها إلى الأماكن الجميلة. أمّا هي، فلقد "شمَّت" مِن أوّل لحظة رائحة المال التي كانت تفوح مِن والدي الذي بدأ مِن الصّفر ووصَلَ إلى ما كان عليه مِن رخاء بفضل جهده. واستعمَلَت تلك الصبيّة أساليبها الأنثويّة لإغرائه، أي الدّلع المفرط والمسايرة والبكاء مِن فتره إلى أخرى، لتدخل قلب ذلك الرّجل الخلوق والعطوف. وكي تتأكّد مِن أنّه لن يختار غيرها، أصرَّت عليه أن يتزوّجا بسرعة بسبب أهلها، الذين حسب قولها، "لن يرضوا بفترة مواعدة طويلة وقد يُزوّجونها لغيركَ".
ووقَعَ أبي في الفخ طبعًا، وأسرَعَ للإرتباط بها للسّراء والضّراء، من دون أن يدري أنهّ لن يذوق منها سوى الضرّاء. وحين دخَلَت أمّي عالم الأثرياء وذاقَت طعم الفخامة، وجَدَت أنّ أسوأ ما يُمكن أن يحصل لها هو أن تعود إلى حالتها الأساسيّة. لذا بدأَت تُكثر مِن الطلبات وتجمع المال. هل كانت تنوي ترك زوجها منذ البداية؟ لست أدري، ولكنّها تصرَّفَت وكأنّها تريد تأمين مستقبلها وبأسرع وقت.
وربّما بقيَت معه لأنّها حَملِت بي، وحتى لوكان ذلك صحيحًا، فلم يكن السّبب حبهّا لطفلتها بل، على الأرجح، لأنّها لم تكن تريد تحمّل مسؤوليّة تربيتي لوحدها.
وفي تلك الأثناء، كان أبي منشغلاً بأعماله ومطمئنّ البال لوجود زوجة جميلة ومحبّة في بيته، ولم ينتبه إلى تنامي جشع أمّي التي لم تعد تكتفي بشيء.
وجئتُ إلى الدنيا، وفرِحَ أبي بي وأصبَحَ يقضي وقتًا أطول في البيت، الأمر الذي أغضَب والدتي، لأنّها لم تفهم سبب ذلك الإهتمام المفرط والذي لم يكن موجّهًا إليها مباشرة. هكذا كانت: تريد كلّ شيء لنفسها.
وأظنّ أنهّا خطّطَت لإرسالي إلى مدرسة داخليّة منذ ذلك الوقت. كان لابدّ لها أنّ تتخلّص من كلّ مَن يأخذ مِن دربها أيّ شيء حتى العاطفة. ولم تتكبّد أمّي عناء حبّي أو رعايتي، فكنتُ أجلس طوال الوقت لوحدي حتى أنّني تأخّرتُ بالنطق. وكيف لي أنّ أتعلّم الكلام إن كان لا يتكلّم معي أحد؟ ولم تكن بضع الجمل التي كان أبي يُوجّهها إليّ في المساء كافية لذلك. ولكنّني كنتُ دائمًا ألبس أجمل الملابس، وذلك مِن أجل الناس وما سيقولونه عن أمّي. ولكنّ الملابس لم تكن تهمّني، كنتُ أريد اللعب وأنّ تحملني أمّي بين ذراعَيها كباقي الأطفال. إلا أنّها كانت، إلى جانب تجاهلها المقصود لي، دائمة الإنشغال بالزيارات إلى سيّدات المجتمع والتباهي بما تملكه أمام زوّارها.
وكبرتُ بهدوء ولم أكن فالحة في المدرسة، فوجَدَت والدتي بذلك العذر المناسب لتقول لأبي:
- البنت كسولة ومعدومة الطموح...يلزمها نظام صارم وأناس مختصّون...ليس لدَيّ الوقت ولا القدرة على إصلاحها...
ـ صحيح... أنت دائمة الإنشغال.
ـ ماذا تقصد؟
ـ أعني أنّكِ لو أعَرتِها أهميّة أكبر، فلربّما...
