لم يُكتب لي أن أحِبّ

لن يقنعَني أحَد أنّ الإنسان مخيّر خاصة بعدما لا حقَني قدَري حتى آخر لحظة وأثبتَ لي أنّ ما كُتِبَ سيحدث في نهاية المطاف. فلقد أمضيتُ سنين مِن عمري أجري وراء حبّ لن يرى الإكتمال ولو قال لي أحد أنّ كل ما سأفعله سيذهب سدىّ لوفّرتُ على نفسي الحزن والألم والإنتظار. ومحطّ حبّي كان إسمها سَمَر وكانت أجمل فتاة صادفتُها بحياتي. وكنتُ آنذاك شاب في الخامسة والعشرين وكانت حياتي أمامي رغم ظروف البلد الصعبة بعد إندلاع الحرب فيها. ولم نكن نعلم أنّ الوضع سيطول بل إعتقَدنا أنّها مسألة أيّام أو أشهر قليلة. ولكنّها كانت حرب حقيقيّة دخَلَت فيها مصالح دوَل كثيرة وتنازعات على مَن سيأخذ أكبر حصّة فيها. ولكن في سنّي اليافع لم أرَ أبعاد الذي يجري وتأمّلتُ بغَدٍ أفضل. لِذا لم أتردّد في قصد طاولة تلك الفتاة الجميلة بينما كانت تتناول الغداء مع أصدقائها في المطعم. وتفاجأَت سَمَر كثيراً عندما سمِعَتني أقول لها أمام الناس:

 

ـ آمل أن تكوني عزباء وأن تصبحي يوماً زوجتي.

 

وضَحِكَ الجميع ووجدوني لطيفاً ولكنّ سَمَر بقيَت تنظر إليّ بدهشة حتى أن أضَفتُ:

 

ـ عذراً... كانت مزحتي ثقيلة... ربما زوجكِ جالس على هذه المائدة... سأذهب الآن.

 

ولكنّ الفتاة صَرَخَت:

 

ـ لا! أنا عزباء... ويمكنكَ الجلوس معنا بشرط أن تنسى موضوع الزواج.

 

وقامَت صديقتها مِن جنبها لإعطائي مكانها وجلستُ بفخر قرب أجمل فتاة في الدنيا. وأمضينا وقتاً ممتعاً نضحك ونأكل ونتبادل القصص الطريفة حتى أن تحدَّثَ أحدهم عن الوضع فسكتنا جميعاً. ثم دار النقاش حول ما سيحدث وأخَذَ الكل بإعطاء تحليله الخاص. عندها إستدرتُ صوب سَمَر وسألتُها عن رأيها فقاَلت:

 

ـ لا أرى منفذاً قريباً لهذه الحرب... على كلّ حال لستُ باقية هنا.

 

ـ ماذا؟

 

ـ أجل... طلبتُ منكِ أن تنسى موضوع الزواج لأنّ عائلتي تنوي الرحيل إلى فرنسا.

 

ـ لا! لن أترككِ ترحلين!

 

ـ كم أنتَ مضحِك... لا تعرفني وتريد الإرتباط بي... ألاّ تفضّل أن تعلم أنّني بالرغم مِن بُعدي سأكون في أمان؟ أم تريدني أن أموت هنا؟

 

ـ لا... أريدكِ أن تعيشي طويلاً... ولكن مَن قال لكِ أنّكِ ستموتين؟

 


ـ ألا ترى ما يجري مِن حولنا؟ الناس تموت كل يوم أمام عينَينا... وإلى جانب ذلك أيّ مستقبل لدينا؟ لقد تخرّجتُ مِن الجامعة ولا أستطيع العمل في أيّ مكان بسبب الحرب... لا أريد أن أقضي حياتي مُختبئة كالأرنب... أريد أن أعيش!

 

كنتُ أفهم شعورها لأنّ فكرة الرحيل كانت قد أتَت إلى رأسي لكنّني وضعتُها جانباً بسبب حبّي لِوطني ورفضي لتركه للغرباء. وقبل أن ينتهي الغداء أخذتُ مِن سَمَر رقم هاتفها قائلاً:

 

ـ بما أنّكِ ستهاجرين أظنّ أنّ لا مانع لديكِ بأن نبقى على تواصل حتى ذلك الحين.

