لماذا رحلت أمنا؟

كرِهتُ أبي إلى أقصى درجة، وحاولتُ إكرامه قدر المُستطاع تماشيًا مع توصيات الله. لكنّ ذلك الرجل كان الشرّ بحدّ ذاته ولا يعرفُ الرحمة أو الحبّ، بل يأبَه فقط لِنفسه ورغباته.

عندما تركَتنا أمّي، كنتُ لا أزال في السادسة مِن عمري ولَم أعرف السبَب، بل أعتقَدتُ أنّ التي أعطَتني الحياة هي إنسانة معدومة الأخلاق، كما بقيَ أبي يُرَدّدُ لنا.

مع الوقت، صِرتُ ولدًا حزينًا للغاية، ولَم يقدر أيّ مِن أخوَتي الصغار رسم بسمة على وجهي. فهمّي الوحيد، على خلافهم، كان فهم دوافع والدتي التي حمَلَتها على تَرك ثلاثة أولاد وراءها وعدَم السؤال عنهم يومًا. كنتُ بحاجة إلى أجوبة واضحة وليس إلى جمَل مُركّبة شعَرتُ أنّها تُخبّئ تفسيرات غير واضحة. إضافة إلى ذلك، بتُّ أرى مع الوقت تصرّفات والدي مع النساء التي تُحيطُ به، أيّ أنّه لَم يُوفّر وسيلة لإغراء جميعهنّ وبأيّة طريقة. هل كان يفعلُ ذلك لأنّه كان وحيدًا وغاضبًا مِن رحيل زوجته؟ عذرٌ إضافيّ على الأعذار التي اختلقَها لِنفسه ولنا.

شاركَت جدّتي في تربيتنا لكنّها لَم تُشارك في شَتم أمّي، فكلّما أتى ذكرُها كانت تهزُّ برأسها وتقول:

 

- ليُسعدها الله أينما هي.

 


وأنا كنتُ أستغربُ الأمر، فقد كان مِن المفروض عليها أن تحذو حذوَ إبنها، خاصّة أنّها تحمّلَت عبئًا ثقيلاً بسبب كنّتها، إلا أنّني لَم أستطع معرفة المزيد منها. قضَيتُ وأخوَتي ليالٍ طويلة بمُناقشة نظريّات عديدة حول أمّنا، لكنّ الوقت محا مِن ذهنهم تلك المرأة التي لم يعرفوها سوى لفترة قصيرة. وحدي أبقَيتُ صورتها في ذهني... وفي مخبأ أمين بعدما سرقتُ ما استطعتُه مِن صوَر قَبل أن يتمّ تَلفُها. لكنّني لَم أحصل يومًا على أيّة معلومة بشأن مكان تواجدها. وصارَت والدتي كتلك البطلات الغامضات اللواتي تختفَينَ في ليلة ضبابيّة.

بعد سنوات، أي عندما صرتُ في الرابعة عشرة، تزوّجَ أبي ثانيةً. لَم يُؤثّر بي الخبَر، على عكس أخوَتي الذين فرحوا لِوجود أمّ ثانية لهم. وحين دخلَت آمنة البيت، ألقَينا عليها التّحيّة بتهذيب وبشيء مِن الخوف.

لكنّ تلك المرأة لَم تشكّ بالذي ينتظرُها في بيتنا. كانت قد قبلَت أن تُربّي ثلاثة أولاد ليسوا منها بكلّ طيبة قلب واندفاع، لكن مُقابل حبّ واحترام زوجها لها. فهي لَم تعرف أنّ والدنا لا يُحبّ سوى نفسه وما تطلبُه نفسه.

في البدء، كانت تُعامِلُنا آمنة وكأنّنا أخوَتها الصغار، وأذكرُ أنّنا قضَينا أوقاتًا مُمتعة برفقتها. ضحكنا ولعبنا كثيرًا وابتسَمتُ مُجدّدًا. صحيح أنّها لَم تكن والدتي، لكنّها كانت أنثى ولطيفة.

