مؤامرة مِن الصعب تصديقها

يوم عرّفنا عمّي الصّغير على خطيبته دلال التي كانت ستعيشُ معنا جميعًا في البيت، علِمتُ أنّها ستتسبّب للعائلة بمشاكل كبيرة لأنّها كانت جميلة لدرجة لا توصَف. رأيتُ ملامح أمّي ورنيم زوجة عمّي الكبير تتغيّر، ورأيتُ الحسَد في عَينَيهما. مِن الطبيعيّ أن يشعر الإنسان بالتهديد عندما يتواجد مع مَن هو أكثر تفوّقًا أو نجاحًا أو جمالاً منه، إلا أنّ الأمر يزول مِن تلقاء نفسه بعد فترة. لكنّ والدتي ورنيم لَم تكونا مستعدّتَين للمخاطرة بزوجَيهما بسبب دخيلة يُمكن التخلّص منها قبل أن تستقرّ وتصبح فردًا مِن العائلة.

جلَسَت دلال وسطنا وابتسَمتُ لها، وهي ارتاحَت لأنّني كنتُ الوحيدة مِن بين النساء الموجودات التي عبَّرَت لها عن استلطاف ما. أمّا أبي وعمَّيَّ الكبير، فكانا تحت سحر تلك المخلوقة الرائعة.

سادَ سكوت ثقيل قبل أن تبدأ الضيفة تقصّ علينا أخبارًا لطيفة، الأمر الذي زاد مِن امتعاض الموجودتَين. كان عمّي الصّغير فرحًا جدًّا بخطيبته وفخورًا بأنّها اختارَته بالذات، في حين كان بإمكانها الزواج مِن أحد المعجبين الكثر الذين كانوا يُحيطون بها والذين كانوا أكثر علمًا أو ثراءً منه.

في الأيّام التي تلَت، حاولَت أمّي، كونها الزوجة الأقدم في البيت، أن تغيّر رأي عمّي وتحذره مِن المرأة التي اختارَها، لكنّه بالطبع لم يُوافق بل زاد إصرارًا وتمسّكًا بحبيبته التي لم تكن تعلم بما يجري.

تدخَّلتُ بأحد أحاديث المرأتَين عن دلال:

 

ـ ما الأمر؟ لماذا هذا البغض لتلك الإنسانة الهادئة والجميلة؟

 

ـ وما دخلكِ أنتِ؟ وما أدراكِ بالناس، فأنتِ لم تتجاوزي الرابعة عشرة مِن عمركِ! أدخلي إلى غرفتكِ ودعينا نتكلّم على سجيّتنا.

 

ـ بل تتآمران على دلال بدل أن تستقبلانها بمحبّة لتعيشوا جميعًا بسلام.

 

ـ هكذا نساء لا تفهمنَ معنى كلمة سلام، بل تفعلنَ جهدهنّ لزَرع الفتنة والخراب حولهنَّ! هيّا، آخرجي مِن هنا!

 

فعلتُ كما طُلبَتا منّي، لكنّني كنتُ مستاءة جدًّا مِن هذا الكم مِن الشرّ، في وقت كبرتُ وأنا أسمع كلامًا عن المحبّة والتسامح. هل يعقَل أن تكون أمّي قد كذِبَت عليّ طوال سنين؟ عندها أتّخذتُ قراري بمساعدة دلال في التغلّب على المكيدة التي كانت تُحاك حتمًا لها. وكي أنجح في ذلك، كان عليّ الإنتظار حتى يتزوّج عمّي ويجلب عروسه إلى البيت.

 


تمّ الزواج بالرغم مِن كلّ المحاولات لمنعه، وجاءَت دلال للعَيش معنا، وقطعت على نفسي وعداً بأن أحمي تلك المسكينة مِن كَيد اللتين يتربّصان بها.

