كلنّا نعرف قصّة الراعي الصغير والذئب، فعندما يكذب المرء بصورة دائمة، لا يصدّقه أحد حتى لو قال الحقيقّة. وهذا ما حدَث لي لأنّني كنتُ أكذب طوال الوقت وذلك منذ ما كنتُ صغيرة. قد يكون السبب أنّني كنتُ البنت الخامسة في العائلة ولم يعد أحد يعير أهميّة لي بعدما يئسَ أهلي مِن كثرة الإناث. لِذا ولأستقطبَ إنتباه الجميع، بدأتُ أختلق القصص. في البدء وجدوا هذا الخيال المُفرط ظريفاً ولكن مع الوقت بدأوا ينزعجون منّي حتى أن وضعوني جانباً وألصقوا عليّ صفة "الكذّابة" ما سبّبَ لي حزناً عميقاً. وبدأتُ أبحث عن جمهور آخر، أي رفاقي في المدرسة ولاحقاً في الجامعة. ومع الوقت إكتسبتُ خبرة كبيرة في حياكة قصصي ولم يعد أحداً قادراً على التمييز فيما أقوله بين الحقيقة والكذب. وكانت حياتي آنذاك كما أشاءها أي كما أتخيلُّها، لِدرجة أنّني أنا نفسي صدّقتُها وعشتُها على أنّها فعلاً هكذا.
وبعد تخرجي مِن الجامعة بقليل، تعرّفتُ إلى مازن الذي كان سيصبح زوجي بعد أقل مِن سنة. وعندما تزوّجَني، كان يعتقد أنّني الإنسانة الرائعة والصادقة التي تمنّاها ولكن سرعان ما بدأ يكتشف أكاذيبي الواحدة تلوَ الآخرى. في البدء، خالَ أنّها أشياء صغيرة وبريئة وأنّ بإمكانه تخطيّها لأنّ مزاياي كانت عديدة ولكنّه لم يعد يعلم متى كنتُ أقول الحقيقّة ومتى كنتُ أولفّ قصصاً. حاولَ المسكين أن يلفتَ أنتباهي على أنّه باتَ ينزعج منّي وأن الصورة التي أعطيها عنّي باتت بشعة ولكنّني لم أتوقّف، فقرّر أنّ كل ما سأقوله بعد ذلك سيكون كذبة مِن أكاذيبي. وللحقيقة قراره هذا، أطلقَ العنان لمخيّلتي وصرتُ أتفننّ بتأليف الروايات حتى أن أصبح الأمر مضحكاً وإكتشف الجميع أمري. وأبتعدَ عنّي الأقارب والأصدقاء ووجدتُ نفسي وحيدة كما حدثَ عندما ما كنت صغيرة. ولأنّني كنتُ قد أصبحتُ أكثر نضوجاً، أخذتُ الأمر وكأنّه عبرة عليّ التعلّم منها، فصمّمتُ على أن أتغيّر وأن أقول الحقيقة. ولكن كان قد فات الأوان، لأنّ مازن قرّرَ أنّه لم يعد يربطنا شيء وفضّل أن يعيش مِن دوني. ورغم وعودي وبكائي وتوسلاّتي، قال لي:
ـ هل تعتقدين ولو للحظة أنّني أصدّق انّ هذه الدموع حقيقيّة؟ أي شخصيّة تلعبين دورها الأن؟ لقد طفحَ كيلي ولم أعد أثق بكلمة واحدة تخرج مِن فمكِ الكاذب! أنا راحل ولن أرجع! فتشّي عن ساذج آخر!
