لم تُكتب لي السعادة

ماتَت أمّي وتركَت وراءها فراغًا كبيرًا... إلى جانب شلّة مِن الأولاد. ذهَبَ معها الحنان والرقّة والهناء، ليحلّ محلّها الحسد والغضب والكره بصورة نجاة زوجة أبي.

وصبَّت تلك المرأة شرّها عليّ، لأنّني كنتُ المفضّلة لدى والدي ولأنّ المرحومة أوصَته بي بصورة خاصة، ولطالما ردّدَ ذلك أمام زوجته الجديدة.

كنتُ في السّابعة مِن عمري، ولم أفهم آنذاك سبب تحاملها عليّ، ففضّلتُ الإنزواء وصببتُ اهتمامي كلّه على تعاليم الخالق آملة أن أجد أجوبة لتساؤلاتي الوجوديّة. فالحياة في البيت لم تكن تُحتمَل.

كانت نجاة طاهية رديئة وامرأة شديدة البخل، ولم تكن تصرف علينا مال أبينا مما اضطرّنا للعمل باكرًا لشراء الملابس اللائقة أو أيّ شيء تطلبه نفسنا.

وبعد أن أنجبَت نجاة ولَدَين، بات مِن البديهي أن تفضّلهم علينا بكلّ شيء حتى الطعام. فكنّا ننتظر أن يُنهيا طبقهما لنبدأ نحن بالأكل. أين كان أبي مِن كلّ ذلك؟ سؤال سأله العديد مِن الأولاد حين تزوَّجَ والدهم. والجواب يبقى في سرّ هؤلاء الآباء.

أتذكّر حادثة أظهَرَت بوضوح كرهها العميق لي. فبسبب إهمالها للمنزل وإقناع أبي بأن لا لزوم لصرف المال لصيانته، إخترقَ المطر سقف بيتنا، فأنزلَت أولادها وأخوَتي إلى الطابق السّفلي وتركَتني حيث أنا. نمتُ الليل بطوله في شراشف مبلّلة مِن المطر الذي يهطل في الخارج والداخل. وبالطبع مرضتُ ولم ترَ نجاة سببًا وجيهًا لأخذي إلى الطبيب.

وبعدما كبرتُ وأصبحتُ صبيّة جميلة، وجدا لي عريسًا قالا إنّه مناسب. وأكَّدَ لي أبي أنّني لن أجد أفضل مِن أمين، فقبلتُ به مِن دون أن أراه حتى أو أسمع صوته عبر الهاتف. وخطبنا وعقدنا قرانًا شرعيًّا وصِرنا نتلاقى على الطريق الممتدّ بين المدرسة وبيتي. ومع الوقت دخَلَ الحبّ قلبَينا. وخلال أحاديثنا العديدة، إتفقنا على أن نقيم حفل الزفاف بعد سنتَين ليتسنّى لي إكمال دراستي ويُصبح هو جاهزًا لتحمّل مصاريف العائلة التي سنؤسّسها سويًّا.

 


ولكنّ أمين لم يكن قد حصَلَ على شهادته الثانويّة بسبب انخراطه في الحياة العلميّة، فبضغط مِن أبيه عاد إلى المدرسة لعلّه ينال الشهادة. وفاجأنا جميعًا بنجاحه وأتذكّر كم كنتُ فخورة به. ولكنّني لم أكن أعلم أنّني سأندم لتشجعيه على استئناف دراسته، وذلك لأنّ والده أخَذَ الموضوع بجديّة كبيرة وحَمَلَ إبنه على مواصلة التحصيل لنَيل إجازة جامعيّة وربّما أكثر مِن ذلك. وكنتُ أعلم مدى حبّ أمين لوالده الذي كان يحمل همّه ليلاً نهارًا، لذلك شعرتُ أنّني أقف بِدرب مستقبل لا مكان لي فيه. فصحيح أنّ والدي هو الذي اختار لي خطيبي، ولكنّه لم يكن أبدًا مستعدًّا لانتظار موعد الزفاف سنوات طويلة.

وتكلّمتُ مع أمين الذي رفَضَ رفضَا قاطعًا أن أنهي علاقتنا ووعدَني بأن يجد حلاً يُرضي الجميع.

ومِن كثرة حبّي له، قرّرتُ الإبتعاد عنه بالرغم مِن ممانعته. كنتُ واثقة من أنّ حياته ستكون أفضل مِن دوني، بعدما ينال إجازته وانفتحت أمامه أبواب مستقبل لامع ليُخرج أهله مِن أوضاع عانوا منها جميعًا.

وتفهّم أبي الموضوع وتابعتُ حياتي التي باتَت بلا لون أو طعم.

أنهيتُ تعليمي وعملت كأمينة سرّ داخلَ الجامعة. وبالطبع لم تتردّد زوجة أبي عن الشماتة بي والتقليل مِن إحترامها لي أكثر مِن الأوّل بعد أن، حسب قولها، "فشَلتُ في إبقاء رجل معي.