لكن سرعان ما صِرنا نسمعُ أصوات آمنة تعلو خلال مناقشاتها الحادّة مع أبي. إسترَقتُ السّمع طبعًا، واستطعتُ استيعاب أجزاء فقط مِن كلامهما، لكنّ ذلك كان كافيًا لأفهم استنكار آمنة لخيانات زوجها لها. فهي كانت شابّة وجميلة ولا ينقُصُها شيء لإسعاده. إلا أنّه كان يُعاشُر نساءً أخريات وهي علِمَت بالأمر. فالحقيقة أنّ أبي لَم يكن يفعلُ جهده لإخفاء خياناته أو لإختلاق أعذار مُقنِعة، هذا لأنّه كان يؤمِنُ فعلاً بأنّه يستطيع فعل ما يُريدُه مِن دون تأنيب.

خطأ آمنة هو أنّها صبَّت غضبها علينا. فهي اعتبرَت أنّها تقومُ بتضحية كبيرة لتربيتنا وأنّها لَم تُلاقِ مِن زوجها التقدير اللازم. وصِرنا نخافُ منها ومِن صُراخها الدّائم بنا وعُدنا إلى حزننا ووحدتنا.

وبعد أقلّ مِن سنة، رحلَت آمنة مِن دون أن تودّع أحدًا. إنتابَني غضبٌ كبير تجاهها وكرهتُها لفترة، مُعتبرًا أنّ تصرّفها معنا وتَركنا هو خيانة لِما كان بيننا.

لكنّ رحيل آمنة فتَحَ عَينيَّ على حقيقة أصبحَت واضحة: ماذا لو أنّ أمّي هي الأخرى تركَتنا للسبب نفسه؟ ماذا لو لَم تكن، كما أخبرَنا أبي، إمرأة غير شريفة ومعدومة الأخلاق والعاطفة؟

قصَدتُ جدّتي وطرَحتُ عليها الأسئلة نفسها، وهي هزَّت كعادتها برأسها وسكتَت. لكنّني لَم أعُد ذلك الصبيّ الخجول الذي يقبَلُ بأيّ تفسير، فأصرَّيتُ عليها لتُخبرَني حقيقة ما جرى مع أمّي. قالَت لي باكية:

 

ـ لا أعرفُ أين أخطأتُ في تربية أبيكَ يا صغيري... لكنّه كبُر ليصير رجلاً قاسيًا وأنانيًّا لا يُحبّ سوى نفسه. ظننتُ أنّه سيعقل عندما يتزوّج، إلا أنّه عذَّبَ أمَّكَ لدرجة لا تتصوّرها. شتمَها وعنَّفَها وخانَها، وهي تحمّلَت قدر المُستطاع إلى أن قرّرَت أخيرًا الرحيل. حاولَت أخذكم معها، لكنّ أباكَ هدّدَها وأخافَها ووعدَها حتى بقتلها وقتلكم. إبني هو شيطان بصورة انسان.

 


كَم بكيتُ عندما عدتُ إلى غرفتي! هكذا إذًا... وقرّرتُ الأخذ بتأر أمّي مِن والدي وبأقرب وقت. لكنّني تفاجأتُ في اليوم التالي بخبر موت جدّتي، وشعرتُ بالذنب. هل كنتُ السبب في توقّف قلبها بعدما باحَت لي بالحقيقة؟ هل حديثها معي ذكّرَها بشرّ إبنها وتعذيبه لكلّ امرأة صادفَها ففضَّلَت الموت؟

حزني على جدّتي أنساني لِبرهة رغبتي بالإنتقام لأمّي. حاولتُ محو كرهي للذي أعطاني الحياة برؤية ولو قدر صغير مِن الحزن على أمّه، لكنّني لَم أجد في عَينَيه شيئًا يدلُّ على أسفه لفقدانها. فهي لَم تعُد نافعة له بعدما ربَّت أبناءه وصارَت عبئًا عليه، لا بل الشاهد الوحيد على ممارساته البشعة. بكلمة، إرتاحَ والدي مِن جدّتي.

لَم يمرّ أربعون يومًا على وفاة أمّه، حتى أمَرَ أبي بتزيين البيت لاستقبال زيارة عروسه الثالثة. تجمَّدت الدماء في عروقي وعروق أخوَتي لأنّنا صِرنا نعرفُ ما الذي سيحصل. حاولنا بِخجل تغيير رأيه، إلا أنّه بدأ يصرخُ فينا ويُهدّدنا بطردنا جميعًا. فهذا هو بيته ونحن ضيوفٌ عنده وليس أكثرًا.