في البدء، سادَت أجواء أصفُها بالهادئة، مع أنّ أمّي ورنيم كانتا لا تفوّتا فرصة لإنتقاد كلّ ما تفعله العروس. إلا أنّ زوجها كان ممنونًا منها إلى أقصى درجة، شاكرًا ربّه على هكذا زوجة. أبي كان يُحبّ مجالسة دلال والإستماع إليها، فهي كانت تجيد فنّ التكلّم، وكذلك عمّي الثاني كان ينضمّ إلى الجلسة وبسمة عريضة على وجهه. وحدهما المرأتَان كانتا تبقَيانَ جانبًا والبغض يتطاير مِن عَينيَهما.

مع الوقت، وُلِدت مودّة خاصّة بيني وبين دلال، أوّلاً لأنّني كنتُ أهتمّ بها بصورة خاصّة، وثانيًا لأنّها لم تكن تكبرني سوى بسنوات قليلة وكنتُ أتوق إلى رفيقة، بعد أن بقيتُ إبنة وحيدة بسبب توقّف أمّي القصريّ عن الإنجاب. لِذا كنّا نخرج للتسوّق سويًّا، ونقضي وقتًا ممتعًا علِمتُ خلاله أنّ صديقتي الجديدة كانت مِن عائلة فقيرة ومحترمة، وأنّها بالرّغم مِن ذلك لم تبحث يومًا عن الثراء بل فضَّلَت إيجاد رجل صالح يُحبّها ويحترمها. فكما ذكرتُ سابقًا، كانت دلال، وبسبب جمالها الخارق، تستطيع اختيار أيّ شاب أو رجل تريده، وشعرتُ بفخر أنّها صارَت بيننا نحن بالذات.

إستاءَت والدتي جدًّا مِن هذا التقارب، وأمرَتني بأن أبتعد عن التي أسمَتها "الماكرة"، وهدَّدَتني بمعاقبتي إن لم أُطِعها. فبرأيها كانت دلال إنسانة غير صالحة، تخبّئ لنا أمورًا سيّئة جدًّا ستؤدّي إلى خراب العائلة.

ضحكتُ لهذا التصوّر غير الواقعيّ، وقرّرتُ التخفيف مِن الخروج مع زوجة عمّي كي أتمكّن مِن متابعة حمايتي لها.

إلا أنّ ما كنتُ أخشاه حصَل. فذات مساء، سمعتُ صرخة لم أسمع مثلها مِن قَبل خارجة مِن حنجرة أمّي. ركضنا جميعًا إليها كالمجانين، وإذ بنا نراها جالسة على الأرض ممسكة بشعرها تارة وممّزقة ملابسها تارة أخرى. وأمام ذلك المشهد المخيف، لم يتفّوه أيّ منّا بكلمة.

الوحيدة التي بادرَت بالتصرّف كانت رنيم زوجة عمّي الكبير التي حاولَت رفع أمّي عن الأرض، لكنّ هذه الأخيرة بقيَت مصرّة على عدَم الوقوف. أخيرًا تدخَّلَ أبي وسألَها عن سبب ما تفعله. نظَرَت إليه أمّي بغضب وحقد وصرخَت به: "أصمت أنتَ! إيّاكَ أن تتفوّه بكلمة واحدة وإلا فضحتُكَ!" توقَّعتُ طبعًا أن يُجيبها والدي بطريقة قاسية بعد هكذا إهانة، لكنّه بقيَ صامتًا ومِن ثمّ خرَجَ مِن الغرفة. نظَرَت رنيم إلى زوجها نظرة تساؤل فخرَجَ بدَوره. عندها لاحظتُ أنّ دلال لم تكن بيننا، فهي على الأرجح فضَّلَت عدَم التدخّل بأمورلا دخل لها فيها لتتجّنب التلميحات الإعتياديّة.

أقفلتُ باب الغرفة، واقترَبتُ مِن والدتي وقلتُ لها بهدوء:

 

ـ ماما، ما بكِ؟ لماذا الصراخ وهذا التصرّف الغريب؟ وكيف لكِ أن تكلّمي البابا هكذا؟ ما الذي يجري؟ أجيبيني، فأنا ابنتكِ وقد أستطيع مساعدتكِ.

 

ـ أنتِ خائنة! حذّرتكِ مِن تلك السافلة لكنّكِ فضّلتِها عليّ! كلّكم خونة!

