لم يكن أمامي سوى الانتحار (الجزء الثاني)

تفاجأتُ بسمير كثيرًا عندما بدأ بالبكاء، فأخذتُه جانبًا كي لا يُحرَج أمام المارّة. سألتُه ما الذي يُريدُه منّي، فطلَب لقاءً واحدًا. ذهبنا إلى مقهى مُجاور وجلَسنا ساكتَين لدقائق طويلة. ثم قال لي:

 

ـ لَم أنفكّ عن التفكير بالذي فعلتُه بكِ... وبجنيننا... لو بقيَ حيًّا لَـ...

 

ـ صارَ الأمر مِن الماضي، ماذا تُريدُ منّي؟

 

ـ إصلاح غلطتي.

 

ـ لكنّكَ متزوّج.

 

ـ صحيح... مِن إمرأة ليس لدَيَّ ذكريات معها، على خلافكِ. إسمعي، عندما تركتُكِ كالجبان وعُدتُ إلى الغَرب، فهمتُ مدى حماقتي لكنّني خفتُ أن أعود مِن غضب أهلكِ وغضبكِ.

 

ـ جبان بالفعل.

 

ـ ومِن ثمّ انكبَّيتُ على الدراسة والعمل وتعرّفتُ إلى "جويس". تواعدنا و... تعرفين كَم أحبّ الجنس... حصل الذي حصل وحمِلَت منّي. عندها قرّرتُ عدَم اقتراف الغلطة السابقة نفسها وتزوّجتُها.

 

ـ يا للروعة! هي صارَت زوجتكَ وسُمِحَ لها بإبقاء جنينها!

 

ـ كانت تلك الطريقة الوحيدة لإسكات ضميري. لكنّني لا أحبُّها. هي إنسانة طيّبة إلا أنّها مِن بيئة وحضارة مُختلفتَين. إسمعيني جيّدًا، أودُّ إعادة عقارب الزمَن إلى الوراء ومُتابعة قصّة حبّنا. هل لا تزالين تشعرين بشيء نحوي؟

 

لَم أجِبه لأنّني كنتُ لا أزال أحبُّه بالرغم مِن الذي فعلَه بي، فهو كان حبّي ورَجُلي الأوّل. لَم أخبِره بأمر محاولتي إنهاء حياتي كي لا يظنّ نفسه قويًّا جدًّا. قمت وتركتُ المقهى بصمت.

 


صارَ سمير يتّصلُ بي هاتفيًّا كلّ يوم ولَم أكن أتكلّم معه أكثر مِن دقيقة واحدة، فلَم أكن واثقة منه بعد الذي فعلَه، وكان قلبي قد جُرِحَ إلى أقصى درجة. كتَمتُ سرّ تواصلي معه عن الجميع، فهكذا قرار كان يعودُ لي وحدي.

زادَ سمير إصرارًا، لِذا قبِلتُ رؤيته مُجدّدًا في المكان نفسه. في تلك المرّة، كان حاملاً باقة ورد وعلبة صغيرة فيها خاتم زواج:

 

ـ سيكون لكِ إن وافقتِ على إعطائي فرصة ثانية. لا تُجيبي الآن! خذي وقتكِ.

 

أعترفُ أنّ رؤية الخاتم أراحَت قلبي بعض الشيء، لكنّني لَم أفرَح بل فكّرتُ بزوجته وابنه. لِذا سألتُه:

 

ـ ما مصير إبنكَ عندما تُطلّق زوجتكَ؟

 

ـ سيبقى معي، معنا. سيكون إبني إبنكِ، إبننا الذي لَم يرَ النور.

 

بدأتُ بالبكاء لدى سماع ذلك، فقد كانت تلك فرصة لَم أجرؤ حتى أن أحلم بها. بلحظة نسيتُ الوجَع الذي سكَنَني لسنوات، ونسيتُ الوجَع الذي كان سيُصيبُ "جويس" لفقدان إبنها لامرأة غيرها. وفي تلك الليلة، ولأوّل مرّة منذ فترة طويلة، نمتُ والبسمة على وجهي. كان شبَح الموت قد زالَ مِن فوق رأسي، وصِرتُ أؤمِن بأنّ الحياة يُمكنُها أن تكون جميلة.