 

وهكذا بدأنا نكلّم بعضنا هاتفيّاً عندما كانت هناك فرصة لذلك بسبب رداءة الخطوط. فلم يكن لدينا هواتف خلويّة بعد وكانت الخطوط تتعطّل دائماً مِن جرّاء القصف وعدم وجود أحد لتصليحها. ومِن ثم طلبتُ مِن سَمَر موعداً وقبِلَت أن تراني فإنتظرنا فترة هدوء للخروج. وقصدنا مقهىً جميلاً في منطقة هادئة نسبيّاً وجلسنا نقصّ على بعضنا حياتنا ووجدنا أشياء كثيرة مشتركة بيننا. ولكنّ سَمَر قالت لي فوراً:

 

ـ إسمع لا تتعلّق بي كثيراً... لا أريد أن تتأذّى بسببي... لولا الوضع أظنّ أنّني كنتُ سأحبّكَ ولكنّني لن أسمح لنفسي بالوقوع في الحبّ الآن... أنا آسفة.

 

ـ أنا أحبّكِ... لن تحرمينني مِن هذا الحقّ مهما فعلتِ.

 

وبقيتُ مصرّاً على موقفي حتى أن أصبحَت سَمَر تحبّني هي الأخرى وعشنا أيّاماً جميلة وسط دويّ القذائف. ولكن بعد أشهر قليلة أخبَرَتني حبيبتي أنّهم حصلوا على تأشيرة الدخول إلى فرنسا وأنّهم راحلون بعد أسبوع. صَرَختُ لها أنّها قادرة على البقاء إن تزوّجَت منّي ولكنّها رفضَت ذلك لا لأنّها لا تحبّني ولكن لأنّها تخاف كثيراً مِن الموت:

 

ـ كلّما أسمع صوت رصاص أشعر بِقلبي يتوقّف... قد أكون جبانة ولكنّني لا أستطيع العيش هكذا... أو ربمّا لا أحبّكَ كفاية...

 

ـ أعرف كم تحبّينني.

 

ـ وأهلي؟ أتركهم وأبقى؟ نحن عائلة متماسكة جدّاً وأعلم أنّ بالهم لن يهدأ طالما أنا هنا... لا... لقد أنذرتُكَ منذ البداية... لا تكرهني أرجوك...

 

ـ أكرهكِ؟ أبداً! سأظلّ أحبّكِ إلى الأبد... سأكون فإنتظاركِ... لا تقطعي الصلة بيننا... هذا إذا كنتِ تريدينَني طبعاً.

 

ووعَدَتني سَمَر بأنّها ستكتب لي بإستمرار وستحاول الإتصال بي إن كان ذلك ممكناً. وبعد وداع حار مليء بالدموع رحَلَت حبيبة عمري إلى فرنسا. ورغم حزني كنتُ سعيداً أن تكون سَمَر في أمان خاصة بعدما إشتدَّت الحرب ووقَعَت ضحايا عديدة منها أقارب وأصدقاء. ومِن جهّتها بقيَت سَمَر على وعدها لي وأرسلَت لي رقم هاتف منزلهم الجديد فركضتُ إلى مكتب البريد للإتصال بها ولكن الخط إنقطعَ بعد بضعة ثوان على بدء حديثنا وكل ما إستطعتُ سماعه منها هو: "كم أنا مشتاقة إليكَ." وكان ذلك كافياً لأتحّمل البعد والفراق.

 


ومرَّت بضعة سنين وجدتُ خلالها عملاً في أحد المصارف التي بقيَت تعمل أمّا سَمَر فتأقلَمت مع الأجواء الفرنسيّة ووجَدَت وظيفة بسيطة هي الأخرى. وساوَرتني شكوك قويّة بالنسبة لِحبّها لي لأنّ أخبارها إنقطعَت مدّة طويلة وتصوّرتُها مغرمة أو متزوّجة فضَرَبني اليأس. وكانت شكوكي في محلّها لأن رسالة وصلَتني منها تقول لي فيها أنّها لم تعد تستطيع البقاء وحيدة وأنّها تعرّفَت إلى أحد هناك طالبة منّي السماح.

وبالبطع سامحتُها فلم أكن قادراً على منعها مِن أن تعيش حياة طبيعيّة. ورغم الألم الذي سكَن قلبي أجبتُها أنّني لا أزال أحبّها ولكنّني سأتفهّم الأمر إن كانت تريد الإرتباط بأحد غيري. وبعد ذلك لم أعد أسمع منها.

