لزمَني ثلاثة أسابيع لكي أتعافى من الهجوم الوحشي الذي كنتُ ضحيّته وسألتُ نفسي مراراً من كانت تلك المرأة ولِمَ فعلَت هذا بي فلم أرها يوماً بحياتي ولم أؤذيها بشيء.
كنتُ ذاهبة في سيّارتي إلى العمل ككل يوم، أرندحُ مع المذياع، حين شعرتُ بخبطة كبيرة في مؤخّرة المركبة. نظرتُ بالمرآة ورأيتُ أنّ سيّارة قد إصطدمت بي. نزلتُ لأتفقّد الأضرار وإذ بسيّدة تنزل أيضاً من سيّارتها وتبدأ بضربي بواسطة عصى، دون أن تتفوّه بكلمة. لم أدافع عن نفسي لشدّة وهلتي وقبل أن أستوعب ما الذي حصل كانت قد كسرَت ذراعي وملأت جسمي بالكدمات. ولولا تدخّل بعض المارّة وإيقافها، كانت قتلتني. ثم ركبَت سيّارتها وهربَت إلى جهّة مجهولة. وعندما جاء المحقّق إلى المستشفى ليسألني عن هويّة الفاعلة لم يصدّق أنني لا اعرفها:
- سيّدتي... هذه الوحشيّة في الإعتداء عليكِ سببها غضب وكره عميق... لن تُقنعيني أنّكِ لا تعرفين من هي!
وبما أنني لم ألاحظ رقم سيّارتها وأنّ تلاميح وجهها عاديّة جداً فكان من المستحيل العثور عليها. بكيتُ كثيراً على كتف زوجي الذي كان مسافراً عندما حصل الإعتداء والذي ركضَ لرؤيتي لحظة رجوعه.
وبعد أن أصبحتُ بحال أفضل رجعتُ إلى المنزل وبداخلي خوف عميق من أن أقع على تلك المجنونة مجدداً أو أن تجدَني وتأتي إليّ. فبدأتُ أوصد الأبواب والشبابيك جيداً ولا أغادر البيت إلا برفقة أحد ما. أمّا في الليل، فكنتُ أرى أحلاماً مزعجة وأستفيق منها وأنا أصرخ من الخوف. كنتُ سأستمرّ هكذا لولا صدفة غريبة حصلَت بعد أشهر عديدة من الحادثة. كنتُ مع صديقتي رنا نتسوّق في أحد المجمعات التجاريّة، عندما رأيتها. شعرتُ وكأنّ دمّي يتجمّد في عروقي ولم أعد أستطيع التحرّك. مسكتُ يد رنا وقلتُ لها بصوت خافت:
- ها هي! أنظري... لا... لا تنظري... هناك في هذا المحل!
- هل أنتِ متأكدّة؟!؟
- وهل يإمكاني نسيانها؟
قررنا مراقبتها عن بعد. إتّضح لنا أنّها تعمل في محل للألبسة الرجاليّة وإنتظرناها ساعات طويلة حتى إن إنتهى دوام عملها، لنتبعها ونرى إن كانت تملك السيّارة التي صدمتني بها. وكنتُ على حق فالمركبة لم تكن فقط من نفس الماركة واللون بل كانت الضربة ما زالت موجودة على المقدّمة، فهي لم تتكبّد حتى عناء إصلاحها. عند رؤية هذا المشهد، شعرتُ أن رجليّ لم تعد تحملني، فطلبتُ من صديقتي إرجاعي إلى البيت. وفي طريق العودة سألتني رنا:
- ما تنوين فعله الآن؟ هل آخذكِ إلى مركز الشرطة؟
- لا... ليس الآن... أريد أن أعرف من هي أوّلاً ولماذا فعَلت هذا بي.
- هل جُننتِ؟ ألم تري ما يمكنها فعله؟ هي مجنونة!
- المجنونة لا تعمل في محل ألبسة طوال النهار وتتصرّف بلطافة مع الزبائن. ألم تريها كيف كانت تبتسم وتخاطب الناس؟ لا... ليست مجنونة... هي متوحّشة ولكن ليست مجنونة.