صِرتُ أرى سمير باستمرار ونتكلّم عن مُستقبلنا سويًّا مع إبنه، وبدأ بمعاملات الطلاق. كانت الأمور مُعقّدة بسبب طلَب الحضانة، فالأمّ هي أجنبيّة وسفارتها بإمكانها التدخّل. إلا أنّ حبيبي وزوجي المُستقبليّ أكَّدَ لي أنّه لن يوفّر وسيلة للحفاظ على إبنه، أو إبننا، كما صارَ يُسمّيه.

لاحَظَ السيّد فايز التغيّر الجذريّ في طباعي، فلَم أعُد مُكتئبة بل فرِحة طوال الوقت، لِذا قال لي في إحدى المرّات:

 

ـ إنّها المرّة الأولى التي أرى فيها إنّ أسنانكِ الجميلة... أنتِ سعيدة... وأنا سعيد لكِ.
 

ـ أنا سعيدة للغاية! أطيرُ مِن الفرَح!

 

ـ أرأيتِ كَم أنّ الحياة جميلة؟ ألَم أقل لكِ؟

 

ـ بلى، وكنتَ على حقّ! مَن كان ليتصوّر أنّ الرّجل الذي تسبَّبَ لي بيأس أوداني إلى المشفى، سيكون نفسه الذي يُعيدُ لي حياتي؟

 

ـ ماذا؟!؟

 

أخبرتُ السيّد فايز بما جرى مِن أحداث وما سيجري، لكنّه لَم يبدُ سعيدًا لسماع ذلك. هزّ برأسه وقال:

 

ـ عندما قلتُ لكِ إنّ الحياة جميلة عنَيتُ "حياة جديدة"، وليس مع القذر الذي ضحِكَ عليكِ وهجركِ.

 

ـ لكنّه نادم!

 

ـ يا إبنتي، أنا رجل مُسنّ ولقد رأيتُ وسمعتُ واختبَرتُ الكثير... الناس قلّما تتغيّر.

 

ـ صحيح، "قلّما"، أي هناك مَن يتغيّر فعلاً.

 

ـ سمير هذا ينوي الفعل بزوجته ما فعلَه بكِ، هل هذا يعني أنّه تغيّر؟ لا، بقيَ على العادة نفسها. إحترسي منه، فأنا أشعرُ بأنّه يُخبّئ لكِ صدمة جديدة.

 

ـ أعذرني على ما سأقولُه لكَ يا سيّد فايز، لكنّكَ مِن جيل قديم، ومكوثكَ بين هذه الكتب حجَبكَ عن العالم الحقيقيّ. سمير نادم على ما فعلَهَ ويُريدُ إصلاحه وحسب.

 

خرجتُ مِن المكتبة غاضبة. ما شأن هذا العجوز بحياتي؟ يا لَيتَني لَم أخبِره شيئًا! وضعتُ ورائي ذلك الحديث المُزعج، ورحتُ أتّصلُ بحبيبي لأسمع صوته وأستمدّ منه بعض الإيجابيّة.

لَم يغِب عن أمّي أيضًا تحوّلي إلى صبيّة فرِحة، فسألَتني بعض الأسئلة لَم أجِب عليها، ومِن ثمّ عادَت إلى انشغالاتها. فبنظرها، كلّ ما قلَّت أخباري كلّ ما ارتاحَت. أبي، كعادته، بقيَ الرجل الحاضر- الغائب.

وفي إحدى الأيّام، وحين كنتُ جالسة مع سمير في المقهى كعادتنا، قال لي:

 

ـ علينا ترك المقهى، فمحامي "جويس" يُضايقُني ويُحاول الحصول على أيّ دليل بامكانه تشويه سمعتي وافشال خطّتي. فلو رآنا أحد مع بعضنا، سنخسر حضانة الولد.

 

ـ ما العَمل إذًا؟ نتوقّف عن الإلتقاء؟!؟

 

ـ لا يا حبيبتي، فلقد استأجرتُ شقّة صغيرة بعيدة عن أعيُن الناس. تعالي.