 


وعاودَت الصراخ، فأسرَعتُ بطلب الطبيب الذي جاء بسرعة وأعطاها حقنة مهدّئة. علِمنا منه أنّها تمّر بفترة صعبة سببها قلق حاد، وأوصانا بإراحتها مِن كلّ ما يُمكنه أن يُحدث لها نوبة كهذه. وقبل أن يُغادر وصَفَ لها حبوبًا عليها أخذها يوميًّا. كنّا جميعًا مصدومين، وحين انضمَّت إلينا دلال في الصالون وسألَت عمّا يجري، بالكاد أجَبناها لكثرة حزننا على أمّي.

منذ ذلك اليوم لزِمَت والدتي غرفتها وبقيَت معها رنيم، وتقاسمَتُ مع دلال الأعمال المنزليّة. وأعترفُ أنّني كنتُ سعيدة للقيام بتلك الأعمال مع صديقتي بعيدًا عن الإزعاج الذي خلقَته والدتي. صحيح أنّني كنتُ أحبّ أمّي كثيرًا، لكنّ حقدها وتصرّفاتها حملَتني على النفور منها.

شعَرَ رجال البيت بالإرتياح نفسه، وبتنا نعيش كلّنا وكأنّ لا أحدًا سوانا في المنزل. وسادَ جوّ مِن المرَح إفتقَدناه منذ أشهر طويلة. لم يحسّ أيّ منّا بالذنب لكوننا أبعَدنا أمّي وزوجة عمّي الكبير، بل العكس، كان يبدو الأمر لنا طبيعيًّا. بالكاد كنتُ أدخل غرفة والدتي كي لا أسمع منها التوبيخات، واكتَفيتُ بسؤال رنيم عن أحوالها.

مرَّت الأيّام والأسابيع مِن دون تغيير ملحوظ، حتى سمعتُ أبي يتحدّث مع أخوَيه عن إرسال أمّي إلى مكان "تريح فيه أعصابها "، الأمر الذي أحزنَني كثيرًا، وأسفتُ أن تكون الغيرة قد أفقدَتها عقلها، لكن هل كانت حالتها تستدعي إجراء كهذا؟ سألتُ أبي هذا السؤال فأجابني:

 

- ألسنا جميعنا بأفضل حال مِن دونها؟

وجدتُ جوابه قاسيًّا جدًّا وغير منطقيّ لكنّني لم أجادله. وبعد أيّام قليلة، عرفتُ السبب.

كانت دلال قد خرجَت لزيارة أهلها كما تفعل مرّة أو اثنَتَين في الأسبوع، وكنتُ على الشرفة أنظّف الزجاج مِن الخارج حين رأيتُ والدي وعمّي يدخلان الصالون. جلسا وقال أبي لعمّي:

 

ـ علينا التخلّص مِن تلك المجنونة وبسرعة.

 

ـ أوافقُكَ الرأي يا أخي... أمّا بالنسبة لزوجتي، فأستطيع قمعُها، على خلافكَ.

 

ـ ما اللزوم لهذا الكلام الآن؟ هل اتّصلَتَ بصديقكَ؟

 

ـ أجل وقال إنّه مستعدّ لاستقبال زوجتكَ في مؤسّسته حين تشاء.

 

ـ ممتاز... مِن ثمّ سيبقى لنا إبعاد أخينا الصغير... ما رأيكَ لو نبعثه ليهتمّ بأرضنا في أقصى الجنوب؟ سنقول له إنّ الأمر مؤقّت وضروريّ وإنّه سيعود بعد فترة قصيرة.

 

لم أصدّق أذنَيّ، وشكرتُ ربّي أنّ الرجلَين لم يُلاحظا وجودي وإلا وقعتُ في ورطة كبيرة. وبينما كنتُ أستعدّ لدخول البيت مِن باب الشرفة الآخر، دخلَت دلال الصالون وجلسَت في حضن أبي وبدأَت تداعب شعره بحنان.

