عندما توفّي جارنا العجوز، جاء محمود أبن أخيه، ليعيش في شقّته المقابلة لنا. وعندما إلتقيتُ به لأوّل مرّة، كان يحمل صناديق كبيرة تحتوي على أمتعته ورأيتُ الأوشام العديدة على ذراعيه وذقنه الطويلة، فخفتُ من مظهره وركضتُ أخبر زوجي بما رأيته.
- أجل... أنا أيضاً رأيتُ شكله المخيف... لا عجب بذلك فهو كان مسجوناً لفترة طويلة. عمّه رحمه الله اخبرني بهذا. لم يقتل أحد ولكنّني لا اتذكّر جرمه... سرقة أم إعتداء بالضرب... لستُ أدري...
- ماذا؟ ما العمل؟ لايمكنه العيش هنا فلدينا أطفالاً ولا أريد أن يعاشروا هكذا شخص!
- لا أحد يستطيع منعه من العيش في منزل ورثه من عمّه، طالما لايفعل شيئاً غير قانوني. هدّئي من روعكِ... أنسيتي أنّ لديكِ رجلاً يحميكي ويدافع عنكِ؟ تصرّفي معه وكأنّه أي جار اّخر... لا تتقربي منه ولا تجافيه وكل شيء سيسير على ما يرام. ثقي بي حبيبتي.
وأخذتُ بنصيحة زوجي، فكنتُ أُلقي التحيّة على محمود عندما ألتقي به في المبنى ولكنني لم أكن أتحدّث معه. أمّا هو فكان بالكاد يردّ التحيّة وينظر إليّ بطريقة مخيفة وكأنّه يريد التخلّص منّي. وحسب قول زوجي، كنتُ أتخيّل هذه الأشياء لأنني علمتُ بماضيه ولأنّ مظهره خشن وغير تقليدي. باقي الجيران كانوا يشاطرونني نفس الشعور وكلّما كنتُ أجتمع معهم، كان حديثنا كلّه يدور حول هذا المالك الغريب الأطوار. ولكن مع الوقت بدأنا نعتاد على وجوده بيننا، خاصة أنّه كان قليل الظهور وبالكاد كنّا نراه أو نسمعه، فهو كان يقضي معظم وقته خارج شقّته، يخرج منها في الصباح ويعود إليها متأخراً. ولكن في يوم من الأيّام عندما كنتُ عائدة من السوبرماركت محمّلة بأكياس عدّة، صادفته في المصعد وعرضَ عليّ مساعدته. رفضتُ بتهذيب ولكنّه بقيَ مصرّاً وحمَلَ الأكياس ودخل بها إلى منزلنا ووضعها في المطبخ. ثم ذهبَ إلى الصالون ونظرَ حوله بإعجاب وقال:
- يا للمنزل الجميل ... لا بدّ أنّكم اغنياء!
- لا! لا ... نحنُ أناس عاديين ومعظم هذه الأشياء أتى بها زوجي من بيت أهله. شكراً على مساعدتكَ لي... الوداع ...
نظر إليّ محمود بتعجّب ثم إبتسمَ وخرج من الشقّة ليدخل منزله. أقفلتُ الباب وراءه بالمفتاح وقلبي يدقُ بسرعة، فلقد إنتابني خوف شديد وندمتُ كثيراً لأنني أدخلتُه بيتنا. عندما عاد زوجي من العمل إستمع إلى ما حصل وقال ببساطة:
- الرجل ذات ذوق رفيع... ولكن من المستحسن ألا تدخليه الى هنا مرّة أخرى.
لم أكن لأفعل هذا مجدداً، فبرأيي كان بإمكانه قتلي بكل سهولة. شكرتُ ربّي أنّ الأولاد كانوا في مدرستهم وإلاّ كانوا خافوا كثيراً. وتأكدَّت مخاوفي عندما حصل ما كنتُ أخشاه: تمّ سرقة إحدى الشقق في المبنى وأوّل شيء قلتُه كان: "هذا فعل محمود بالتأكيد!". وعندما جاءت الشرطة للتحقيق بالحادثة، أسرعتُ لأخبرهم بوجود سجين سابق ووعدوني بالإستماع إلى أقواله. وتمّ إستدعائه ولكنّه لم يُلقى القبض عليه، فرجِعَ إلى منزله في اليوم ذاته. ولكن قبل أن يدخل شقّته دق جرس بابنا. لم أجرؤ على الفتح له فكلّمني من وراء الباب:
- لماذا فعلتِ ذلك؟ لماذا أوشيتِ بي إلى الشرطة؟ ألأنني كنتُ مسجوناً؟ هل هذا يعني أنني مسؤول عن كل ما يحدث في العالم؟
- أنا...
