لم يشأ الله أن أموت

كم أنا محظوظة... فلقد رأيتُ الموت ثلاث مرّات، ولكنّي عرفتُ مدى حبّ كلّ مَن حولي... تألّمتُ وعانَيتُ ولم أكفّ عن حمد ربّي على ما أعطاني: أعطاني أهلاً وزوجاً وأولاداً محبّين، وأعطاني بنتًا جميلة عانَيتُ الكثير لإنجابها لا بل كدتُ أفارق الموت مِن أجلها.

أنا مريضة قلب وأرَدتُ أن أنجب مجدّدًا بعد ثلاثة أطفال. سألتُ طبيبي بشأن الحمل ولم يرَ مانعًا، فكنتُ أتبع علاجًا دائمًا لقلبي وكان ذلك كافيًا برأيه. أبقَيتُ حملي سرّياً عن أهلي لتجنيبهم الهمّ، لأنّني كنتُ أعلم مدى خوفهم عليّ. صحيح أنّنا كنّا عائلة كبيرة، ولكن لكلّ فرد منّا أهمّيته وسطها، وأظنّ أنّ ذلك ما مكنّنا مِن البقاء ملتحمين هكذا.

 

وفي يوم الولادة، أخَذَني زوجي إلى مشفى بعيد عن منطقتنا، لأنّه مجهّز بأحدث الآلات ويعمل فيه أمهَر الأطباء المختصّين بالقلب وأمراضه. وبالرّغم مِن ألم المخاض، كنتُ أريد أن تتمّ الولادة بطريقة طبيعيّة، ولكنّ الممرّضات خِفنَ على قلبي وبقينَ مصرّات على إدخالي غرفة العمليّات لإخضاعي لجراحة قيصريّة.

وولِدَت إبنتي الحبيبة وسط فرحة الطاقم الطبّيّ كلّه، وما أن رأيتُها حتى توقّف قلبي عن الخفقان. وركَضَ الجميع لإنعاشي وسرعان ما عاد قلبي يدقّ بشكل طبيعيّ.

 

لكنّ الطبيب أعطاني جرعة مضاعفة مِن مانع التخثّر، خوفًا مِن أن يتوقّف قلبي مجدّدًا مما سبّب لي نزيفًا داخليًّا. وبدأ بطني يمتلئ بالدّم وذلك على مدى ستّ ساعات بدون أن يدري أحد بشيء. ولولا انتفاخ بطني لما لاحظَت الممرّضات ما يجري. وأدخلوني مجدّدًا وبسرعة إلى غرفة العمليّات بعد أن أجروا لي صوَر أشعّة وأدركوا أنّني أفقد دمي كلّه.

 

وفتحوا بطني وأزالوا رحمي وتوقّف قلبي!

فعلوا المستحيل لإنعاشي ولكن مِن دون جدوى، وكانوا سيُعلنون موتي لولا العناية الإلهيّة. وشاء الله أن يمّر في الطابق طبيب ماهر كان قد قرَّرَ ومِن دون سبب وجيه أن يقصد المشفى يوم إجازته. ورأى أنّ مريضة كانت على شفير الموت، فدخَلَ بسرعة غرفة العمليّات وأمرهم بنقل الدّم لي على الفور وبكميّة هائلة. إستلزمَ الأمر 12 كيسًا مِن الدمّ... وعادَ قلبي إلى الخفقان ولكنّني لم أستعد وعيي. ودخلتُ في غيبوبة عميقة وخطرة.

 


وبالرّغم مِن كلّ المحاولات، بقيَ ضغطي منخفضاً إلى أسفل الدّرجات وأعلنوا لعائلتي خبر موتي المحتوم. واستدعوا أمّي وأخوَتي وأخواتي. أمّا زوجي الذي لم يُبارح المستشفى فقد بدأ يبكي كالطفل.

 

والغريب بالأمر أنّني كنتُ قادرة على سماع كلّ ما يدور مِن حولي، وكم خفتُ عندما سمعتُ الأطبّاء يتكلّمون عن موتي وكم حزِنتُ حين أدخلوا أمّي وبدأَت تصرخ وتولوِل. يا ليتَني إستطَعتُ أن أقول لهم أنّني، على الأقلّ في الداخل، لا أزال حيّة! وبدأتُ بالصّلاة حتى ألاقي ربّي بقلب نقيّ وأطلب منه السماح إن كنتُ قد أغضَبتُه، مِن خلال تقصير أو إساءة له أو لأحد. وتوافَدَ الجميع لتوديعي، وخلتُ فعلًا أنّ النهاية باتَت قريبة عندما أرسَلَ الله مِن عنده طبيبًا آخر فحَصَ نبضي وأمَرَ بأن أُعطى ثلاثة أكياس دم إضافيّة.

