لَم أخجَل بأختي

وُلِدَت منال أختي صحيحة البنية، إلا أنّ والدَي لَم يُلقّحاها ضدّ شلَل الأطفال، الأمر الذي أدّى إلى إعاقتها مدى الحياة. وأمام فظاعة ما حصَلَ لها، أسرَع أهلي بتلقيحي حين وُلِدتُ وكذلك أخوَتي. كانت منال قد دفعَت لوحدها ثمَن الجهل الذي كان سائدًا آنذاك في قُرانا.

علِمتُ على الفور أنّ أختي الكبرى لَم تكن مثلي، أعني مِن حيث البنية والمشي، لكنّني لَم أرَ في ذلك مُشكلة، لأنّني كنتُ صغيرة ولا أعرفُ بَعد كَم يُعاني مَن هم مُختلفون عن الباقين. لعبتُ معها وأحبَبتُها وكذلك اخوَتي بعدما جاؤوا إلى الدنيا.

دخلَت منال المدرسة طبعًا، إلا أنّ التنمّر الذي واجهَته مِن قِبَل رفاقها كان قاسيًا للغاية، فهي باتَت مَضحكة لهم بصورة يوميّة. رأيتُها مرّات عديدة تعودُ مِن المدرسة باكية وتجلسُ لوحدها بحزن، إلى حين أذهب إليها وأُرَفِّه عنها لتنسى سواد قلب البشر. وبالرغم مِن صغر سنّي، أدركتُ أنّ حياة أختي ستكون صعبة، وأنّ عليّ الوقوف بجانبها لمُساعدتها، خاصّة أنّني لاحظتُ كيف أنّ والدَيّ صارا يخجلان منها أمام الناس، ويتفادان التواجد معها في أماكن عامّة.

تعلّمَت منال منذ ظهور بوادِر شلَل الأطفال عليها أن تتدبّر أمرها لوحدها، ليس لأنّ أبوَينا أراداها أن تكون مُستقلّة، بل لأنّهما لَم يعرِفا كيف يتعاملان مع وضعها الخاص. وهكذا إستطاعَت أختي أن تقومُ بكلّ شيء لوحدها، ولولا عرجتها القويّة، لمَا أعاقَها أيّ شيء.

كبرنا جميعًا وسط جوّ عائليّ لا بأس به وقوِيَ التضامُن بين الأولاد، فصِرنا وكأنّنا جسم واحِد. ويعودُ الفضل ليس لأهلنا بل لِمنال التي أعطَتنا القوّة والعزم بمُحاربتها نظرات الناس وسخريّتهم. هي لَم تستسلِم أبدًا، وتعلّمَت كيف تجتاز الحزن الذي تُولّده الإعاقات لدى صاحبها. كانت منال بطلَتي وأنا داعِمتها المعنويّة، وأخوَتي "العناصِر الدفاعيّة".

لكنّ منال لَم تجِد خلال مُراهقتها وبداية سنّ العشرين أيّ رجُل يكون مُهتمًّا بها. فهي كانت دائمًا "الصديقة" ولكن ليس الحبيبة. فكان مِن الصعب على الشبّان اعتبارها رفيقة حياتهم المُستقبليّة، لخوفهم مِن كلام الناس أو لأنّهم رأوها "مُختلفة" وغير صالِحة لتكون زوجة وأمًّا. بقيَ قلب منال فارغًا ولَم يدقّ لأحَد... إلا لجواد. لكن مَن يكون جواد؟

