طالَ انتظارنا، لكنّ عُمَر أخي عادَ أخيرًا مِن الغربة حيث أنهى إختصاصه كطبيب ومارسَ مهنته لبضع سنوات. عودته كان سببها أنّه أرادَ أن يستفيدَ أبناء بلَده مِن مهاراته، الأمر الذي ملأ قلبنا بالفخر. فمُعظم الذين يقضون سنوات في المهجر ينسون أصولهم، ويبنون مُستقبلهم حيث هم ولأجيال عديدة.
أخذتُ والدَيّ وأختي الصغيرة معي إلى المطار لاستقبال عُمَر وزوجته، ولَم أنسَ جَلب باقة ورود للتي اختارَها أخي لتكون شريكة حياته. للحقيقة، لَم نُقابِل مهى مِن قَبل، إذ أنّها وأخي تزوّجا مدنيًّا في الخارج، لكن حصَلَ أن تحدّثنا معها مرّة أو اثنتَين عبر مكالمة فيديو. في حينها وجدتُها لطيفة وهادئة، لكنّني طبعًا لَم أستطِع تكوين فكرة مُحدّدة عنها. كلّ ما أعرفُه بشأنها هو ما أخبرَني إيّاه أخي، أيّ أنّها أيضًا طبيبة وأنّها مِن بلدنا، وتعيشُ في الغربة منذ حوالي العشر سنوات. هما إلتقيا لأوّل مرّة في إحدى الندوات الطبّيّة وصارا يتقابلان إلى حين قرّرا الزواج. على كلّ الأحوال، ما يهمّ هو أن يكون عُمَر سعيدًا معها والباقي ليس مِن شأن أحد... أم أنّني كنتُ مُخطئًا؟
تفاجأَت مهى بباقة الورود، لكنّها شكرَتني بتهذيب، ولاحظتُ النظرة الخاطفة التي تبادلَتها مع أخي والتي لَم أقدِر إعطاءها تفسيرًا مُعيّنًا. على كلّ الأحوال، كنّا سعداء بالقادمَين فنسيتُ الأمر بسرعة.
وجدتُ أخي مُتغيّرًا بعض الشيء، إذ أنّ الشَيب بدأ يظهرُ عند صدغَيه، ونحالة جسمه أعطَته سنوات إضافيّة مع أنّه كان لا يزال في الخامسة والثلاثين مِن عمره.
بعد وصولهما مُباشرة، أخذتُ أخي وزوجته إلى الفندق الذي حجزاه، مع أنّنا كنّا قد عرضنا عليهما المكوث معنا، وانتظرناهما على الغداء في اليوم التالي. حضَّرَت أمّي وجبة فاخرة ولذيذة، ووصلَ الضيفان وجلسا إلى الطاولة وبدأنا جميعًا بالأكل وتبادل الكلام بفرَح وحماس، فكان لدَينا مئة سؤال لعُمَر ومهى. إلا أنّ هذه الأخيرة أجابَت بكلمات مُتقطِّعة، مُعبّرة عن إنزعاجها منّا. فكان مِن الواضح أنّها لا تودّ الكلام... ولا الأكل، فهي بالكاد ذاقَت ما قدّمناه لها. شرَحَ لنا أخي أنّهما لا يزالان تعبَين مِن السفَر، بعد أن شعَرَ أنّ زوجته تمادَت في تجاهلنا. أكمَلنا الجلسة لكن بصمت كَي لا نُزعِج زوجة عُمَر. بعد الغداء شربنا القهوة، لكنّ مهى رفضَت الفنجان الذي قُدِّمَ لها وأيّ شيء آخَر. فهمنا أنّها تُريدُ فقط الرحيل، وبسرعة، فودّعنا الثنائيّ على أمَل رؤيتهما في اليوم التالي. بعد ذلك، صرنا نرى غالبًا أخي مِن دون زوجته تحت حجج مُختلفة. ولَم يكن مِن الصعب الاستنتاج بأنّها لَم تُحبّنا.
وجَدَ أخي شقّة تُناسبه وزوجته، وانتقلا إليها لكنّها كانت بعيدة عنّا، خاصّة أنّ الطريق المؤدّي إليها كان معروفًا بزحمة سَير دائمة. إلا أنّ ذلك لَم يكن ليمنعني مِن رؤية أخي الحبيب.