حاولتُ الإتصال بها هاتفياً لِسماع صوتها الذي إشتقتُ إليه كثيراً ولكنّ أحداً آخراً أجابَ قائلاً أنّهم رحلوا إلى مدينة أخرى. وهكذا وجدتُ نفسي أملك عنوان بريد ورقم هاتف لا فائدة منها فرضختُ للأمر الواقع.

وإنتهَت الأحداث التي بقيَت متقطّعة في بعض المناطق وإستطعنا تنفّس الصعداء قليلاً. عندها حاولَت أمّي أن تعرّفني على بضعة فتيات ولكنّ قلبي كان مأخوذاً. وبالرغم مِن الطلب الكثيف الذي وقعَ عليّ بسبب قلّة الشبّان الموجودين في البلد بقيتُ عازباً وفيّاً لحبّي الأوّل والأخير. ففي كل فتاة ألتقي بها كنتُ أرى سَمَر تبتسم لي وكان مِن المستحيل أن أستبدلها بأحد.

وبعد سبعة سنوات على رحيلها قرّرَت حبيبة عمري أخيراً أن تتصل بي. كنتُ في المنزل جالس أمام التلفاز حين رنّ الهاتف. وفور سماع صوتها إنهالَت الدموع على وجهي. وأخبرَتني أنّها تزوّجَت ولم تُرزَق أولاداً بسبب زوجها الذي كان عاقراً وأضافَت أنّها ليست سعيدة بزواجها وأنّها تفكّر في الطلاق. واضافَت بصوت خافِت:

 

ـ أتزال تريدني؟

 

ـ بالتأكيد! قولي لي أنّ هذا ليس حلم وأنّني فعلاً سأراكِ مجدّداً وأقضي بقيّة حياتي معكِ!

 

وأكّدَت لي أنّني لا أحلم. ولأنّ زوجها لم يكن يريد الطلاق أخبرَتني أنّها بحاجة إلى بعض الوقت للعودة. لم يعُد عامل الوقت يهمّني بعدما إنتظرتُ حبيبتي سنين فقلتُ لها أنّني هنا ولن أذهب إلى أيّ مكان آخر.

ومضَت سنتَين على حديثنا هذا إستطعنا خلاله التواصل بصورة دائمة بفضل تحسن أوضاع البريد والهواتف. وفي ذاك يوم وصَلَني إتصال مِن سَمَر تقول فيه: "أنا آتية في الأسبوع القادم!". وطرتُ مِن الفرح وأخبَرتُ الجميع بأنّني سأرى فتاة حياتي بعد أيّام قليلة وذهبتُ عند الحلاق ومِن ثمّ قصدتُ أجمل محلات العطور والهدايا وإشتريتُ لسَمَر أفضل ما أستطيع.

ولكن في اليوم المحدّد لِرجوع سَمَر تعطّلَت سيّارتي ولم يكن هناك مِن وقت لإصلاحها قبل هبوط طائرتها. لِذا إتصلتُ بمكتب تكسي وبعثتُ سيّارة إلى المطار لِجلب حبيبتي إليّ. وطلبتُ مِن السائق أن يحمل ورقة عليها إسم سَمَر الكامل وأن يقف أمام باب الوصول. وأخَذتُ أنتظر بفارغ الصبر أن تدقّ سَمَر بابي وأفتح لها وأعانقها مطوّلاً وأقبّلها بشغف وأحمل حقائبها إلى الداخل ونجلس سويّاً نخبر بعضنا ما فاتنا خلال تلك السنوات الموحشة. ولكنّ سَمَر لم تدّق بابي ولم تأتِ إليّ لا لأنّها لم تكن تريد ذلك بل لأنّها ماتت في الطريق مع السائق عندما صَدَمَت شاحنة السيّارة. ولم أعلم بالأمر إلاّ بعدما رأيتُ الساعة متأخرّة وإتصلتُ بمكتب التاكسي. وبعد ساعات على إنتظار ردّاً مِن المكتب قالوا لي أخيراً ما حدث.

ما شعرتُ به في تلك اللحظة؟ أول شيء خَطَر على بالي وهو أنّني قتلتُها. فلو لم تتعطّل سيّارتي ولو لم أبعث لها بذلك السائق كانت بقيَت حيّة. وذهبتُ إلى أبعد مِن ذلك: فلو لم أبقَ مصّراً على رجوعها مِن فرنسا لبقيَت سَمَر حيّة. فكان قدرنا هكذا. قدَري أن أحبّها إلى الأبد دونَ أن أستطيع العيش معها وقدَرها هي أن تموت في بلدها.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button