كان جواد طالبًا في الكلّيّة نفسها لكنّه كان يُتابع إختصاصًا آخَر، ويجتمِع مع باقي الطلاب في الكافيتريا حيث يخوضون أحاديث مشوّقة عن أمور مُختلفة. وكانت منال تجلسُ في مُعظم الأحيان في الكافيتريا نفسها لوحدها إلى طاولة في الزاوية، وتُراجعُ دروسها بصمت. وفي أحَد الأيّام، جاءَ إليها جواد سائلاً عمّا تدرسه، وطلَبَ منها الاذن بالجلوس معها، فوافقَت أوّلاً لأنّها خجِلَت منه وثانيًا لأنّه كان وسيمًا. بدآ يتحدّثان عن الفلسفة واللغات وعِلم النفس لمدّة ساعة بكاملها، إلى حين اضطُرَّت أختي لحضور حصّة. عندها وعَدَها جواد أن يُتابعا الحديث معاً في اليوم التالي وهي وافقَت بسرور. أنا مُتأكّدة مِن أنّ منال لَم تنَم في تلك الليلة لكثرة حماسها وربّما خوفها. فذلك الشاب كان الوحيد الذي أعارَها أهمّيّة خاصّة. وفي اليوم التالي، وفى جواد بوعده وتلاقى مع منال في الوقت والمكان المُحدّدَين. وجرى بينهما حديث مُشوّق عن أمور هي تُحبّها وتعرفُها، وانبهرَت بكمّيّة المعلومات التي يملكها مُحدِّثها.

بعد ذلك، تتالَت اللقاءات في المكان نفسه إلى حين طلَبَ جواد مِن أختي أن يخرجا سويًّا، وهي طلبَت مِن أبوَينا الاذن لذلك وهما وافقا بسرعة مِن كثرة فرحهما بأنّ شخصًا مِن الجنس الآخَر مُهتمًّا بابنتهما "المعوّقة". أنا أيضًا فرِحتُ لها وكذلك أخوَتي، وساعدتُها لتحضير نفسها للذهاب إلى مطعم جميل، فألبستُها على ذوقي كي تبدو عصريّة بعض الشيء، إذ كان ذوقها بالملابس عادةً تقليديًّا.

وصَلَ جواد مُتأخّرًا بعض الشيء إلى المطعم، بعد أن كادَت منال تفقِد الأمَل وهي تنتظره، وقضَيا وقتًا مُمتِعًا سويًّا. وفي تلك الجلسة، أعرَبَ عن اعجابه بها وشوقه لمعرفة المزيد عنها. فهو كان يراها جالسة لوحدها في الكافيتريا يوميًّا ولَم يتجرّأ في البدء أن يُحدّثها مِن خوفه أن تصدّه. بالطبع هو لاحظَ عرجتها القويّة، إلا أنّ الأمر لَم يُشكّل مُشكلة بالنسبة له على الإطلاق. إتّفقا أن يزورُ جواد أهلنا لطلَب الاذن بمواعدتها ولاحِقًا خطبتها، ووقعَت منال بالحبّ رسميًّا.

لكنّ جواد لَم يكن جدّيًّا على الاطلاق بل يُنفِّذ خطّة دنيئة، إنطلاقًا مِن شرط وضَعه مع أصدقائه وعليه تنفيذه. فهؤلاء الشبّان كانوا يلعبون ألعابًا غير اعتياديّة والذي يخسَر يجدُ نفسه مُجبرًا على تنفيذ ما يُطلَب منه. والشرط في تلك المرّة كان أن يُواعِد "العرجاء" كما كانوا يُسموّنها، وأن يخرج معها علَنًا ليهزأ منه الجميع. كيف لأحد أن يتلاعَبَ هكذا بأحاسيس انسان آخَر، خاصّة إن كان ذا إعاقة جسديّة؟ لستُ أدري.

جاء جواد لزيارتنا وحصَلَ على برَكة أهلنا، وأخَذتُ منال إلى السوق لأشتري لها مجموعة ملابس جديدة. ألن تكون مخطوبة قريبًا؟

لكن أثناء ما كان يجري وراء الكواليس، جاء في أحَد الأيّام شاب لينتظرني أمام مدخل مدرستي. كنتُ آنذاك في سنتي الأخيرة وأعودُ إلى البيت يوميًّا مشيًا على الأقدام. هو اعترضَني وقال مِن دون مُقدِّمة:

 

ـ قولي لأختكِ إنّ جواد إنسان قذِر وإنّ عليها عدَم رؤيته والخروج معه.

 

ـ ماذا؟!؟ ومَن تكون؟!؟

 

ـ أنا تلميذ في الجامعة... في الكلّيّة نفسها... لا أحَد يُلاحظُ وجودي، ربّما لأنّني قصير القامة وعاديّ الملامح... لكنّني موجود في كلّ مكان. إسمَعي، منال ضحيّة خطّة بشعة، وسرعان ما ستعرف أنّ جواد يتلاعَب بها وستكون محطّ سُخرية الجميع.

