كنّا في موعدنا الثالث، عندما جاءَ اتّصالٌ على هاتِف زاهي وسمِعتُ صوت سيّدة تسأله أين هو، ثمّ تأمره بالعودة إلى بيته لتناول العشاء. في بادئ الأمر خلتُ أنّها أمّه، إلّا أنّني تذكّرتُ أنّ أمّه، حسب قوله، مُتوفّاة. إضافة إلى ذلك، ما مِن أمّ تُكلِّم هكذا إبنًا في الأربعين مِن عمره. ولدى انتهائه مِن المُكالمة المذكورة، نظرتُ إليه باستفهام، وهو قال:
ـ إنّها رانيا.
ـ ومَن تكون رانيا؟ أختكَ؟
ـ لا... أختُ المرحومة.
فزاهي كان أرملًا، الأمر الذي لَم أرَ أيّ عَيب فيه، طالما لَم يكن لدَيه أولاد عليّ تربيتهم أو الاعتناء بهم. وكما علِمتُ، فزاهي كان مُتزوّجًا لمدّة عشرة سنوات، ثمّ أصيبَت زوجته بمرض خبيث عذّبَها لسنين قَبل أن ترحَل مِن هذه الدنيا. لكنّني لَم أكن أعرف بوجود أخت لها أو بنوعيّة علاقتها بصهرها. فأضفتُ:
ـ أجل، ولكن... نبرة صوتها... ومسألة عودتكَ لتناول العشاء...
ـ لا تُبالي، فهكذا هي... إنّها تفعل جهدها لمُساعدتي بعد وفاة أختها. فهي كانت مُقرّبة منها، وبما أنّها عزباء، إستطاعَت مواكبة المسكينة خلال مرضها حتّى النهاية.
ـ أعذرني لكنّني أجِدُ صعوبة في تصديق...
ـ الحلّ سهل جدًّا! ستأتين معي إلى بيتي، وتتعرّفي على رانيا ونأكل نحن الثلاثة. ما رأيكِ؟
قبِلتُ الدعوة فقط لأرى إن كان زاهي يقولُ الحقيقة أم لا، فلَم يكن لدَيّ وقتًا أضيعُه مع رجُل كاذِب أو محتال يتلاعبُ بي. رافقتُه وأنا مُتأكّدة مِن أنّه سيتراجَع في أيّ دقيقة، وأنّ "رانيا" هي إمّا عشيقته أو شيء مِن هذا القبيل. إلّا أنّني كنتُ مُخطئة، فتلك السيّدة كانت بالفعل أخت المرحومة وتهتمّ ببيته وطعامه كما أوصَتها أختها قَبل مماتها. لكنّ رانيا لَم تفرَح عندما رأتني آتية مع زاهي، إلّا أنّها بقيَت مُهذبّة وتناوَلنا العشاء بجوّ شبه طبيعيّ، تخلّلَته تلميحات لا تُحصى عن عظمة الزوجة الميّتة، وكيف أنّ لا يُمكن استبدالها بأيٍّ كان على جميع الأصعدة. فهمتُ الرسالة جيّدًا وتفهمّتُ رانيا في موقفها منّي.
وفي طريق العودة، سألتُ زاهي إن كان هو بالفعل تخطّى موت زوجته وينوي بناء حياة زوجيّة مِن جديد، وهو أجابَني:
ـ لقد تألّمتُ كثيرًا خلال مرَض زوجتي ولدى موتها، فلقد عشنا سويًّا لسنوات عديدة، لكن... إسمعي، سأكون صريحًا معكِ... الحقيقة أنّني لَم أكن سعيدًا معها لأنّها... رحمها الله، كانت إنسانة مُتسلِّطة ومُتعجرِفة وامتلاكيّة لحدّ لا يوصَف. هل أنّ السبب هو عدَم قدرتها على الإنجاب؟ لستُ أدري... لكن لا، هي كانت هكذا منذ البداية، لكن بدرجات أخف. ولن أخفيَ عنكِ أنّني شعرتُ بنوع مِن الراحة، أعني الحرّيّة حين هي... ليُسامحَني الله... لكن لا أدري كيف كنتُ سأعيش معها حتّى آخِر أيّامي. لا تكرهيني أرجوكِ لأنّني كنتُ صريحًا معكِ... أريدُ فقط أن أكون سعيدًا مع امرأة هادئة ومُحِبّة، وأتقاسَم معها كلّ شيء مِن دون خوف وقلَق.
