ربما لأنني كنتُ مختلفة عنهم؟ فرفضي لعائلتي كان واضحاً منذ البداية. ولدتُ بين أناس بسطاء، مكتفئين ببساطهم، لا طموح لهم من أي نوع، يعيشون كل يوم بيومه. أمّا أنا، فكنتُ أتطلّع إلى المستقبل بشغف وأعمل على تحسين نفسي قدر المستطاع. أكملتُ تعليمي وعملتُ كنادلة، لدفع قسطي المدرسي ومن بعدها دخلتُ الجامعة. تعلّمتُ أصول التعامل مع الآخرين من خلال الكتب التي كنتُ أقرأها ليلاً، فكان من الطبيعي أن يخلق كل هذا فجوة بيني وبين عائلتي. أنا كنتُ أنظر إليهم نظرة فوقيّة وهم كانوا يعتبرونني متشاوفة، لأنّهم شعروا أنني كنتُ أخجل منهم، خاصة عندما قررتُ الزواج من سمير ولم أعرفهم عليه.
بدأ كل شيء عندما كنّا جميعاً نائمين، سمعنا صرخة مزّقَت الليل. ركضنا لنجد أبي واقفاً وسط غرفته، رأسه بين يديه ويردّد: "إختفى المال... أين المال... وضعته هنا..." عمِلنا على تهدئته لنفهم عن أيّ مال يتكلّم وبعد أن إلتقط أنفاسه، شرح لنا أنّه جاء بمال صاحب المعمل إلى البيت في الليلة السابقة ووضعه تحت فراشه ليوصله إلى المصرف بعد نهاية الأسبوع. نظرنا إلى بعضنا بتعجّب، لأننا لم نكن نعلم أنّها كانت عادة له منذ سنين طويلة. سأله أخي الكبير كم قدر المبلغ الذي فُقِدَ فأجاب:
- مبلغ كبير لدرجة أنني لا أستطيع أن أسدّده حتى لو عملتُ مجاناً طيلة حياتي.
فسألنا أنفسنا من عساه يكون الفاعل، فلم يكن هناك سوى أمي وأنا وأخي وأختي الصغرى ومن المستحيل أن يكون أحدنا. كان هناك طبعاً كل من زارنا بين ليلة السابقة ويوم إكتشاف السرقة ولكنّهم كانوا عديدين، لكثرة الأصدقاء الذين كانوا يترددون إلى بيتنا. لكن من عساه يدخل الغرفة ويخاطر أن يراه أحداً منّا هناك؟
ركضَت أمّي تحضّر كوباً من القهوة البيضاء لوالدي، وبقينا معه حتى أن هدأ وخلدَ إلى النوم أخيراً. وفي اليوم التالي، إلتقيتُ بحبيبي وأخبرتُه بحزن بالذي حصل وخجِلَ من نفسه لأنه كان قد إبتاع لي عقداً من اللؤلؤ بمناسبة مرور السنة على موعدنا الأوّل. قال لي:
- أعلم أنّ الوقت غير مناسباً ولكن هذا عربون حبّي لكِ...
فرحتُ كثيراً لأنّ رجل حياتي كان رومانسيّاً للغاية ولكن عندما عدتُ إلى البيت، لاحظ الجميع عقدي الجديد وتبادلوا النظرات. ثم قال لي أبي:
- لم أكن أعلم أنّ النادلات تستطعنَ شراء المجوهرات الثمينة.
- إنّها هديّة... لماذا لا تستطيعون أن تفرحوا لي؟ هل من الضروري أن أكون بائسة وفقيرة مثلكم؟
وذهبتُ إلى الغرفة مستاءة. ولكن لم يخطر على بالي أبداً أنّهم سيشكّون بأمري ويربطوا بين سرقة المال وعقدي الجديد، وتغيّرَت تصرّفاتهم معي، فعندما كنتُ أكلّمهم، كانوا بالكاد يردّون عليّ ويتهامسون فيما بينهم. في هذه الأثناء، كان أبي قد خضعَ لإستجواب من قِبَل صاحب العمل الذي طالبه بالمال. وصُرِف المسكين من عمله بعد أن قرّر المالك عدم تقديم إدّعاء ضدّه، فرغم كل شيء كان أبي موظّفاً مثاليّاً يتمتّع بسمعة ممتازة، فخلال كل هذه السنوات لم تسجّل أي شكوى ضدّه. ومكثَ والدي في المنزل وتشنّج الجو، فأصبح الكل يصرخ على الكلّ ولكن بالنسبة لهم، كنتُ أنا السبب بالذي أصاب البيت. وبعد أقل من أسبوعين ولكثرة إمتعاضها منّي، باحَت لي أمّي برأيها بي:
- لا تظنّي أننا لا نعلم...