 

شعرتُ بغضب كبير وبالرغبة بالانتقام. كيف سأقول لأختي إنّ حبيبها يُغشّها وأمحو البسمة والفرحة عن وجهها؟ أم أنّ عليّ التصرّف لوحدي؟ جلستُ مع ذلك الشاب إلى جانب الطريق، وبدأتُ أسأله عن تفاصيل عديدة وهو أطلعَني على كلّ الذي أردتُ معرفته. شكرتُه وكلّ منّا ذهَبَ في طريقه.

في اليوم التالي، إدّعَيتُ أنّني ذاهبة إلى مدرستي إلا أنّني قصدتُ الجامعة. كان الوقت لا يزال مُبكرًا ولَم يكن هناك مِن أحَد بَعد. إختَرتُ ذلك اليوم بالتحديد، لأنّ "المُخبِر" أكّدَ لي أنّ الدروس التي يتلقّاها جواد ورفاقه لن تبدأ إلا بعد الظهر. على كلّ الأحوال، لَم أكن أُريدُ رؤية أيٍّ منهم أو حتّى منال بل شخصًا آخر: مُدير الكلّيّة. لا أدري اليوم كيف وجدتُ الجرأة الكافية لفعل ما فعلتُه، إلا أنّ ذلك كان نابعًا عن حبّ عظيم لمنال ورغبة بحمايتها مِن هؤلاء المُفترسين.

إنتظرتُ حوالي الساعة خارج مكتب المُدير كما طلبَت منّي السكرتيرة، وتحدّثنا سويًّا عن سبب وجودي هناك. لدى سماعها قصّتي، إستنكرَت المرأة بشدّة ورأيتُ الدموع في عَينَيها، فكان لدَيها إبنة أخت صمّاء وبكماء وتعرفُ كيف أنّ الناس المُختلفين يعانون مِن نظرة الآخرَين وتنمّرهم. وصَلَ المُدير وهي أدخلَتني مكتبه واضعة يدَها على كتفي ومُبتسِمة لي. أظنّ أنّها وجدَتني شجاعة للغاية، وتمنَّت ضمنيًّا أن يكون لابنة أختها مَن يُدافعُ عنها هكذا.

إستمَعَ إليّ المُدير مُطوّلاً بينما روَيتُ له كيف أنّ جواد ورفاقه يتلاعبون بمشاعر أختي، وكيف أنّ الجميع على عِلم بالشرط. أضفتُ أنّ تلك الضربة ستكون قاضية على حياة منال المعنويّة والعاطفيّة، وأنّه لا يجب أن تحدث هكذا أمور في الكلّيّة. أنهَيتُ كلامي قائلة: "إن حدَثَ شيء لأختي، أعني إن هي آذَت نفسها بسبب ما تعرفه حضرتكَ الآن، فسأُحمِّل الكلّيّة كامل المسؤوليّة". نظَرَ إليّ المُدير بمزيج مِن الاعجاب والخوف، وأكّدَ لي أنّه سيُحقّق بالأمر ويتصرّف، لكنّه لا يقدر على أخذ إجراءات في حال لَم يثبت شيئًا بوضوح وبالأدّلة. شعرتُ أنّ قضيّتي ستكون خاسِرة، لكنّني كنتُ فخورة بنفسي لأننّي، على الأقلّ، حاوَلتُ. خرجتُ مِن مكتب المُدير حزينة فعانقَتني السكرتيرة بعد أن سألَتني عمّا جرى معي. عدتُ إلى البيت لأفكِّر بكيفيّة إطلاع منال على خطّة جواد مِن دون أن أؤذيها. وكنت أخشى أن يسبقَني جواد بالتخلّي عنها أو بالافصاح لها عن السبب الحقيقيّ الذي حمَله على مواعدتها. لكنّني فضّلتُ الانتظار قليلاً، فإمتحانات آخِر السنة في الجامعة باتَت قريبة، ولَم أكن أُريدُ أن تخسَرَ منال سنتها الدراسيّة.

