لماذا لم تهرب حبيبتي معي؟

لزمني أكثر من عشرين سنة، لأكتشف حقيقة ما حصل معي، ولذلك ضاع منّي جزء كبير من عمري. كانت حبيبتي متزوّجة حين تعرّفتُ إليها ولم يخطر على بالي في ذلك النهار أنّها ستصبح أهمّ إنسانة على قلبي. كنتُ قد إنتهيتُ من إعطاء محاضرتي في الجامعة وعلى وشك الصعود في سيّارتي، عندما سمعتُ بكاءً في المرآب. توجّهتُ نحو مصدر الصوت ووجدتُ إمرأة شابة جالسة خلف العامود ودموعها تنهال على خدودها. ركضتُ إليها وسألتها إن كانت بخير فأجابتني:

- نعم سيّد كمال...

- تعرفين من أكون؟

- أجل... فأنا تلميذة هنا في الكليّة وأدرس الإقتصاد وأنت تدرّس التاريخ... الكل يعرفكَ.

- وما بالكِ تبكين هكذا؟

- زوجي... إنّه سيء الطباع... لم يكن هكذا قبل الزواج... وكلّما آتي إلى الجامعة يثور عليّ ويحاول منعي... مع أنّه وعدني أنني أستطيع إكمال دراستي... إنّه يغار كثيراً عليّ... وأعلم أنّه سيسيء معاملتي حين أعود إلى البيت... أبكي لأنني خائفة...

- هل تريدينني أن أكلّمه؟

- لا! قد يظنّ أنّ هناك شيئاً بيننا! أنتَ لا تعرفه...

- وهل ستكونين بخير؟

- لا أدري... إذا كان بمزاج جيّد، سيكتفي بالصراخ عليّ وإلّا...

- هل يضربكِ؟

- أحياناً... ولكنني أتحمّل كل هذا لأنني سأتركه حين أنتهي من الدراسة وأحصل على شهادتي... لم يتبقّى لي سوى سنة واحدة.

وعرضتُ عليها أن أوصلها إلى البيت ولكنّها رفضَت. سألتُها عن إسمها ووعدتها أن أسأل عنها من حين إلى آخر. ولكن عندما عدتُ إلى منزلي، لم أتوقّف عن التفكير بتلك المسكينة وبالوحش الذي تعيش معه. وفي صباح اليوم التالي، أخذتُ أنتظر أن أراها قادمة إلى الكليّة من شبّاك مكتبي. وحين وصلَت، نزلتُ السلالم ركضاً وسألتها إذا ضايقها زوجها. ولكنني حصلتُ على جوابي حين رأيتُ الكدمات على ذراعيها وإمتلأت عيوني بالدموع. قالت لي:

- لا تحزن عليّ سيّد كمال... كل هذا سينتهي قريباً...

ودخلَت صفّها. إختليتُ بنفسي قليلاً قبل أن أبدأ بالتعليم ولكنني لم أكن مرتاحاً. أنهيتُ التدريس باكراً وجلستُ على سلالم الجامعة لكي أرى سناء عند خروجها. وعندما مرّت من قربي، طلبتُ منها أن تكون حذرة مع زوجها وألّا تجادله كثيراً لكي تتفادى عنفه. وعدتني بأنّها ستكون مطيعة ورحلَت. وهكذا بدأتُ أطمئنّ على سناء كل يوم في الصباح وبعد الظهر وشعرتُ أنني مسؤول عنها وعن سلامتها وبات هذا جزءً من حياتي اليوميّة. ولكن في ذلك اليوم، لم أرَ سناء تدخل حرم الجامعة وبدأ قلبي يدقّ بسرعة والأفكار السيئة ملأت رأسي. ماذا لو حصل لها مكروهاً؟ هل أذاها زوجها لدرجة أنّها لم تستطع القدوم؟ وبينما كنتُ أفكّر بطريقة لإنقاذها ظهرَت أمامي. صرختُ بها:

- أين كنتِ؟ إنشغل بالي عليكِ! لا تفعلي هذا بي مجدداً!

ولكنني أدركتُ بسرعة أنني تماديتُ كثيراً وإعتذرتُ منها:

- أنا آسف... ولكنني إعتقدتُ الأسوء...

- بالعكس... هذا يسرّني أن أعلم أنّكَ مهتمّ بي وأشكركَ على ذلك... تأخّرتُ اليوم بسبب أشغال تقام في وسط شارعنا ما تسبّب بأزمة سير ولم يستطع سوّاق التاكسي إيصالي بالوقت.

كان بودّي أن أعانقها مطوّلاً وأقول لها كم أصبحَت غالية عليّ ولكنني تماسكتُ نفسي خوفاً من أن أزعجها. ولكن عند إنتهاء الدروس، هي التي جاءت إلى مكتبي قائلة:

- سيّد كمال... لماذا تفعل كل هذا معي؟ أعني كل هذا الإهتمام... هل هو بدافع الشفقة؟ إذا كان هذا هو السبب أرجوك أن...

- لا... أعرف أنّكِ إمرأة قويّة تحاولين الخروج من مأزقكِ... أخاف عليكِ.

- لأنّكَ أستاذ وأنا تلميذة؟

- لأنني... لأنني أحبّكِ يا سناء.

لم أتوقّع أبداً أن تعانقني سناء عند سماع هذا وأن تهتف في أذني: "أنا أيضاً أحبّك". وبقينا هكذا متعانقين مطوّلاً، ثمّ خرجَت دون أن تقول شيئاً. وهكذا بدأت علاقتنا التي بقيَت عذريّة حتى آخر يوم، فكلانا أردنا أن ننتظر حتى تصبح سناء حرّة لكي نحبّ بعضنا كليّاً. وحين جاء آخر السنة الدراسيّة قالت لي:

- حصلتُ على إجازتي ويمكنني الآن طلب الطلاق من زوجي. لا أدري إن كان سيقبل ولكن عليّ المحاولة.