وضعتُ يدي على يَد زاهي ووعدتُه بأن أفعلَ جهدي لإسعاده.
أكمَلنا المواعدة، وبالفعل اتّضَحَ أنّ لدَينا قواسم مُشتركة عديدة، فعقدَنا خطوبتنا وقرَّرنا العَيش في الشقّة نفسها، مع أنّ زاهي أرادَنا أن نجِدَ مكانًا آخَر، إلّا أنّني كنت قد أحبَبتُ المكان كثيرًا لوسعه وموقعه. وطبعًا قمنا بتغيير الفرش لتكون لنا، وبالأخصّ لزاهي، بداية جديدة. وكم تفاجأتُ في أحَد الأيّام حين دخلتُ شقّة خطيبي أن أجِد الجدران مُغطّاة بصوَر المرحومة! أخذتُ هاتفي وكلّمتُ زاهي الذي تفاجأ أيضًا ووافاني بعد أقلّ مِن ساعة. إستنتَجنا طبعًا أنّ رانيا هي الفاعِلة، فهي لَم تكن سعيدة بخبَر خطوبة زاهي وانتقالي القريب. وقرَّرَ خطيبي التكلّم معها على انفراد وأخذ مُفتاح بيته منها. لكنّ ردّة فعل تلك المرأة كانت عنيفة جدًّا، إذ أنّ زاهي أخبرَني أنّها بدأَت تصرخُ به قائلة:
ـ أيّها الناكِر للجميل! تُريدُ مَنعي مِن الذهاب إلى بيت أختي؟!؟ إنّه بيتها وليس بيت تلك الفاسِقة! أنت تُريد التخلّص منّي بعدما عامَلتُكَ كالولَد اليتيم بإطعامكَ وغَسل ملابسكَ؟!؟
ـ ما هذا الكلام يا رانيا؟!؟ أنا لا أنكُر فضلكِ بالوقوف بجانبي في مِحنتي، لكنّ الوقت حان لأبنيَ عائلة خاصّة بي، أم تُريديني أن أبقى وحيدًا؟
ـ أختي وحيدة تحت التراب يا زاهي، وأنتَ لستَ أفضل منها!
ـ هي ميتة وأنا على قَيد الحياة! أريدُ أن أكون سعيدًا.
ـ لن أدعكَ تسعَد!
ـ أنتِ لا تعينَ أنّ كلامكِ لا منطق فيه... أفهمُ امتعاضكِ لكنّكِ لستِ موضوعيّة وواقعيّة. شيء آخَر، هذا بيتي أوّلًا وآخِرًا، أفهِمتِ؟ أعطِيني المُفتاح مِن فضلكِ ولا تتدخّلي بحياتي بعد الآن، إلّا إذا كان مِن منبَع صداقة ومحبّة. و"بيتي" مفتوحٌ لكِ في أيّ وقت، شرط أن تطرقي على بابه أوّلًا ويُفتحَ لكِ.
لكنّنا لَم نكن نعلَم آنذاك أنّ لرانيا نسخة أخرى مِن المُفتاح، لذلك اطمأنَّ بالُنا مُعتقدين أنّ أخت المرحومة ستفهم قريبًا أنّنا لا نُسيء إلى ذكرى أختها بل نُريدُ إكمال حياتنا، فالحياة للأحياء وليس للأموات.