 

وكانت المعجزة: إرتفَعَ عدد نبضاتي، وبعد قليل فتحتُ عينَيّ. ونادوا أمّي التي ركَضَت غير مصدّقة، وانهالَت دموعها وهي تنظر إلى إبنتها التي استفاقَت مِن الموت. وسألَني الطبيب بعدما صفَعَني بلطف على جبيني عن إسمي وإن كنتُ أعرف المرأة الواقفة أمامي. فنظرتُ اليه ومِن ثمّ إليها وابتسَمت وقلتُ:" إنّها أمّي".

 

ولكنّ عذابي لم ينتهِ. فعاد قلبي إلى التوقّف، ولكنّهم أنعشوني للمرّة الثالثة وأدخلوني إلى غرفة العناية حيث مكثتُ 22 يومًا.

يا ليتني أستطيع وصف حالتي في تلك الفترة. كنتُ محاطة بالآلات والأسلاك، وكانت الأنابيب تدخل وتخرج مِن جسدي وكأنّني امرأة آليّة.

لم يتركني زوجي أو أهلي. كانوا يأتون مِن بعيد كلّ يوم لينتظروا موعد الزيارة وليروني دقائق قليلة. وعندما أزال الأطبّاء أخيرًا الأجهزة عنّي، إكتشفتُ أنّ الأنابيب التي كانت في فمي أفقدَتني صوتي بعد أن تأذّت أوتاري الصوتيّة. ولكنّ ذلك لم يكن مهمًّا بقدر الحالة الجسديّة والنفسيّة التي عانَيتُ منها بعد خروجي مِن المشفى.

 


كان لَوني شاحباً على مزرقّ، وكنتُ أرى عظامي كلّها لكثرة نحافتي. وعندما وصَلتُ إلى بيت أهلي ليتمكنّوا مِن الإهتمام بي، رفضتُ رؤية إبنتي. ربما اعتبَرتُها السّبب في الذي حدَثَ لي، فقد كنتُ في تلك الفترة أعاني مِن إكتئاب حاد بسبب الخضّات المتتالية التي تلقّاها جسدي والأدوية العديدة التي أُعطيَت لي. ولكنّ اهلي وزوجي وأولادي لم يَيأسوا منّي. بل بالعكس زادوا إهتمامًا بي.

 

كان زوجي يأتي كلّ يوم مرّتَين ليزورني، وكان يهتمّ بنفسه بأولادنا، يطبخ لهم ويغسل ثيابهم ويأخذهم إلى المدرسة... ويجد الوقت لي. كان أخوَتي يُحيطون بي ويَروون لي القصص الطريفة والمسليّة لينتزعوا ولو بسمة صغيرة منّي. وكانت أخواتي، وبالرّغم مِن إنشغالهنّ، ينتظرنَ أيّة اشارة لتلبية رغباتي. أمّا أمّي، الحنونة أمّي، العظيمة أمّي، فلم تصدّق أنّها استعادَت إبنتها مِن الموت واحتارَت كيف تعبّر عن فرحتها. كانت تأتي لي باللحم الباهظ الثمن لتقوية دمي رغم إمكانيّاتها المحدودة، ففي بنظرها لم يكن شيء غاليًا عليّ.

 

وبدأتُ أتعافى ولكن ببطء، وطلبتُ أخيرًا رؤيّة طفلتي. كم كانت جميلة وتستحق ما مررتُ به! ولأنّني كنتُ لا أزال ضعيفة جدًّا، فقد كانت أختي الحبيبة تحملها لي وتقرّبها مِن فمي لأقبّلها. وكنتُ أبكي لمجرّد فكرة موتي وابتعادي عن أحبّائي بعدما رأيتُ حبّهم لي. كيف كان سيعيش أولادي مِن دوني؟ وزوجي؟ وعائلتي؟ وبدأتُ أفكّر بالذي حصل لي، أعني كيف توقّف قلبي 3 مرّات وفي كلّ مرّة كان حدث ينتشلني مِن الموت.

وتذكّرتُ كم صلّيتُ وأنا في الغيبوبة وأدركتُ أنّني لم أشكر ربّي كفاية. فعاودتُ الصّلاة التي كنتُ قد أهملتُها عن غير قصد، ولكن لكثرة إنشغالاتي بأولادي ومرض قلبي وعمَلي، وقرّرتُ أن أخصّص الوقت اللازم لشكر ربّي على كلّ عطاءاته.

 

وعدتُ إلى زوجي وأولادي، حاملة إبنتي الجميلة التي ترمز اليوم إلى قوّة الحياة. فلقد ولِدَت مِن أمّ مريضة، أمّ صارعَت الموت مِن أجلها، ولا بّد لتلك المخلوقة الضعيفة أن تكون قويّة بعد كلّ الذي حصل.

 

عاودتُ عملي كالسّابق، ولكنّني لا أزال ضعيفة البنية ولم أسترجع كامل صوتي. إلا أنّ كلّ ذلك غير مهم مقارنة بالذي مرَرتُ به.

الحياة هديّة، هبة مِن الله الذي يُريدنا أن نكون سعداء وسط أهل محبّين، فلنجعل مِن هذه الدنيا عالمًا أفضل.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button