حبَستُ صرخة كادَت أن تفضح أمري وأخذتُ أتفرّج على ما يجري. قامَ عمّي مِن مكانه وتوجّه إلى حيث أبي ودلال وقبّلها بشغف. ثمّ مشى نحو الباب وأقفله بالمفتاح. عندها علِمتُ أنّ عليّ الهروب، أوّلاً كي لا يعلموا بأنّني أراقبهم، وثانيًا لأنّني لم أرِد رؤية ما سيفعلونه سويًّا.

حين دخلتُ البيت مِن الباب الثاني، كان قلبي يدّق بسرعة بسبب الخوف والإشمئزاز. وأوّل شيء فعلتُه كان التوجّه إلى غرفة أمّي حيث كانت رنيم جالسة أيضًا. صرَختُ لهما:

 

ـ أمّي ليست مجنونة! لقد رأيتُ بعَينيَّ الذي يجري بين أبي وأخيه ودلال! هيّا قومي مِن فراشكِ يا ماما! قومي واستعيدي مكانتكِ في بيتكِ! وأنتِ أيضًا يا زوجة عمّي! كيف تسمحان بما يجري؟ هيّا!

 

قامَت والدتي مِن السرير بلمحة بصَر، ومشينا نحن الثلاثة كالعسكر المستعدّ للمعركة. دخَلنا الصالون مِن جهة الشرفة، وما رأيناه يجري كان فظيعًا. بلحظة، إنقضَّت أمّي على دلال وشدَّتها بشعرها، ومِن ثمّ على أبي وأبرحَته ضربًا. أمّا رنيم فاكتفَت بصفع زوجها الذي كان عاريًا كالآخرَين. وأنا لم أكن أعلم إن كان عليّ أن أحزن أو أضحك على هذا المشهد، إلا أنّني ركضتُ أفتح باب الصالون لتتمكّن المرأتَان مِن رمي أبي وعمّي ودلال خارج البيت.

أخذتُ ملابس الخوَنة ورمَيتُها لهم، ليس خوفًا على سمعتهم بل على سمعة العائلة.

عندما عادَ عمّي الصغير إلى البيت أخبرناه ما حصل. كان المسكين مصدومًا وحائرًا، يسأل نفسه كيف أنّ أخوَيه والمرأة التي أحبّها خانوه بهذه الطريقة الشنيعة والشاذّة وأرادوا التخلّص منه. أمّا أنا، فطلبتُ طبعًا السماح مِن والدتي على عدم وثوقي بحكمتها.

حاوَلَ أبي وعمّي العودة إلى البيت لكن مِن دون جدوى، فلَم يعد أحد يريدهما. وأسرَعَ عمّي الصغير بتطليق زوجته التي لم تتّصل به بأيّ طريقة.

وعشنا مع عمّي الذي وجَدَ عملاً إضافيًّا حتى نتمكّن مِن العَيش. وبعد فترة، بدأتُ العمل خلال الفرصة الصيفيّة. وحين تخرّجتُ مِن المدرسة توظّفتُ أخيرًا. وبالرّغم مِن الهدوء الذي بدأ يسود في البيت، كلّ منّا كان لا يزال متأثّرًا بالذي حصل. مِن جهتي، فإلى جانب فقداني لأبي، لم أستطع محو ما رأيتُه مِن ذاكرتي لفظاعته، لكنّني أنوي زيارة طبيب نفسيّ حالما أتمكّن مِن ذلك.

ما حصل للخوَنة الثلاثة؟ بعد تركهم البيت أو بالأحرى طردهم منه، ذهبوا ليعيشوا في شقّة إستأجرها أبي. لكنّ سعادتهم لم تدم بسبب دلال التي وجَدَت عشيقًا مناسبًا أكثر لها. وحتى اليوم، لا يزال أبي يعيش مع عمّي. زرتُهما مرّة أو اثنتَين ومِن ثمّ لم أعد أحتمّل رؤية اللذَين كانا يُخطّطان لإرسال أمّي إلى مشفى المجانين، وعمّي الصغير إلى آخر البلاد ليتمتّعا بزوجته. نعم، لو لم تكن هذه قصتّي لَما صدّقتُها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button