لماذا تبعَني ذلك الرجل طيلة رحلتي في أسبانيا؟

تعرّفتُ إلى صافي على متن الطائرة التي كانت تقلّني إلى برشلونة لزيارة أخي مازن الذي كان يُنهي دراسته هناك. وبعد أن جلستُ في الطائرة جاء رجل نحوي وقال:

- عفواً آنستي ولكن هذا مقعدي...

- لا... أنظر إلى بطاقتي! أنا جالسة في المكان الصحيح! وإن كنتَ لا تصدقّني إسأل المضيفة!

- لا... لا داعي لكل هذه الجلبة... سأبحث في مكان آخر...

وإختفى عن نظري. وبعد الإقلاع بنصف ساعة تقريباً عاد الرجل ووقف ثانية أمامي. قلتُ له بسخرية:

- ما الأمر؟ ألم تجد مكاناً تجلس فيه بعد؟ أم أن مقعدي هو الوحيد على متن الطائرة؟

- لا... أنا آسف جداً... للحقيقة إخترعتُ هذه القصّة منذ الأول لكي يتسنّى لي أن أتكلّم معكِ... أنا آسف إن كنتُ أبدو وقحاً... رأيتكِ في قاعة الإنتظار ولم أستطع تجاهل جمالكِ...

إحمرّ وجهي خجلاً عند سماع هذا ولكنني قلتُ له رغم وسامته وإعترافه بإعجابه بي:

- أنتَ إنسان وقح! من تخال نفسكَ؟

- إسمي صافي وأعيش في إسبانيا ولديّ شركة تجاريّة.

وأقنعَ الرجل الجالس بقربي بأن يبدّل معه المقاعد وهكذا أمضى باقي الرحلة برفقتي. أخبرني عن نفسه أمّا أنا فلم أتكلّم كثيراً فلم أكن أدري إن كان عليّ الوثوق به أم لا. لا أنكر أنني إستمتعتُ بحديثه ورفقته ولكنني لم أعلّق أي أمل عليه فلم يكن سوى مجهول تعرّفتُ عليه خلال رحلة في الجو. وحطّت الطائرة ونزلنا لجلب حقائبنا. ثم تصافحنا على باب المطار وذهبَ كل واحد منّا في جهّة.

فرحتُ كثيراً لرؤية أخي الصغير ينتظرني في الخارج وعانقته مطوّلاً. صعدتُ معه في سيّارة الأجرة التي قادتنا إلى شقّته الصغيرة. هناك تبادلنا الأخبار والقصص ونمنا بعد أن وعدني مازن بأخذي في اليوم التالي لرؤية المدينة. وهكذا حصل. ذهلتُ بهذا الكم من الجمال وبالطعام اللذيذ الذي تناولناه. وبينما كنّا في المطعم خلتُ للحظة أنني رأيتُ الرجل الذي رافقني على الطائرة. صرختُ:

- صافي!

ولكنّه إختفى بين سرب من السوّاح. إستغربَ أخي لكوني أعرف أحداً في برشلونة فرويتُ له القصّة. ضحَك وقال:

- لا أستغربُ كثيراً فأنتِ جميلة وجذّابة ولكن من المستبعد أن يكون هو فالمدينة كبيرة والإحتمالات أن تلتقي به ضئيلة جداً.

كان على حق فلا بدّ أنني أعجبتُ بالرجل لذا إعتقدتُ أنني رأيته. نسيتُ الموضوع ولكن بعد يومين عندما كنتُ ذاهبة لوحدي أتسوّق رأيتُ صافي واقفاً أمام واجهة محل ينظر إلى ثياب رجّاليّة. ركضتُ إليه:

- هذا أنتَ! ماذا تفعل هنا؟

- أتبضّع! أهذا غريب في مدينة سياحيّة كهذه؟

- ليس غريب إن كنتَ سائح ولكنكَ قلتَ لي أنّكَ تعيش هنا وأنّ لديك شركة.

- هذا صحيح ولكن لا بدّ لي أن أشتري ثياباً! كفّي عن الشكّ بي وتعالي نشرب فنجان قهوة في المقهى هناك. هيّا!

وقبلتُ دعوته وجلسنا نتكلّم. كان إنسان لطيفاً جداً وذات ثقافة واسعة وكبر إعجابي به وحين حان وقت الرحيل سألتُه:

- ألن تطلب منّي رقم هاتفي؟

- أظنّ أنّنا سنتقابل مجدداً وقريبا جداً.

ورحلَ. ضحكتُ لغرابة الموقف وعدتُ إلى شقّة أخي وأخبرته بالذي حصل. ولكن لم تعجبه أو تضحكه هذه الصدفة وقال لي:

- إحترسي يا أختي... أنا لا أؤمن بالصدف... أعتقد أن هذا الرجل يتبعكِ... لا تخرجي من دوني...