وذات يوم كنتُ بجوار مسكَن عُمَر، وقرّرتُ المرور به، فلَم يكن قد أسَّسَ بعد عيادة أرادَها له ولزوجته. قرعتُ جرَس بابهما أكثر مِن مرّة، وظننتُ أنّ ما مِن أحد في البيت إلا أنّ مهى فتحَت لي أخيرًا وشعرتُ بخجَل كبير، فهي كانت مُرتدية ملابس داخليّة شفّافة ومُثيرة وغريبة، أكثر بكثير مِن التي نراها في المجلات أو المحلات النسائيّة. نظرَت إليّ زوجة أخي بنوع مِن الانزعاج الممزوج بالاشمئزاز وقالَت:
ـ كيف تأتي مِن دون إنذار؟!؟ ما قلّة الذوق هذه؟ نحن مشغولان كثيرًا!
ـ أنا آسف... لَم يكن يجدرُ بكِ فتحَ الباب لي إذًا.
ـ ظننتُكَ شخصًا آخر.
ـ وتفتحين له وأنتِ شِبه عارية؟!؟
ـ هذا ليس مِن شأنكَ أيّها الفضوليّ!
وأقفلَت مهى الباب بوجهي بقوّة، الأمر الذي أغضبَني إلى أقصى درجة! مهلاً... هل أنّ مهى تخونُ أخي خلال غيابه؟ المسكين! لكن ما عليّ فعله؟ هل أتكلّم أمّ أسكُت؟ قرّرتُ التمهّل كي لا أدمِّر زواج عُمَر، فكان مِن الواضح أنّه يُحبّها كثيرًا.
عدتُ إلى البيت مُنزعجًا لأقصى درجة مِن وقاحة تلك الطبيبة المُنحلّة الأخلاق، ورجَوتُ أن تتوبَ وتعودَ إلى صوابها.
وبالطبع لَم أعُد أحبّ أن أرى زوجة أخي على الإطلاق، فصرتُ أٌقابِل عُمَر لوحده ونجلسُ سويًّا، أتسمّع إليه وهو يروي لي قصصًا حدثَت له في الغربة، ويُطلعُني على مشروع عيادات مُشتركة يُريدُ تأسيسها. كان يبدو لي سعيدًا للغاية فلِما أُعكِّر مزاجه بمسألة خيانة زوجته له؟
لكن بعد فترة، إنتكسَت صحّة عُمَر ولَم أعُد أراه. فهو التقطَ فيروسًا مُعديًّا فإكتفَينا بالتكلّم عبر الهاتف. إنشغَلَ بالي عليه كثيرًا إلا أنّه طمأنَني بأنّ مهى تهتمّ جيّدًا به، ألَم تكن هي الأخرى طبيبة؟ إلا أنّني خفتُ عليه منها، فماذا لو كانت تلك المرأة البغيضة تنوي التخلّص مِن زوجها لتكون مع عشيقها على سجيّتها؟ لِذا إتّصلتُ بمهى وقلتُ لها مِن دون تردّد:
- أرجو أن يشفى أخي بسرعة وإلا اضطُرِرتُ للذهاب إلى منزلكما يوميًّا لأكون بجانبه... أو... قد أنامُ عندكما، فالطريق طويل ذهابًا وإيّابًا.
هي لَم تُجِب بل اكتفَت بالقول: "هل أنتهَيتَ مِن الكلام؟" وأقفلَت الخط. بدأَ دمي يغلي مِن الغضب وقرّرتُ عدَم ترك مهى بسلام، فكان لدَيّ أخ واحد وكنتُ مُصرًّا على الحفاظ عليه!
لكنّ أخي، والحمد لله، تعافى وعدتُ أراه. هل كنتُ أُبالغُ بمخاوفي مِن مهى تجاه عُمَر؟ ربّما ردّة فعلي كانت مبنيّة على تخيّلات، ففي آخر المطاف، كان يبدو أخي سعيدًا مع زوجته بالرغم مِن قلّة حبّها لنا وتفاعلها معنا. وربّما كانت مهى ترتدي ملابس فاضحة يوم دقَّيتُ بابها فقط بغرَض تجربتها لتلبسها لعُمَر، وربّما أيضًا الشخص الذي كانت تنتظرُه هي أخصائيّة أظافِر أو ما أشبَه. مهلاً! تذكّرتُ فجأة أنّني لمحَتُ سيّارة أخي في المرآب حين غادرتُ بيته بعد أن نعتَتني زوجته بالفضوليّ وهي شبه عارية. كان عقلي قد سجّلَ المعلومة في مكان ما مِن ذاكرتي. شكرتُ ربّي أنّني لَم أفصَح لعُمَر عن شكوكي بالنسبة لخيانة زوجته له!