أكمَلنا فرش البيت بألوان زاهية ومُفرِحة، ثمّ أعدَّينا لائحة المدعوّين لفرَحنا التي كانت تضمّ رانيا مِن باب الاحترام فقط، فكّنا نعلَم أنّها لن تأتي ونأمَل ألّا تفعل، فمَن يعلَم كيف ستكون ردّة فعلها وإن كانت ستُحدِث مُشكلة بحضور الجميع؟ كنتُ بالفعل سعيدة مع زاهي، وآملُ أن تكون لدَينا حياة هنيئة وأن أُعطيه بسرعة الذريّة التي لطالما حلمَ بها.
لكنّ رانيا لَم تكن لتسمَح لنا بأن نذوق طعم الهناء، فهي بدأَت خطّتها بشكل خفيّ ومدروس، بالدخول إلى الشقّة وأخذ بعض الأمتعة الخاصّة بي والتي كنتُ قد نقلتُها مُسبقًا. في البدء ظنَنتُ أنّني نسيتُ أين وضعتُها بالتحديد، أو أنّني لَم أجلِبها أصلًا، فلَم أشكّ بشيء. أمّا بالنسبة لزاهي، فعلِمتُ منه لاحقًا أنّه وجَدَ صورة للمرحومة في درج ملابسه الداخليّة، الأمر الذي استغربَه كثيرًا، إلّا أنّه نسيَه بسرعة لكثرة انشغاله بعمَله وبتنظيم فرَحنا وشهر العسَل.
بعد ذلك، تفاجأ زاهي كثيرًا بالاتصال الذي تلقّاه مِن شركة السياحة التي تُنظِّم شهر عسَلنا، إذ أنّ الموظّفة أرادَت معرفة سبب إلغائه للرحلة، الأمر الذي لَم يحدُث على الاطلاق. وعلِمَ خطيبي أنّ رجُلًا إتّصَلَ بالمكتب مُنتحِلًا شخصيّته، وطالبًا إلغاء الرحلة بأكملها. ولأنّ المُنتحِل هو رجُل وليس امرأة، لَم يخطُر ببالنا أنّ لرانيا ضلعًا بالموضوع، بل أنّ أحَدًا ما يُريد الانتقام مِن زاهي لسبب مجهول.
وقعَنا في حيرة مِن أمرنا، لكنّنا استطَعنا إنقاذ رحلتنا والتركيز على الزفاف كأيّ عروسَين. وأثناء كلّ تلك الفترة، لَم نسمَع مِن رانيا أو نراها، وخلنا صدقًا أنّها تركَتنا وشأننا. لكن في أحَد الأيّام، وأنا في شقّتنا الزوجيّة المُستقبليّة، وجدتُ في الدرج الموجود إلى جهتي قرب السرير، ظرفًا يحتوي على تحاليل مخبريّة مفادها... أنّ زاهي عاقِر! جلَستُ على السرير لكثرة مُفاجأتي، وقرأتُ التقرير بتمعّن مُتفحِّصة ختم المُختبَر وتوقيع الطبيب اللذان بَدَيا لي بالفعل أصليَّين. لكن لماذا إدّعى زاهي أنّ زوجته هي العاقِر، وكيف له أن يتأمّل معي إنجاب العديد مِن الأولاد؟ وما هو أهمّ، مَن وضَعَ التقرير في الدّرج... هل أنّ زاهي أرادَ الاعتراف لي بالأمر قَبل الزواج؟ أخذتُ هاتفي لأتّصل به وأسأله عن الأمر، حين ساورَتني فكرة أخرى: هل يمكن أن تكون لِرانيا نسخة أخرى لمفتاح بيتنا، الأمر الذي يُفسِّر حوادث اختفاء أغراضي؟ قرّرتُ مُخابرة رانيا والتقصّي عن الموضوع بطريقة غير مُباشرة. ولحظة ما فتحَت الخطّ هي قالَت لي:
ـ لقد وجَدتِ التقرير، أليس كذلك؟
ـ أجل، لكن...