- ولكنكَ مشغول بجامعتكَ وأنا لم آتي إلى هنا لأنحصر بين أربعة جدران... لا تخف عليّ فأنا فتاة قويّة.

ولكنني أدركتُ أنني لم أكن بالقوّة التي تكلمتُ عنها حين لاحظتُ أنّ أشخاصاً تلاحقني أينما ذهبتُ. في البدء لم أنتبه للرجل الذي كان يمشي خلفي في السوق ولكن عندما رأيته يتوقّف عندما أتوقّف ويتابع طريقه معي قررتُ التأكدّ من الأمر. فدخلتُ شارع ضيّق لا يوجد فيه محلات فدخله أيضاً ورائي. حينها إنتابني خوف شديد وبدأتُ أركض نحو مجموعة من السيّاح وإختبأتُ بينهم. ثم صرختُ لسيّارة أجرة وركبتها وعدتُ إلى الشقّة. لم أخبر مازن بشيء فلم أكن أريد إلهائه عن دروسه خاصة أنّه كان يجري إمتحانات آخر السنة وقررتُ عدم الخروج وحدي كما طلبَ منّي أن أفعل. وبعد أسبوع جاء وقت العودة فودّعتُ شقيقي العزيز على أمل أن أراه قريباً عندنا في البلاد.

- خذي هذه الأغراض لأمّنا وهذه لصديقي سمير فلقد أوصاني على بعض الحاجات من هنا. سيتّصل بكِ عند عودتكِ.

وذهبتُ إلى المطار والدموع تملئ عيوني. ولكن عندما دخلَت حقيبتي آلة الفحص جاء شرطيّ وطلب مني مرافقته إلى مكتب المفتّش. إستغربتُ كثيراً وحاولتُ معرفة السبب ولكنّه لم يجب على أسئلتي. قادني إلى مكتب وطلب مني الجلوس بصمت. وبعد بضعة دقائق فُتح الباب ورأيتُ صافي واقفاً أمامي. صرختُ به:

- ما هذه المهزلة؟ أَوَصلت وقاحتك إلى هذا الحد؟ أهكذا تتقرّب من النساء؟ أهنّئكَ على هذا الأسلوب اللطيف! أريد الذهاب الآن... ستقلع طائرتي بعد دقائق!

- إسمي ليس صافي ولستُ تاجراً. أنا مفتّش في قسم الإتجار في المخدّرات المشترك بين بلدنا وإسبانيا. وما وجدناه في حقيبتكِ يؤكدّ لنا شكوكنا.

- ماذا وجدتم؟ وعن أي شكوك تتكلّم؟ ماذا يجري؟

- كنّا نشكّ بأخيكِ وها قد حصلنا على الدليل.

- أخي تلميذ جامعيّ مجتهد! لا بدّ أنّكَ مخطئ!

- وهذا؟ ماذا تقولين عن هذا؟

وأراني الكيس الذي أعطاني إيّاه أخي لصديقه ثم فتحه وظهرَت أكياس مليئة ببودرة بيضاء. ومع أنّني لم أرَ مثلها بحياتي علمتُ فوراً أنّها كوكايين. حاولتُ فوراً إنقاذ نفسي وأخي:

- لم أكن على علم بمحتوى الكيس وأنا متأكّدة أنّ أخي أعطاني إيّاه دون أن يتفحّصه... عليكم القبض على ذلك الصديق!

- إسمعيني... إننا نتبع مازن منذ فترة وكل المعلومات التي جمعناها تشير أنّه يترأّس العمليّات في برشلونة. قررتُ مراقبتكِ منذ وصولكِ لمعرفة إن كنتِ أنتِ همزة الوصل بينه وبين بلادنا ولكنني إكتشفتُ أنّ لا دخل لكِ بكل هذا.

- إعتقدتُ أنّكَ معجب بي... ماذا سيحصل الآن لشقيقي؟

- ذهبَت الشرطة الإسبانيّة للقبض عليه وسيرحّل إلى البلد المحاكمة. في النهاية سيلقى العقاب الذي يستحقّه. لا تأسفي عليه فهو ساهم في خراب صحّة ومستقبل أناس كثيرة.

ودّعني المفتّش وأوصلني إلى الطائرة وأمضيتُ الرحلة أفكّر بما حصل وبطريقة لأفسّرَ لأهلي لماذا إبنهم بالسجن. وما زاد من حزني هو كيف أنّ أخي حاول إستعمالي لتمرير بضاعته رغم المخاطر التي قد تنتظرني.

حاورتها بولا جهشان   

المزيد
back to top button