ـ تتّهمني بإهمال صغيرتي ووحيدتي؟ يا إلهي! أكرّس حياتي لها...ولكَ!
ـ إهدئيي...لم أقصد شيئًا.
ـ حسنًا...كنتُ أقول لو نرسلها إلى مدرسة داخليّة وهناك سيجعلون منها إنسانة ناجحة ...ما رأيك، حبيبي؟
ـ رأيي؟ رأيي أننّي لا أحبّ المدارس الداخليّة ولا نظامها.
ـ تعني أننّي لا أعرف مصلحة إبنتي، حبيبتي؟ هل تعتقد أنّ قلبي لا يبكي لمجرّد هذه الفكرة؟ كم أنت ظالم! أحيانًا أسأل نفسي إنّ كنتَ تحبّني فعلاً.
ـ لا تنفعلي، أرجوكِ...إفعلي ما ترَينه مناسبًا.
أظنّ أنّ أمّي حزَمَت حقيبتي بغضون دقائق، وأنّها كانت قد حجَزت لي مكانًا في تلك المدرسة منذ أشهر. لا أتذكّر جيّدًا لحظات وداعنا البارد، إلا أنّني بكيتُ وأنا في طريقي إلى المنفى.
الحقيقة أنّني لم أنزعج مِن حياتي في المدرسة الداخليّة، ربما لأنّني وجدتُها أكثر دفئًا مِن بيتنا، خاصّة أنّني أخيرًا صار لدَيَّ رفيقات. وسرعان ما شعرتُ بالإنتماء إلى تلك العائلة الكبيرة. أحببتُ مدرّستي الآنسة نوال التي أعطَتني الحنان والإهتمام وعلّمَتني الكثير.
ولكنّ جحيم أبي لم يكن قد بدأ بعد. فحين تخلّصَت أمّي منّي، شعَرَت بأنهّا تحرَّرَت مِن أوّل ثقل، وأنّ عليها التخلّص مِن الثاني، أي زوجها. ولتتمكّن مِن ذلك، كان عليها تأمين ما يلزمها لِتركه... وأكثر إن أمكَن.
كانت تغار مِن نجاحه ومِن حسابه المصرفي وتعتقد أنّ ما يملكه أبي هو مِن حقّها. لماذا وهي لم تفعل شيئًا لمساعدته بل العكس؟ فمنذ زواجها منه، وهي تصرف وتصرف وتطلب وتشتري وبالتأكيد تبيع.
ومع الوقت، بات أبي يُعطيها ما تريد ليُسكتها فقط وليس كما في السابق ليُفرحها، وكانت فرحته هو تكمن في رؤيتي عندما أعود إلى البيت في نهاية كلّ أسبوع.
وبعد بضع سنوات، وجَدَ والدي الحبّ في مكان أخر، ولا أستطيع ولو لثانية أن ألومه على ما فعله. وهكذا استطاع أخيرًا أنّ يلمس فعلاً كيف يكون الحبّ. وعلمَت أمّي بتلك العلاقه السرّية، وتحوّلَت إلى وحش لا يردعه شيء. وأطلقَت العنان لشرّها بعد أن وجَدَت العذر لذلك. لا أظنّ أبدًا أنّها غضِبَت كسائر النساء مِن أبي لانّه أعطى حبّه لأخرى، بل لأنّها فقدَت سيطرتها عليه، ولأنّه سيُعطي لغيرها ما تعتبره مِن حقّها. وكانت تلك الفكرة غير مقبولة عندها، وتستلزم أن تتصرّف بسرعة قبل أن يخطر ببال أبي أن يتزوّج مِن عشيقته أو أن يُنجب منها ولدًا.
أوّد التنويه هنا إلى أنّ ما سأرويه الآن لا يرتكز على إثباتات فعليّة أو ملموسة، بل على يقين لن ينتزعه أحدٌ منّي. فأمّي أذكى مِن أن تترك أثرًا لأفعالها البشعة، بعدما أصبحَت متمرّسة بفنّ الغش والمكر والإحتيال.