نسيتُ الموضوع برمّته، وتابعتُ حياتي وعمَلي كالمُعتاد. وكَم كانت فرحتي كبيرة حين زفَّ لي أخي خبَر موعد إفتتاح عيادته المُشتركة! رحتُ والعائلة إلى الحفل، وهناك كان أطبّاء عديدون وناس كثيرون، وتمنَّيتُ له مِن كلّ قلبي النجاح. مهى لَم تنظُر إليّ على الاطلاق لأنّها كانت لا تزال مُستاءة منّي... ولأنّها كانت مُنشغِلة بشكل خاصّ بأحد الأطبّاء الذي إسمه سامر. وعلِمتُ مِن أخي، أنّ ذلك الطبيب سيكون شريكه في المشروع، ولدَيه سمعة مُمتازة بين الطاقَم الطبّي والمرضى. لا أدري لماذا، لكنّني لَم أحِبّ سامر، فهو بدا لي مُتشاوفًا ويكنّ لزوجة أخي مودّة لَم يُحاوِل إخفاءها. سألتُ عُمَر:
ـ أرى أنّ هناك معرفة قويّة بين مهى والدكتور سامر. هل هو قريبها؟
ـ لا، بل صديق طفولة مذ كانت زوجتي تعيشُ في البلد. لماذا تسأل؟
ـ لأنّني فضوليّ!
ضحكتُ في سرّي لدى استعمالي هذه العبارة التي كانت زوجته قد نعتَتني بها. حاولتُ طرد شكوكي التي عادَت إليّ، فآخِر شيء كنتُ أُريدُه هو هدم زواج أخي، فلو أطلعتُه على ما يدورُ في بالي، لبدأ هو بالشكّ بها أو أبتعدَ عنّي وخسرتُه.
بدأ عُمَر بالعمَل في العيادة، ولاقى المشروع نجاحًا فوريًّا إذ أنّ المكان ضمّ أخصّائيّين يصعب أيجادهم في العيادة نفسها. وانشغَلَ أخي كثيرًا وكذلك مهى، فلَم أعُد أراه كالسابق بل كان ينضمّ إلينا في المُناسبات. لِذا كنتُ أمرُّ بالعيادة مِن وقت لآخَر لأُلقيَ التحيّة عليه ولو لبضع دقائق، وفي كلّ مرّة كانت مهى إمّا مع سامر يتحدّثان على حِدة أو خارجة مِن عيادته. ما هذه الصداقة القويّة؟!؟ وكيف يقبَل أخي بهذا التقرّب الذي قد يُسيء فهمه الناس ويؤثّر على سمعته؟ ففي آخر المطاف، هو ومهى لَم يعودا يعيشان في الغربة بل في بلد شرقيّ حيث الناس تُطلق ألسنتها عند أيّ إشارة، وتُعيبُ على الرجل علاقة زوجته المُقرّبة من رجُل آخَر.
وذات يوم، دخلتُ على أخي في عيادته، هو كان في حمّامه الخاصّ ولَم يعرف أنّ السكرتيرة أدخلَتني، لذلك، عندما خرَجَ مِن حمّامه مِن دون قميصه تفاجأ بي كثيرًا. وأنا تفاجأتُ به أكثر، لأنّ القسم الأعلى مِن جسمه كان مُغطّى بالجروحات الطويلة والعميقة، البعض منها كان قديمًا والآخَر لا يزال محمرًّا. أطلقتُ صرخة قويّة لدى رؤية المشهد، فأسرعَ عُمَر بإقفال الباب بالمُفتاح. حاوَلَ أخي إعطائي تفسيرات عديدة لندباته إلا أنّه لَم يكن مُقنِعًا على الاطلاق. حثّيتُه على التكلّم وهدّدتُه بإخبار والدَينا بالأمر، فبدأ المسكين بالبكاء وجلسَ خلف مكتبه مُمسكًا برأسه. بعد دقائق، قال لي:
ـ لا أدري كيف أقولُ لكَ هذا، فأنتَ أخي الصغير... هذه الندبات ناتجة عن... أعني أنّني وزوجتي...
ـ تقومان بأمور حميمة غريبة. لستُ جاهلاً، فالانترنت يُعلِّم الكثير. إسمَع، ما تفعله وزوجتكَ ليس مِن شأني، فلا داعٍ للشعور بالعار والبكاء.
ـ وحين قلتُ لكم إنّني أُعاني مِن وعكة صحّيّة، كانت مهى قد بالغَت بالذي تفعله لي، وبانَت على جسدي ورقبتي آثار واضحة.... يا أخي العزيز، أبكي لأنّني في ورطة ويا لَيتكَ تُساعدني ما دمتَ عرفتَ جزءًا مِن الحقيقة.
ـ سأفعلُ جهدي يا عُمَر، تكلّم.