- إحترسي منه... وأعلميني بالنتيجة فوراً.

إنتظرتُ مكالمة سناء حتى ساعات الليل المتأخّرة دون جدوى ولم تتصل بي سوى في الصباح ومن نبرة صوتها علمتُ أنّ زوجها صبّ غضبه عليها. قالت لي في وسط بكائها:

- عندما كلّمته بالأمر، جنّ جنونه وبدأت الضربات تنهال عليّ...

- أريد أن أراكِ اليوم! إفعلي المستحيل لتأتي إلى مكتبي في الجامعة... سأقول أنّكِ آتية لطلب النصيحة منّي.

وقبل وصولها، كنتُ قد قرّرتُ أن أعرض عليها الهرب معي إلى باريس، حيث عُرِضَ عليّ منصب محاضر في إحدى الجامعات. كنتُ قد رفضتُ الذهاب بسبب سناء خوفاً من أن أتركها وحدها مع زوجها. وحين أصبحَت في مكتبي، أطلعتها على خطّتي وفرحَت كثيراً، فكانت قد فقدَت الأمل. عندها أخذنا نفكّر بالتوقيت المناسب والطريقة الأفضل لهروبها. حددنا الموعد بعد يومين على لقائنا، خوفاً من أن يزيد زوجها عنفاً، بعدما علِم بنيّتها بالرحيل. وفي اليوم المذكور، كانت أعصابي مشدودة لدرجة أنني لم أستطع الأكل والشرب. كنتُ قد إشتريتُ تذكرتين سفر إلى باريس وحزمتُ أمتعتي. قضيتُ الوقت أنظر إلى ساعتي وأراقب عقارب الساعة. وكانت سناء قد بعثت حقائبها مع سائق الأجرة إلى عنواني وكل ما كان متبقّي، كان وصولها قبل عودة زوجها من العمل. ولكنني إنتظرتُ كثيراً ولم تأتي. وطبعاً ظننتُ أن مكروهاً حصل لها وبدأتُ أرتجف من الخوف. وبينما كنتُ أستعدّ لأذهب إليها وأنقذها من الموت، جاءني إتصال منها:

- إسمع كمال... أشكركَ على كل شيء ولكنني لن آتي معك... فكّرتُ مطوّلاً ووجدتُ أنني أحبّ زوجي... أتمنّى لكَ السعادة... وداعاً.

وأقفلَت الخط قبل أن يتسنّى لي الجواب. جلستُ وسط الحقائب لأستوعب ما قد حصل، ثمّ أخذتُ أمتعتي وذهبتُ إلى المطار وطرتُ إلى باريس دون أن أنظر ورائي. كان قلبي حزيناً للغاية ولم تبارح الدموع عينيّ لفترة طويلة ولكن منصبي الجديد ومسؤوليّاتي أنستني قليلاً مصيبتي. وبقيتُ هناك، لأنّه لم يكن هناك من سبب لأعود، فأهلي كانوا متوفيين وحبيبتي فضّلت زوجها والضرب عليّ. ومع أنني تعرّفتُ على نساء كثر هناك، لم أقع في حبّ أيّ منهنّ، لأنّ قلبي كان قد تألّم كفاية ولم أكن أريد المرور مجدداً بتجربة فاشلة. وفي ذات يوم وأنا جالس أمام حاسوبي، خطر على بالي ومن دون سبب معيّن أن أبحث عن سناء على الفايسبوك. كتبتُ إسمها وإسم زوجها وظهرَت صفحتها أمامي. بدأ قلبي يدقّ بقوّة وأصابعي ترتجف لدرجة أنني قمتُ عن الكرسي ومشيتُ قليلاً في البيت قبل أن أرجع مكاني وأعاود النظر إلى الشاشة. توقّعتُ أن أرى إمرأة سعيدة ومبتسمة ولكن كلّ صورها كانت سناء تبدو تعيسة وكأنّها على شفير البكاء. ورأيتُ زوجها لأوّل مرّة وإكتشفتُ أنّ لديها ولدين مراهقين. كانت حبيبتي السابقة قد أكملت حياتها من بعدي وأصبح لديها عائلة جميلة. ولكي أنهي عذابي الذي دام عشرين سنة، بعثتُ لها رسالة عبر فايسبوك تقول:

- هنيئاً لكِ على حياتكِ... أنا مسرور لكِ لأنّكِ وجدتِ السلام.

 وبعد ساعتين وصلني ردّاَ منها على رسالتي تسأل فيها عن أحوالي. كذبتُ عليها وقلتُ لها أنني سعيد جداَ مع إمرأة فرنسيّة تعرّفتُ إليها فجاوبتني:

- الآن وعلمتُ أنّكَ وجدتَ المرأة المناسبة أستطيع أن أبوح لكَ بالحقيقة. في تلك الليلة التي كنّا سنهرب معاً، عاد زوجي باكراً من العمل وأقفل عليّ الباب وقال لي أنّه على علم بِهروبي بعدما أخبره سائق الأجرة أنّه أوصل حقيبتي إلى منزلكَ. وأضاف أنّه لن يمدّ يده عليّ بل أنّه سيؤذيكَ أنتَ أينما كنتَ وإن كنتُ أريد أن تعيش، فعليّ الإتصال بكَ وإقناعكَ بأن ترحل مِن دوني لأنني لم أعد أحبّكَ. وهكذا فعلتُ، لأنّ سلامتك أهمّ مِن كل شيء. أتمنّى لكَ السعادة وأرجو منك ألّا تتصل بي مجدّدا، لأنّ لديّ أولاداً الآن وحياة هادئة.

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button