- عمّا تتحّدثين؟
- عن المال الذي "إختفى"... كلّنا نعلم أنّكِ أنتِ الذي أخذتيه.
- أنا؟؟؟ هل جننتم؟ ولماذا آخذه فأنا أعمل وأجني ما يكفيني.
- لكي تعطيه لهذا الرجل الذي تنوين الزواج به ولكي تفرشي بيتكِ الجديد... ألا تخجلين من نفسكِ؟ ألا ترين بأيّة حال هو أبيكِ؟ لطالما كنتِ مختلفة عنّا... أحياناً أسأل نفسي إن كنتُ قد أنجبتكِ أم أنني تبنيّتكِ...
وتركتني لوحدي... لم أتخيّل يوماً أنّ عائلتي تكرهني إلى هذه الدرجة. أنا لم أكن أكرههم، كنتُ فقط أرفض وضعهم ولكن لكل واحد منهم مكانته في قلبي. ركضتُ ألجأ إلى خطيبي الذي إستاء جدّاً لما يحصل لي وقرّر أن علينا الزواج فوراً، فأصبح مكوثي في البيت معهم محرجاً جداً. وكان محقّاً، فلم يكن بإستطاعتي إثبات براءتي ولم يكن في نيّتي حتى أن أحاول، لأنني كنتُ أعرفهم جيداً. فبدأتُ أحضّر نفسي للرحيل وقبل أن أنهي توضيب أمتعتي بيوم واحد، حصل أمر لم يتوقّعه أحد: إختفى أبي. فبعد أن طُرِد من عمله، كان يقضي نهاره في المنزل ويذهب في المساء ليلعب بالورق مع أصدقاءه. وفي تلك ليلة لم يعد. إنتظرَته أمّي وحين أصبحَت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل، أيقظَت الجميع لتخبرنا أنّ والدنا لم يعد إلى البيت. إتصلّنا بالكل وبحثنا عنه في كل مكان، حتى أننا جلنا الطرقات والأزقّة والمستشفيات ولكن لم نعثر عليه. وأُشيرَت أصابع الإتهام نحوي، لأنّهم إعتقدوا أن أبي ولشدّة يأسه قد قتل نفسه. حزنتُ كثيراً له ولي. وجاء الجيران والأصدقاء وأبلغوا الشرطة التي بدورها فتّشَت عنه ولكن من دون جدوى. وفي اليوم التالي، لبِسَت أمّي الأسود وحاوطتها النساء وبدأ الكل يرثي والدي ويتغنّى بأخلاقه وشيمه، حتى أن دخل صبيّ يسكن الحيّ وطلبَ أن يتحدّث مع والدتي قائلاً أنّ لديه رسالة لها. إقتربَ منها وهتفَ في أذنها شيئاً ثم سمعناها تصرخ بأعلى صوتها وأُغميَ عليها. ركضنا جميعاً لإسعافها وبعد أن إستعادت وعيَها صرخَت:
- السافل! السافل! أعطيتُه حياتي! أعطيتُه شبابي وها هو يهرب مع إمرأة أخرى! يا ليتَه مات!
نظرنا كلنا إلى بعضنا وأدركنا أنّ والدي أخذ المال ليبدأ حياة جديدة دون أن يكترث لشعور أمّي أو شعور أيّ منّا ولم يتردّد أن يُلقي التهمة عليّ. أي أب يفعل هذا؟ قد أفهم أنّه سئمَ من زوجته وخانها ولكنني كنتُ إبنته من لحمه ودمه وما بيننا لا يباع ولا يُشترى بأيّ مبلغ. ورغم حزني العميق، شعرتُ بإرتياح لأنّه تمّ تبرئتي وعَلِمَ الجميع أنّ المذنب لم يكن من هو مختلف عنهم، بل من كان منهم وفيهم.
حاورتها بولا جهشان