ففي ذات مساء، وعندما كان أبي عائدًا مِن عمله، إعترضَته سيّارة وأوقَفَته في القسم المظلم مِن الطريق. وفي صباح اليوم التالي عُثر على المسكين مقتولاً بعدما تمَّت سرقته.
ولبِسَت أمّي السّواد وبكَت كالأرملة المفجوعة خلال الدفن، ومِن ثمّ وضَعَت يدها على كلّ شيء. وبعد فترة قصيرة، باعَت ما استطاعَت وسافَرَت إلى الخارج. لم تأتِ لتوديعي ولم أعلم بسفرها إلا عندما جاء آخر الأسبوع وكنتُ أتحضّر للذهاب إلى البيت. فقد جاءَت مدرّستي وأخبَرَتني أنّ لا مكان لي أذهب إليه. وشعرتُ بضياع تام: فقدتُ أبي ومِن ثمّ بيتي. بكيتُ كثيرًا، ولا أزال أبكي حتى اليوم عندما أتذكّر صدمتي.
إلا أنّ أمّي فعلَت العمل الجيّد الوحيد في حياتها، وهو دفع قسط مدرستي حتى بلوغي سنّ الرشد، ليس لِخوفها عليّ ولكن كي لا يُفتّش أحد عليها يومًا ويُطالبها بشيء.
ومرَّت باقي السنوات حتى صِرتُ قادرة على إيجاد عمل ودفع قسط الجامعة. ولم أعرف حقيقة ما حَدَث بين والدَيَّ إلى حين صادفتُ بعد سنين جارتنا القديمة. قبّلَتني بقوّة بعدما استطاعَت التعرّف إليّ، وبكَت عندما تذكّرَت طيبة أبي. وفي سياق الحديث قالَت لي:
ـ المسكين... وجَدَ لنفسه منفذًا لتعاسته... كنّا جميعًا على علم بما تفعله أمّكِ وفرحنا له... لا تغضبي منّي يا إبنتي إن كنتُ أخبركِ ذلك، ولم أكن لأفعل لولا يقيني مِن أنّكِ عانَيتِ أيضًا مِن تلك... أقصد أمّكِ.
ـ كان أبي على علاقة بامرأة أخرى؟
ـ أجل... لم يكن الأمر سرًّا، فلقَد رآه أكثر مِن شخص معها وكان يبدو سعيدًا... حتى أنّني سمعتُ أنّه ينوي الزواج منها... ولكنّه مات قبل أن يفعل.
وكانت تلك الجملة الأخيرة هي التي جعَلَتني أفكّر بأنّ لأمّي علاقة بموت أبي، فأنا لا أؤمِن بالصّدف، خاصة إن كانت تخدم مصلحة شخص بهذه الأخلاق.
لم أرَ والدتي منذ يوم دُفِنَ فيه أبي، ولم أستطع معرفة مكانها إذ بقيَت تنتقّل مِن بلد لآخر. ولكن صرفها لمال والدي كان مفرطًا، إلى درجة أنّها أمسَت بلا شيء.
لِذا عادَت إلى نقطة الصفر، أي إلى بيت أهلها حيث كانت تسكن أختها العزباء. وكانت تلك الأخيرة التي أخبَرَتني بعودتها بعد أن وجَدَت عنواني بواسطة الإنترنت. واحترتُ في أمري: هل أذهب لرؤية أمّي أم لا، فأنا لم أكن أشعر تجاهها بأيّة عاطفة، لبل كنتُ أكرهها لرميي في المدرسة الداخليّة ولتخلصّها مِن أبي، وكنتُ متأكّدة مِن أنّها ستحاول التمسّك بي لأصرف معاشي الضئيل عليها.
لذلك لم أقصد بيت جدّي ولم أرَ أمّي ولا أريد أن أراها. لن أذهب حتى لحضور مأتمها عندما تموت لأنّها بالنسبة إليّ ماتت يوم ولدَتني.
حاورتها بولا جهشان