إنتظرتُ أن تأتي ريما إلى بيتها الزوجيّ وتُلقي التّحيّة على أولاد زوجها المُستقبليّ حتى آخذها على حدة وأقولُ لها:

 

ـ أهلاً بكِ... أرجو أن تكوني سعيدة في بيتنا ووسطنا... لكنّني أشكُّ بذلك.

 

ـ لماذا تقولُ لي ذلك؟ هل تنوي واخوتكَ تعذيبي وحَملي على الرحيل؟

 

ـ بالعكس. ستجديننا إلى جانبكِ في أوقات حزنكِ. مَن سيُعذّبُكِ هو أبونا، فهو سيخونُكِ ويُهينُكِ بشتّى الطرق. هكذا هو، وهكذا سيبقى. أرجوكِ... لا تتزوّجيه!

 

ـ أنا لا أُصدّقُكَ! فلقد حذّرَني أبوكَ منكم، وقال لي إنكم لا تريدونه أن يتزوّج ويكون سعيدًا.

 

ـ سترَين أنّني أقولُ الحقيقة. على كلّ حال، لَم أتوقّع أن تُصدّقيني.

 

تزوّجَت ريما مِن أبي بالرغم مِن تحذيراتي لها، وتعامَلت معنا بحذَر، وقلّما تخالَطَت معنا، فهي خافَت منّا. لكنّها بدأَت مع الوقت تُلاحظُ علامات الخيانة على زوجها. فهي لَم تكن بسذاجة أمّي وآمنة، ربمّا لأنّها كانت تكبرهنّ سنًّا ولها خبرة بالحياة. لِذا، فضّلَت الرحيل بسرعة قبل أن يُدمّر أبي فؤادها وعزّة نفسها. لكنّها، على خلاف آمنة، أصرَّت على توديعنا قبل أن تختفي مِن حياتنا، وشكرَتني على تنبيهها. وطبعَت ريما قُبلة على خدّي وقالَت لي:

 

- مِن الواضح أنّ أمّكَ هي إنسانة طيّبة وخلوقة لأنّكَ لا تُشبه والدكَ بشيء... إيّاكَ أن تتغيّر!

 

رحيل ريما قبل أن يبدأ أبي بإذلالها ولَّدَ لدَيه مرارة كبيرة، لأنّها أفلتَت مِن قبضته. لِذا صارَ أبي بِغاية العدائيّة معنا، ولا أستطيع تصوّر ما كان ليفعله بنا لو علِمَ بتحذيري لها!

أمضَيتُ واخوَتي باقي السنوات وكأنّنا نعيشُ لوحدنا. فأبي تجاهلَنا كليًّا وركّزَ كلّ اهتمامه على عشيقاته. لَم يُعاود الزواج بعدما فهِمَ أنّ ما مِن امرأة ستقبل بالعَيش معه حسب قوانينه.

تزوّجنا جميعًا وصارَ لنا بيت وعائلة، وأبي لَم يهدأ إلا عندما أُصيبَ بذبحة شلّته نصفيًّا. عندها، جلَبَ إلى البيت إحدى عشيقاته التي كانت تصغره بثلاثين عامًا ومَنَعَنا مِن زيارته. وهي، بدلاً مِن الإهتمام به، صارَت تبيعُ شيئًا فشيئًا أغراض وأثاث البيت حتى لَم يبقَ هناك مِن شيء سوى سرير وبعض الكراسي، ثمّ تركَته ورحلَت مِن دون عودة. وقد اعتبرَت أنّ ذلك مِن حقّها، فأيّة صبيّة ترضى بالعَيش مع عجوز مريض مِن دون مُقابل؟

عندما قصَدتُ والدي بعد وقت، كان بحالة يُرثى لها، وظنَنتُ أنّه أدركَ أخطاءه وتابَ. إلا أنّه، وبالرغم مِن سنّه وحالته، بقيَ رجلاً كريهًا. عرَضتُ عليه مُساعدته ماديًّا وجَلب مُمرّضة خاصّة له، وحاولتُ إقناعه بالمجيء إلى بيتي والعَيش معنا، لكنّه رفضَ كل اقتراحاتي بعنف رهيب... وشتَمَنَي.

ماتَ أبي وحيدًا، ولَم نعرف بِموته إلا عندما وصلَني الخبر مِن جيرانه الذين شمّوا رائحة كريهة تنبعث مِن بيته.

هل حزنتُ عليه؟ كلا.

... ولا أزالُ أبحثُ عن أمّي حتى اليوم.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button