وأخذنا نراقبها بجديّة، ولكي لا تتعرّف عليّ كنتُ أضع نظّارات سوداء وقبّعة وهكذا علِمنا أين تسكن وماذا تفعل خلال النهار، فقط لأنني لم أكن قادرة على اللحاق بها في المساء، فكيف لي أن أبرّر غيابي لزوجي؟ ولم أكن مستعدّة لإخباره بتحريّاتي خوفاً من أن يهزأ منّي. لذا إستعنّا بأخ رنا، شاب في الثلاثين من عمره وطلبنا منه أن يراقب تلك المرأة ليلاً. ما علمنا منه بعد بضعة أيّام، هو أنّها تذهب إلى شقّة في الجهة المقابلة للبلدة وتمكثُ فيها بضعة ساعات ثم تعود إلى منزلها. ولكنّه لم يعرف أكثر من ذلك، فكونه رجل كان من الصعب عليه أن يسأل الناطور أو الجيران عنها دون أن يثير الشبهات. فإنتظرنا حتى أن سافر زوجي وتسنّى لي الخروج ليلاً برفقة رنا إلى العنوان المذكور. وكما قالَ لنا أخ صديقتي فإنّ تلك المرأة تصل الشقّة بعد هبوط الليل ولكنها هذه المرّة مكَثَت طويلاً فلم نراها تخرج. قررتُ الذهاب إلى هناك في صباح اليوم التالي عندما تكون في عملها والسؤال عنها. وكما تصوّرتُ فإنّ الناطور لم يتردّد بإخباري كل شيء بعدما أعطيته مبلغاً من المال:
- السيّدة غنوة إمرأة... أعني أنّها تقابل رجلاً هنا... تأتي يوميّاً وحدها لبضعة ساعات لترتيب الشقّة وعندما يكون صديقها هنا تقضي الليل بصحبته.
وإستفسرتُ منه عن كامل تفاصيل حياتها وأصبح عندي معلومات كافية للإخبار عنها عند الشرطة. ولكن بقيَ هناك لغظ واحد: لماذا هاجمتني وما إنتفاعها من عملها هذا؟ وفي طريق العودة، مررتُ على قسم البوليس وأخبرتُ المحقّق الذي أتى إلى المستشفى بكل ما علمتُه. بعد أن أنّبني على ما فعلتُه، لأنني وضعتُ نفسي في خطر، قال لي أنّه سيستدعي غنوة للتحقيق. طلبَ منّي أن أبقى في بيتي بإنتظار المستجدّات وألا أخبر أحداً عن تحرّياتي، حفاظاً على سريّة التحقيق. فعندما عاد زوجي من السفر لم أستطع التباهي أمامه بمهاراتي. وبعد يومين إستدعاني المحقّق وقال لي:
- سيّدتي... أردتُ إطمئنانكِ فالمدعوّة غنوة هي الآن وراء القضبان... وأنتِ محظوظة جدّاً لأنّكِ ما زلتِ على قيد الحياة، لأنّها إعترفَت أنّها كانت تنوي وبجدّيّة قتلكِ في ذلك النهار وإعادة الكّرة عندما فشلَت محاولتها الأولى.
- يا إلهي! أهي مجنونة لهذه الدرجة لكي تعزم على قتل مجهولة؟
- لستِ مجهولة بالنسبة لها.
- ولكنني لم أرها بحياتي!
- فعَلَت هذا لتأخذ مكانكِ... وتنعم بعلاقتها مع... زوجكِ.
- أنتَ تكذب! إنّه رجل شريف ويحبّني كثيراً! لن أسمح لكَ بِ...
- زوجكِ هنا الآن ونستجوبه لمعرفة إن كان متواطئاً مع غنوة في محاولة قتلكِ... ولقد إعترف حتى الآن بعلاقته الغراميّة معها... هو الرجل الذي كانت تلاقيه قي الشقّة عندما يزعم أنّه مسافر... ولأكثر من سنة... أنا آسف جدّاً...
كم كنتُ غبيّة أو بالأحرى كم كان خبيثاً ليقوم بعلاقة طويلة المدى مع إمرأة أخرة دون أن ألاحظ شيئاً عليه، وأخطر ما في الأمر، أنّه ربما أراد التخلّص منّي بواسطتها. بكيتُ بمرارة في أحضان صديقتي رنا التي وجدَت مثلي صعوبة في تصديق ما حصل. ولكنني إرتحتُ قليلاً عندما علمتُ بعد بضعة أيّام أنّه كان يجهل كلّياً ما كانت غنوة تنوي فعله بي. حاول جاهداً أن يعتذر على ما فعله وطلب أن نبدأ صفحة جديدة ولكنني رفضتُ أي صلة به وطلبتُ الطلاق. فكيف لي أن أثق به مجدّداً بعد ما فعله؟ ومنذ ذلك الحين أعيش مع رنا بِمَنأى عن الكذب والإحتيال، على أمل أن أجد الذي سيجعلني أحبّ من جديد.
حاورتها بولا جهشان