 


ركبنا في السيّارة، وقادَ بي سمير إلى مكان بعيد وصعدنا سلالم مبنى قديم. هناك دخلنا شقّة مفروشة بشعة للغاية. لاحَظَ سمير إمتعاضي وقال:

 

ـ هذا كلّ ما لدَينا الآن. بعد فترة قصيرة ستسكنين في مكان جميل للغاية.


تعانقنا وجلَسنا على الأريكة. لكنّ الصمت سادَ بيننا وحلّ جوّ ثقيل. ومِن ثمّ وضَعَ سمير ذراعه حول كتفي وأمسَكَ وجهي بِيَده قائلاً:

 

ـ كَم اشتقتُ إليكِ يا حبيبتي.

 

ـ نرى بعضنا بشكل شبه يومي.

 

ـ أعنّي أنّني اشتقتُ للتعبير عن حبّي لكِ كما كنّا نفعل في ما مضى.

 

ـ تعني ممارسة الحبّ؟

 

ـ أجل.

 

ـ ستضطّر للإنتظار إلى حين نتزوّج.

 

ـ لماذا؟ فأنا زوجكِ... أعني الرجل الأوّل الذي...

 

ـ هذا لا يهمّ. لسنا متزوّجَين شرعيًّا. لن أدَعكَ تلمسني.

 

ـ لا بدّ أنّكِ تمزحين! ما الفرق؟

 

ـ الفرق يكمن في الإحترام. صحيح أنّنا مارسنا الحبّ سابقًا، إلا أنّني كنتُ آنذاك يافعة وجاهلة ولقد تركَتني ورحَلتَ. لن أسمحَ لذلك أن يحصل لي مُجدّدًا.

 

ـ ألا تثقين بي؟

 

ـ بلى... لكن ما الضرر لو انتظرنا قليلاً؟

 

ـ أنتِ مضيَعة للوقت! لطالما كنتِ كذلك!

 

نظرتُ إلى سمير باستغراب. كيف يقولُ لي ذلك؟ أكمَلَ سمير حديثه:

 

ـ ألَن تغيّري فكركِ؟

 

ـ لا يا حبيبي، ليس لأنّني لا أريدُكَ، بل لأنّ ذلك لا يُريحُني ولا يُرضي الله.

 

ـ الله؟ ها ها ها!

 

ـ إضحَك قدر ما تشاء، فأنا لستُ فتاة قليلة الأخلاق بل كنتُ قليلة الخبرة. ولمعلوماتكَ، حاولتُ الإنتحار بعدما تركتَني وأجهضتُ.

 

ـ ما أغباكِ! تموتين مِن أجل رجل؟

 

ـ ليس مِن أجله بل بسببه. وأرى أنّكَ لَم تتغيّر. قلّ لي، بعدما علِمتَ الآن أنّني لن أدَعكَ تلمسني، هل كنتَ فعلاً تنوي تطليق زوجتكَ والزواج منّي؟

 

ـ للصراحة الصراحة؟ لا.

 

لَم أقل شيئًا بل قمتُ مِن مكاني، وذهبتُ نحو الباب لأرحل مِن ذلك المكان البغيض بعيدة عن إنسان قذر، حين صرَخَ بي:

 

ـ لو غيّرتِ رأيكِ، لدَيكِ رقم هاتفي.

 

لَم أنظر ورائي، بل خرجتُ إلى الشارع واستقلَّيتُ سيّارة أجرة. لَم أذهب إلى البيت بل إلى المكتبة حيث قلتُ للسيّد فايز:

 

ـ تكلّمتَ عن حياة جديدة.

 

ـ أجل، يا ابنتي.

 

ـ كيف أحصلُ عليها؟

 

ـ تلك الحياة موجودة في هذه الكتب حولكِ، فهي ستُعطيكِ المعرفة... وماضيكِ سيُعطيكِ الخبرة.... وإيمانكِ بالله وبالخير الموجود في الناس سيُعطيكِ الأمل... وأنا سأُعطيكِ دَعمي.

 

ـ الخَير الذي في الناس؟!؟ كأمّي وأبي وسمير؟

 

ـ وهل تقتصِرُ البشريّة على هؤلاء الثلاثة؟

 

ـ لا، طبعًا.

 

ـ حسنًا... لنبدأ ببناء حياتكِ الجديدة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button