ـ كما رأيتَ، أُحبّ أن... أن تكون مهى خشنة معي في العلاقة الحميمة وقد بلَغنا حدًّا بعيدًا في مُمارساتنا... حدًّا لستُ فخورًا به. إلا أنّ زوجتي العزيزة قد أخذَت فيديوهات كثيرة لنا أثناء ما نفعله وأحيانًا مع شركاء آخرين.
ـ يا إلهي!
ـ وهي صارَت تبتزُّني.
ـ تُريدُ مالاً؟
ـ لا، فهي تجني ما يكفيها وأكثر. بل هي تُريدُني أن أقبَل بعشيقها.
ـ الدكتور سامر!
ـ كيف علِمتَ؟!؟ عرضتُ عليها أن أُعطيها حرّيّتها، إلا أنّها لا ترى حاجة لذلك ما دامَت تعيشُ مع طبيب ناجح. على كلّ الأحوال، سامر مُتزوّج ولا ينوي الطلاق أو ترك عائلته. وأنا عليّ تحمّل كلّ نزوات مهى بسبب تلك الفيديوهات... وإدماني على ما نفعله سويًّا!
ـ مِن الواضح يا أخي أنّكَ تُعاني مِن اضطراب نفسيّ، فلا أحد يُحبّ أن يُعنَّف إلا أذا كان يعتقدُ أنّه يستحقّ ذلك. أجل، إنّني أقرأ الكثير عن الكثير مِن الأمور، وليس عليّ أن أكون مُتزوّجًا لأفهَم الحياة. عليكَ أن تتعالج أوّلاً لتشفى مِن إدمانكَ لمهى، ومِن ثمّ تتصرّف.
ـ والفيديوهات؟
ـ لدَيّ فكرة!
بعد أن خرجتُ مِن عيادة عُمَر، دخلتُ عيادة مهى التي كانت غير مشغولة. جلستُ قُبالتها وقلتُ لها:
ـ أعلَم أنّكِ لا تُحبّيني، واعلَمي أنّني لا أُحبّكِ. عرفتُ بأمر الفيديوهات التي تبتزّين أخي بها. لا تُقاطعيني! وأعرفُ عن علاقتكِ بالدكتور سامر. والأمر سهل جدًّا: ستُعطيني الأشرطة اليوم وليس غدًا.
ـ ولماذا أفعلُ ذلك؟!؟
ـ لأنّني سأفضحُ أمركِ وأمر عشيقكِ علنًا. سأذهبُ إلى زوجته وأخبرُها الحقيقة، ثمّ سألحقُ بكِ وبه أينما ذهبتُما وفي أيّة ساعة. لدَيّ الوقت لذلك، فيحقُّ لي بأسبوعَين عطلة في السنة في عمَلي، وأسبوعان كافيان لألتقطَ لكِ وله صورًا عديدة. ولن أكتفي بذلك، بل سأبثُّ على مواقع التواصل بمساعدة أصدقائي العديدين أخبارًا ليس فقط عن تلك العلاقة، بل عن أخطاء طبّيّة قمتِ بها والدكتور سامر بحقّ العديد مِن المرضى.
ـ أخبار كاذبة!
ـ صحيح، لكنّ الناس تُصدّقُ كلّ ما يُذاع. وفي آخِر المطاف، سيكرهُكِ عشيقكِ لأنّ زوجته ستكون على عِلم بكِ، ولأّنّه سيضطرّ لترك العيادة لا بل الطبّ بأسره وذلك بسببكِ.
ـ يا لَيتكَ تموت!
ـ ليس قَبل أن آخذ الفيديوهات! هيّا بنا، لنذهب لجلبها سويًّا، الآن!
ـ إنّها هنا.
فتحَت مهى خزانة خلفها، وأخرجَت منها خمسة أقراص مُدمجة ورمَتها في وجهي وأرضًا. إبتسمتُ لها ولمَمتُها شاكرًا إيّاها على "تعاونها". وقَبل أن أُغادر، قلتُ لها:
ـ آه، شيء أخير... تحضّري لدعوى طلاق آتية نحوكِ.
ـ عُمَر بحاجة إليّ، فهو مُدمِن عليّ.
ـ ليس مُطوّلاً! فأنتِ بمثابة داء له، ولكلّ داء دواء! أليس كذلك يا دكتورة؟
أعطَيتُ الأقراص لعُمَر الذي لَم يُصدّق عَينَيه، وأقنعتُه بالمجيء للعَيش معنا بينما يقومُ بالعلاج النفسيّ. بعد أشهر طويلة، طلّقَ أخي زوجته التي تركَت العيادة برفقة عشيقها. هل شفيَ عُمَر كلّيًّا مِن إنحرافه؟ لستُ أدري، فالنفس البشريّة مُعقدّة، لكنّه سعيد الآن وهذا يكفيني.
حاورته بولا جهشان