فعندما قالت لي صديقتي أنّها تعرف شابًا يُشبهني بطباعه واهتماماته، وأنّه يتمتّع بصفات حميدة والتزام دينيّ مطلق، لم أتردّد في القبول بالتعرّف إليه. فبذلك كنتُ سأتخلص مِن نير نجاة وأنسى أمين وحبّه في آن واحد.

وكان رائد بالفعل مناسبًا مِن حيث الشكل والمضمون، ولكنّ قلبي لم يكن مستعدًّا لاستبدال أمين به.

وبعد ستّة أشهر مِن التواعد الفاتر، تزوّجنا واعتقدَتُ أنّني سأحبّه مع مرور الوقت وبفضل حسن معاملته لي.

ولكنّ زوجي لم يكن مِن النوع الحنون، بل كان يُفضّل راحته على راحة الغير. فعندما كنتُ حاملاً بولدنا الأوّل، فوجئتُ به ينقل سريره إلى الغرفة المجاورة. وعندما سألتُه عن السبب أجابَني بكلّ بساطة:

 

ـ أحبّ أن أنام لوحدي.

 

ـ ومنذ متى؟

 


ـ منذ البدء ولكنّني لم أشأ إزعاجك... إسمعي... أنا معتاد على العيش كما يحلو لي... أعني بذلك أن آكل ساعة أشاء وأنام حيث أريد... لا داعٍ لتواجدكِ معي في كلّ مرّة... هكذا أنا وعليكِ الإعتياد على هذا الوضع.

 

ولم أعد أرى زوجي إلا عندما كان يُقاربني لمعاشرتي. وفي كلّ مرّة كنتُ أنفر مِن رائحة فمه النتنة التي كانت تفوح منه بسبب تدخينه المتواصل. إلا أنّه كعادته لم ينصَع لرغباتي. وباتَت أوقاتنا الحميمة تزعجني وتثير إشمئزازي.

وكأنّ ذلك لم يكن كافيًّا، إذ إكتشفتُ أنّ لزوجي عشيقات وأنّه لم يكن أبدًا الرّجل الفاضل كما ادّعى.

وكثرَت مشاجراتنا حول كلّ صغيرة وكبيرة. فمِن جانبي لم أكن أتقبّل تصرّفاته معي وسلوكه المنحل، وهو رأى بي حاجزًا أمام تحقيق نزواته.

وبعدما طفَحَ كيلي، قرّرتُ، وبالرّغم مِن انجابي ولدنا الثاني، أن أوقفه عند حدّه بمواجهته بالذي عرفته عن لياليه التي لم يتردّد في قضائها خارج البيت، ولكنّني مرّة أخرى إصطدمتُ بِعزمه الواضح على تجاهلي. ولم يكتفِ بذلك فحسب بل قال لي:

 

ـ أريد زوجة ثانية.

 

ـ ماذا؟؟؟ ألا تكفيكَ عشيقاتكَ؟

 

ـ لا... لا تكفيني... فحلمي أن يكون عندي زوجَتَان.

 

ـ حلمكَ؟ لِمَ لا يكون حلمكَ أن تعمل على تحسين حياتنا؟ فبالكاد تأتي لنا بما يكفينا.

 

ـ ولِما كثرة المال؟ فكلّ شيء فانٍ...

 

ـ دعني أجد عملاً إذًا... إن لم يكن لديكَ طموح سوى اللهو مع النساء فوضعي مختلف... أنهيتُ دراستي وبإمكاني تحقيق الكثير مِن أحلامي.

 

ـ لن تعملي... وسأتزوّج عليكِ.

 

وأنهى حديثه بهذا التصريح الخطير، ووجدتُ نفسي وكأنّني تلقَيتُ حكمًا بالسجن أو الإعدام.

ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش في الخوف والترقّب. فقيَمي وإيماني يُمليان عليّ أن أصبر وأتفادى ترك زوجي. إلى متى سأظلّ الجانب الصالح في زواجنا؟ صحيح أنّني لم أنسَ أمين، ولكنّني كنتُ فعلاً مستعدّة لبدء حياة جديدة مع رائد وتعلّم حبّه ومعاملته أفضل معاملة. حاولتُ لعب دور الزوجة المثاليّة ولكنّه لم يتجاوب معي. فذلك الرجل على ما أظنّ إنسان مكتئب بالرّغم مِن نمط حياته. فحين يكون جالسًا لوحده أشعر بضياعه العميق. ولو يسمح لي بمساعدته ولو بعض الشيء لأرَيته أنّني قادرة على إسعاده. أغلقَ قلبه وعقله بوجهي وحتى اليوم لا أعلم لماذا تزوّجني. هل ليُحققّ حلمه بزوجة ثانية أم لأنّه اعتقَدَ كما اعتقدت أنا أنّه سيُحبّني يومًا لكنّه فشل بذلك؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button