عندها أدركتُ أنّني خسرتُ حبّ حياتي وأنّ الأمر نهائي. وهكذا طلقنّي زوجي وشمتَ بي أهلي قائلين:"هذا ما يحصل للكاذبين". لن أدخل في تفاصيل حالتي النفسيّة بعد طلاقي ولكنّها كانت مرحلة صعبة جداً عليّ، فهمتُ خلالها أين أخطأتُ وأقسمتُ ألاّ أكون تلك المرأة بعد ذلك وأن أبدأ حياة جديدة شعارها الصدق والشفافيّة. ولكي لا أبقى كثيراً في بيت مليء بأناس لا يرون فيّ الإ مجرّد كاذبة، أخذتُ أفتشّ عن عمل يبقيني بعيدة عنهم أكبر وقت ممكن ووجدتُ مكاناً شاغراً كعاملة هاتف في مؤسّسة تجاريّة. كان الجميع لطيف معي وإستقبلَني بمحبّة وكانت مهاميّ أن أتلقىّ الإتصالات وأحوّلها إلى المكاتب. عمِلتُ بفرح وتفاني رغم الدوام الطويل ولكن شاءَت الصدف أو القدر أن يحدث شيئاً غيرَّ مجرى الأحداث. ففي أحد الأيّام، وأنا أحوّل مكالمة لِغنوة أحدى الموظّفات بقيَ الخط مفتوحاً وإستطعتُ رغماً عنّي سماع الحديث الذي دار بينها وبين الرجل الذي طلبَها:
ـ مرحباً حبيبي... لا أستطيع مقابلتكَ الليلة... سأوافي مازن في المطعم... بالطبع أفضلّ أن أكون معكَ ولكنّكَ تعلم أنّ عليّ مجاراته.
ولفَتَ أنتباهي ذكر إسم مازن حتى لو كان مِن الشبه مستحيل أن تكون تتكلّم عن الذي كان زوجي ولكن شيئاً بداخلي قال لي أنّ عليّ معرفة المزيد. وبدأتُ أنتظر مكالمة الرجل لِغنوة بفارغ الصبر ما أعطى لِعملي طابعاً مشوّقاً. وبعد أيّام دقّ هاتف المؤسّسة وتعرّفتُ على صوت المتكلّم وحوّلتُ له الموظّفة ذاتها. عندها لم تكن صدفة أنّني سمعتُ حديثها، بل قصدتُ فعل ذلك وهذا ما دار بينهما:
ـ حبيبي... كم أشتقتُ إليكَ!
ـ وأنا أيضاً... أريد أن أراكِ وأكون معكِ....
ـ لا! ليس قبل أن أستدرجه إلى السرير....
ـ الأمر صعب عليّ ولكن... إن كان ذلك لازماً...
ـ أجل... عليّ إقناعه بأنّه أب جنيننا... لو لم تكن متزوّجاً لما إضطررتُ لفعل كل ذلك... لما لا تطلقّ زوجتكَ!؟!
ـ تعلمين أنّني غير قادر على ذلك... هي تملك كل شيء وسأجد نفسي على الطريق... هل تريدين رجلاً فقيراً؟
ـ لا... سيكون مازن أباً جيدّاً... لديه المال ولم ينجب مِن زوجته السابقة... سيكون مسرور لسماع خبر حملي وسيتزوّجني بعد شهر على الأكثر!
ـ ولكنّكِ ستظليّن حبيبتي...
ـ بالتأكيد... فحين أصبح السيدّة مازن ج. سيكون ذلك على الورق فقط ! أنتَ حبّ حياتي!
وهكذا تأكدّتُ وبِدهشة كبيرة أنّهما كانا يتكلّمان فعلاً عن زوجي السابق وغضبتُ كثيراً لأنّهما يسعان إلى إلصاق حمل غنوة به ومتابعة علاقتهما خفية. وبالطبع قرّرتُ أن أنذر مازن بالذي ينتظره قبل فوات الأوان. وإتصلتُ به لحظة وصولي إلى البيت وقلتُ له مِن دون مقدمة:
ـ إحذر مِن غنوة فهي حامل وستحاول ممارسة الجنس معكَ لإلصاق الجنين بكَ ولكنّ الأب الحقيقي هو رجل متزوّج ولن تكفّ عن رؤيته بعدما تتزوّج منها!