- دفعتُ ثمن اخطائي... ألا تظنّين أنني أستحق أن أعيش كباقي الناس؟
- أنت مجرم! يا ليتكَ تذهب من هنا ولا تعود أبداً!
لم يُجيب على ما قلتُه، ففضّلَ الدخول إلى منزله. خجِلتُ من نفسي لأنني كنتُ عدائيّة معه وفكّرتُ بالإعتذار منه ولكن خوفي منه منعَني من ذلك. فوعدتُ نفسي أن أكفّ عن التهجّم عليه، على الأقل حتى نعرف نتيجة التحقيق. وعندما جاء زوجي في المساء قررنا الذهاب لزيارة جارنا الذي تمّت سرقته، لنعرض عليه مساعدتنا فوجدنا هناك معظم سكّان المبنى وكانوا يتحدثون عن شكوكهم بمحمود، فمَن غيره قادر على القيام بهذا ولماذا حدثَت السرقة بعدما جاء يسكن هنا بقليل؟ وبدأ الكل يقّدم حججاً وبراهيناً على تورطه وحلولاً لوجوده بيننا. وأجمعنا كلّنا على ضرورة طرده من المبنى، حتى لو لم تُثبَت إدانته. ولا أدري لماذا ولكنني حزنتُ من أجله، مع أنني كنتُ الأولى على إتهامه وإبلاغ الرشطة عنه. كان هناك شيء بالذي قاله لي من وراء الباب قد أثار شفقتي. فكان على حق... هل كل السارقين هم أصحاب سوابق؟ وهل كل المساجين السابقين يعيدون تكرار إجرامهم؟ لا بدّ أن البعض منهم يعاودون حياتهم العاديّة بعد أن يدركوا أن ما فعلوه كان خطأً. ولكنني لم أدافع عنه أمام الجيران وتركتهم يخطّطون على طرده. ولكنني في اليوم التالي ذهبتُ إلى شقّة محمود وقرعتُ الجرس. فتحَ لي وتعجّب كثيراً لرؤيتي واقفة أمامه. قال لي بسخرية:
- السيّدة الصغيرة وجدَت الجرأة والشجاعة للمجيء إلى وكر الذئب؟
- هل أنتَ من قام بالسرقة نعم أم لا؟
- لا! ثمّ لا!
ونظرتُ بعينيه وعلمتُ أنّه يقول الحقيقة. لم أتفوّه بكلمة وعدتُ إلى شقّتنا. لم أنَم جيّداً تلك الليلة، فكانت صورة محمود تَظهَر أمامي وهو يقول لي "لا!" فقررتُ ان أذهب في الصباح الباكر إلى مركز الشرطة وأقول لهم أنني ربما كنتُ مخطئة بالشك بمحمود. قال لي المفتّش:
- سيّدتي... نحن نأخذ بعين الإعتبار أقوال الشهود ولكننا لا نرتكز فقط عليها في تحقيقاتنا... لم يكن بإستطاعة محمود القيام بالسرقة لأنّه كان في عمله... منذ خروجه من السجن وهو يعمل في مركز لإعادة تأهيل السجناء والمدمنين على الكحول... فهو يعطيهم نصائح ويساعدهم على الإنخراط في الحياة المدنيّة... وبالإضافة إلى ذلك فهو لم يسرق يوماً... جرمه كان أنّه دَهَسَ بسيّارته رجلاً عندما كان يقود وهو ثملاً... ومنذ ذلك الوقت لم يشرب نقطة مشروب واحدة. إنّه قدوة للآخرين.
وأوّل شيء فعلتُه بعد خروجي من مركز الشرطة، كان الإتصال بجميع سكّان المبنى بما فيهم محمود ودعوتهم لعقد إجتماع عام وطارىء في منزلنا. وحين إكتمل النصاب أخبرتُهم عمّا علِمتُه من المفتّش وإعتذرتُ علناً لجاري. أمّا هو، فتأثّرَ كثيراً بحديثي عنه وله وقبِلَ بإعتذاري. حينها إستسمحَ الجميع منه ورحّبوا به في المبنى. بعد فترة تمّ القبض على العصابة التي قامَت بسرقة الشقّة.
حاورتها بولا جهشان