لكن بعد أيّام قليلة، عادَت أختي إلى البيت باكية وخشيتُ الأعظم، إلا أنّها قالَت لي:

 

ـ جواد... تمّ طرده مِن الكلّيّة! حبيبي جواد، لماذا فعَلتَ ذلك؟!؟

 

ـ ما الأمر؟ ماذا حدَث؟

 

ـ لقد وجدوا بحوزته نسخة عن أسئلة الامتحان، بعد أن دخَلَ سرًّا مكتب السكرتيرة أثناء غيابها، وفتَحَ القسم المُخصّص لأسئلة الامتحانات وسرَقَها.

 

ـ سكرتيرة المُدير؟

 

ـ أجل... هي التي اكتشفَت الأمر وشكَّت فيه بصورة خاصّة، لا أدري لماذا. إلا أنّهم وجدوا في شنطته الأوراق المسروقة فتمّ طرده على الفور.

 

ضحكتُ في سرّي بعد أن فهمتُ ما جرى. واسَيتُ منال، وأضفتُ أنّ مَن يفعَلُ ذلك لقادِر على فعل الكثير، وأنّ عليها التفكير بقطع علاقتها به، فهو ليس جدير بها. بقيتُ أقنعُها بلزوم التوقّف عن رؤيته حتّى اقتنعَت جزئيًّا. على كلّ الأحوال، إختفى جواد مِن حياتها كلّيًّا، وهي اعتبرَت أنّه خجِلَ منها ولا يستطيع مواجهة حكمها عليه.

قصدتُ الكلّيّة ذات يوم باكرًا، ودخلتُ غرفة السكرتيرة التي ابتسمَت لدى رؤيتي. كنّا لوحدنا، فهي استطاعَت التكلّم على سجيّتها:

 

ـ لقد تحقّقتُ مِن كلامكِ يا صغيرتي وتبيّنَ أنّكِ قلتِ الحقيقة. جواد هو شاب مُقرِف بالفعل وكذلك رفاقه. لا أدري إن كنتُ قد تصرّفتُ كما يجب لكنّني لستُ بنادِمة: طلبتُ مِن جواد المجيء إلى مكتبي تحت حجّة أنّ عليه ملء استمارة مُتعلّقة بالقسط الجامعيّ، فأعطيتُه الاستمارة وأجلستُه على الكرسيّ هناك. وبينما هو يكتب، وضعتُ أسئلة الامتحان في الجَيب الخارجيّ لشنطته، ثمّ رحتُ أشرب القهوة في غرفة الأساتذة. هناك، قلتُ للجميع إنّ تلميذًا إسمه جواد موجود في مكتبي، وإنّ عليّ شرب القهوة بسرعة كَي لا أتركه لوحده لمدّة طويلة. أيّ أنّني خلقتُ شهودًا لِما سيجري لاحقًا. وتعرفين الباقي.

 

ـ لماذا فعلتِ ذلك يا سيّدتي، فأنتِ وضعتِ عمَلكِ تحت الخطَر!

 

ـ لقد كذبتُ عليكِ... إبنة أختي ليست صمّاء وبكماء... بل ابنتي. لا أحَد هنا يعرفُ أنّ لدَيّ إبنة لأنّني خجِلتُ في البدء مِن حالتها ولَم أعُد قادرة على قول الحقيقة. لكنّ موقفكِ حيال أختكِ بيّنَ لي مدى جُبني، وأشكركِ على ذلك. فأنتِ أقوى منّي ولا تبلغين نصف سنّي! لذا أخذتُ قرارَين: الأوّل هو أن أُعاقِب جواد على غشّ إنسانة مُختلفة والاستهزاء بها، فاعتبرتُها بمثابة ابنتي... والثاني هو أن أعترِفَ علَنًا بابنتي أمام زملائي والافتخار بها أيضًا! إنّ الناس الذين لدَيهم إعاقات جسديّة أو عقليّة ليسوا أقلّ مِن الآخرَين ولا يجب الخجَل بهم، بل الوقوف إلى جانبهم ومُساعدتهم والافتخار بهم. أنتِ، يا آنسة، صبيّة مُميّزة وهنيئًا لمنال بكِ!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button