ـ ماذا؟ ماذا؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ ومِن أين تعلمين بأمر غنوة؟
ـ أنّها قصّة طويلة! إحترس منها أرجوكَ!
ـ كذبة أخرى مِن أكاذيبكِ! لقد طلّقتكِ لكي لا أعود أسمع قصصكِ وها أنتِ تلحقين بي حتى الآن؟ إيّاكِ أن تعاودي الإتصال بي مجدّداً والاّ...
ـ أرجوكَ صدّقني فبعدَ أن طلّقتني أقسمتُ ألاّ أكذب مجدّداً... لقد تغيرّتُ كثيراً... صدّقني! ستريد غنوة إستدراجَكَ إلى السرير!
وأقفلَ مازن الخط بوجهي وفقدتُ الأمل بأن أجنبّه مصيبة كبيرة. ولكي أبقى على علم بمجرى الأحداث، صمّمتُ متابعة التنسّط على مكالمات غنوة وعشيقها. ولكنّهما لم يتحدّثا بعد ذلك عبر خط المؤسّسة ولم أعد أعرف شيئاً عن الموضوع. وعندما حسبتُ أنّ زوجي السابق كان قد وقعَ في الفخّ المنصوب له فوجئتُ به يدقّ باب أهلي. وحين رأيتُه أمامي لم أعرف كيف أفسرّ مجيئه، حتى قال لي:
ـ لم أتصوّر أن يأتي يوم وأشكركِ... كنتُ حتى البارحة متأكداً أنّكِ إنسانة لعوب وممّثلة بارعة... ولكنّني أقرّ أنّني أخطأت التقدير وإتضحَ أنّ التي ظننتُها صادقة كانت هي الكاذبة وأنتِ الصادقة.
ـ كيف علِمتَ بالحقيقّة؟ فعبرَ الهاتف كنتَ واثق منها.
ـ صحيح ذلك ولكن بعد يوم واحد على حديثنا، جاءَت غنوة إلى منزلي بِلباس مغري وقنينة كحول في يدها. إستغرَبتُ كثيراً لأنّها كانت عادة متحفّظة جدّاً. وحين دخَلَت بدأت تغريني بشكل ملحوظ. عندها تذكرّتُ ما قلتهِ لي عبر الهاتف وقرّرتُ أن أتأكدّ بنفسي. وحين قلتُ لها أنّني أفضّل أن أنتظر إلى بعد الزفاف، بدَت عليها علامات الغضب وتابَعت محاولاتها معي حتى أنّها بدأت تخلع ثيابها! وحين سألتُها عن الذي حلّ بالفتاة الخجولة والجدّية، أجابَت أنّها لا تستطيع الإنتظار لِكثرة إعجابها بي وإنجذابها لي. حاولَت إرغامي على شرب الكحول ظانة أنّني سأرضخ لها هكذا ولكنّني رفضتُ مجدّداً، فبدأت بالصراخ والشتائم. عندها رميتُها خارجاً بعدما قلتُ لها أنّني على علم بحملها. نظرَت إليّ بإندهاش وقالت:"مَن الذي أخبرَكَ؟ لا أحد يعلم بذلك سواي وأب الطفل.“ لم أجبها لكي لا أسبّب لكِ متاعباً في العمل وإكتفيتُ بإقفال الباب بوجهها... وها أنا اليوم أمامكِ أطلبُ منكِ أن تسامحيني وأن تقبلي بي مجدّداً... وأن تبقي كما أنتِ الآن أي صادقة ومحبَّة...
- الذنب كان ذنبي وتعلّمتُ درساً لن أنسيه بِحياتي... حبّي لكَ غيّرَني ولن أخاطر بأن أخسركَ مجدّداً.
حاورتها بولا جهشان