ـ إسمعي... أنا لا أحبُّكِ ولا يهمّني أمركِ على الاطلاق، وأنا لا أفعلُ ذلك مِن أجلكِ... لكنّني أقسَمتُ لأختي وهي على فراش موتها أنّني لن أدَع زوجها يعرفُ طعم السعادة بعد المُعاملة السيّئة التي تلقَّتها منه. فهو إنسان قبيح بالفعل! أنا مُتأكّدة مِن أنّه مَن سبَّبَ لها المرض لكثرة تأثّرها بتنمّره الدائم لها، وعدَم احترامه وخياناته المُتتالية. حتّى أثناء مرَضها كان يخرج ويتركها لوحدها، لِذا وجَبَ عليّ الاهتمام بأختي على مدار الساعة. وحين توفّيَت، صرتُ أطبخُ له وأرتِّب بيته لأبقِيَ عَيني عليه، بينما هو ظنّ أنّ أختي أوصَتني به. كنتُ على يقين مِن أنّه قال لكِ إنّ أختي هي العاقِر، لأنّه قال ذلك للجميع ليُحافِظ على رجوليّته ويبدو وكأنّه هو الضحيّة، وليتمكّن مِن الزواج مُجدّدًا ويوهِم النساء بأنهنّ ستنجبنَ منه، كما فعَلَ معكِ.
ـ قد أُصدِّق أمر العقم، لكنّ زاهي إنسان رائع... مَن يؤكّد لي أنّكِ لا تكذبين؟
ـ الأمر سهل للغاية... المبنى كلّه على معرفة بطريقة مُعاملة زاهي للمرحومة، إسأليهم كلّهم. ولا أظنّ أنّني أمتلكُ قوّة إقناع كافية لأحمِلهم جميعًا على الكذب مِن أجل مَنع زاهي مِن الزواج. ألَم يكن يُريدُ الانتقال مِن هنا؟ لماذا برأيكِ؟ لأنّه يعلَم أنّ الجيران لا يُحبّونه ويعرفون حقيقته، وقد يأتي يوم ويفضحون أمره.
ـ إعلَمي أنّني سأُغيّر قفل الباب، إن كنتِ على حقّ أم لا.
ـ إفعلي ما تشائين، فمُهمّتي انتهَت في ما يخصّكِ.
ـ مهلًا... هل أنتِ وراء مُحاولة إلغاء الرحلة؟
ـ أجل ولقد ساعدَني أحَد زملائي في العمَل، فهو يعرفُ زاهي ويعرفُ حقيقته.
في اليوم نفسه بدأَتُ سلسلة زيارات لجيراني المُستقبليّين، وجميعهم أثنوا على أخلاق المرحومة وطباعها الهادئة، وتمنّعوا عن الاطراء على زاهي، والبعض منهم سألَني إن كنتُ لا أتسرّع بالزواج أو إذا أنا مُتأكّدة مِن خَياري. فهمِتُ الرسالة جيّدًا وأنّ رانيا كانت على حقّ. تذكّرتُ طبعًا ما قالَه زاهي لي عن ارتياحه لدى موت زوجته، فأيّ إنسان يقولُ ذلك لو أنّه صاحب ضمير؟
تناقشتُ مع خطيبي في موضوع عقمه، بعدما أطلعتُه على إيجادي للتقرير الطبيّ، وهو لَم يستطِع الإنكار، بل بدأ يجِدُ الأعذار العديدة وغير المُقنِعة. وعندما رأى أنّني لَم أُصدِّقه، صارَ يصرخُ عليّ، ونعتَني بالغبيّة والساذجة، وسألَ نفسه كيف تحمّلَني طيلة خطوبتنا. وحين رأيتُ كيف بدأ بالتنمّر عليّ ومُحاولته إقناعي بالقوّة والترهيب، فهمتُ ما ينتظرُني معه، أي تمامًا ما مرَّت به المرحومة. فسختُ بسرعة خطوبتي معه بعد أن استرجُعتُ كلّ أمتعتي بالسرّ. ثمّ أسرَعتُ بالاتّصال برانيا لأشكرها، وفهمتُ منها أنّها ستكون بالمرصاد لزاهي كما أقسَمَت لأختها.
بعد فترة، باعَ خطيبي السابق شقّته... وكذلك راينا، ويقيني أنّه لن يُفلِت منها أبدًا!
حاورتها بولا جهشان