لقد سرقَت قلبي... وأكثر

كان يجدرُ بي الحذَر، فصوفيا كانت إمرأة خارقة الجمال والذكاء وأنا كنت رجل عاديّ، على الأقلّ مِن حيث الشكل والجاذبيّة. لكن عندما اتّصلَت بي عبر خدمة مسنجر، أسرَعتُ بالردّ عليها. وكيف لي ألا أفعل بعدما اتّسمَت حياتي العاطفيّة بفراغ دائم؟ فالحقيقة أنّني وضعتُ كل اهتمامي ووقتي في العمَل وبرعاية أولاد المرحوم أخي الصغير الذي ترَكَ وراءه أرملة وثلاثة أطفال. وحين بدأتُ أعي إلى أنّ الوقت يمرُّ وبتُّ في الستّين مِن عمري، وجدتُ نفسي وحيدًا.

أعرَبت لي صوفيا عن إعجابها ببروفايلي، إذ كنتُ أنشرُ صورًا ومقالات تُعبِّرُ عن رأيي في السياسة والأوضاع الحياتيّة. شكرتُها ومِن ثمّ سادَ السكوت وتوقّفنا لبرهة عن الكتابة. لكنّها أضافَت:

 

ـ أعذرني إن كنتُ أبدو وقحة بطريقة تعرّفي إليكَ، لكنّكَ فعلاً الرجل الذي أبحثُ عنه.

 

ـ أليس ذلك مُبالغًا فيه بعض الشيء يا آنسة؟ فأنتِ امرأة جميلة وألف رجل يتمنّاكِ.

 

ـ المهمّ هو مَن أتمنّاه أنا. إن كان الحديث معي يُزعُجكَ فبإمكاني...

 

ـ لا! بل العكس تمامًا!

 

عُدنا نكتب وبطلاقة، فأخبرَتني صوفيا أنّها إبنة جرّاح ماهر وعازفة بيانو، وامتلأ صدري بالفخر إذ أنّ والدَيَّ هما أيضًا أناس معروفون. فبالرّغم مِن تقبّلي لكلّ الطبقات الإجتماعيّة والتعاطي معها بكلّ سرور ومحبّة، فمعرفة أنّ الشخص الآخر هو مِن البيئة نفسها أمر مُريح. أضافَت صوفيا أنّها مُحاميّة ولدَيها مكتبها بالمُشاركة مع أخيها وأنّ الأعمال جيّدة. وقبل أن نُنهي حديثنا، طلبتُ منها رقم هاتفها وهي قبِلَت، شرط أن تكون هي التي تُباشِر دائمًا بالحديث والإتصالات وأن نُبقي كلّ ما يُمكن حدوثه بيننا سرّيًّا. قبِلتُ معها بالطبع، وهل يسعُني رفض أيّ شيء لهكذا امرأة؟

إلتقَيتُ وصوفيا في أحد المقاهي وانبهَرتُ بها، فهي كانت إمرأة كاملة الأنوثة. وقلتُ لنفسي وأنا جالس أمامها إنّني بالفعل محظوظ لِدرجة كبيرة، وتصوّرتُ نفسي أعيشُ معها لباقي أيّامي. لكن هل هي ستقبل برجل يكبرُها بخمس وعشرين سنة؟ لِذا قرّرتُ أن أُعوّضَ لها عن فارق العمر بصرف مالي عليها لإسعادها. فعمَلي كان قد دَرّ عليّ الكثير، وأعيشُ برخاء واضح، ناهيكَ عن أملاكي العديدة. إفترقنا في ذلك اليوم واعدين نفسنا بالإلتقاء قريبًا. ومنذ ذلك الوقت، لَم يعد لدَيّ همّ سوى صوفيا وكيفيّة إرضاءها.

وتركتُ الحياة التي اعتَدتُ عليها، فابتعدتُ عن أصدقائي وأهلي لأنّ صوفيا أرادَت، وحسَب قولها، إبقائي لنفسها وعدَم مُشاركتي مع أحد، الأمر الذي تقبَّلتُه بسرور. فما كنتُ أجني مِن تلك العلاقات على كلّ حال؟ أمّا مع صوفيا كنتُ رجلاً سعيدًا.

 


أغرَقتُ حبيبتي بالهدايا الثمينة، لأنّها كانت تستحقُّ ذلك ولأنّها كانت مُعتادة على حياة الرخاء منذ صغرها. صحيح أنّني لَم أُقابِل أحدًا مِن ذويها ومعارفها، لكنّ كلّ شيء فيها وفي مظهرها كان يدلُّ على ذوق رفيع ولياقة. عشنا أيّامًا جميلة للغاية وشكرتُ ربّي أنّه أعطاني أخيرًا ما أستحقُّه لأنّني، وحسب قولُها، رجل صالح ونزيه.

عرضتُ على صوفيا الزواج، لكنّها سكَتَت ثمّ قالَت:

 

ـ لا تُسيء فهمي يا حبيبي لكن... أعني فارق السنّ بيننا شاسع للغاية و... وأخشى أن أربِط حياتي بكَ و... وتُغادر هذه الدنيا باكرًا. ولا أتحمّلُ تلك الفكرة بتاتًا.

 

ـ الأعمار بيَد الله يا حبيبتي، وقد أعيشُ حتى المئة!

 

ـ أرجو ذلك مِن كلّ قلبي... لكنّ المرَض... المرَض شيء شنيع للغاية ورؤيتكَ مريضًا أمر لا يُحتمَل بتاتًا.

 

ـ لن تحتاجي للإهتمام بي لو مرضتُ، فبمالي أنا قادر على جَلب ممرّضة مُختصّة، وإن متُّ فستكونين بأمآن بفضل الذي سأتركُه لكِ.

 

ـ أشكرُكَ على اهتمامكَ بي لكن... أعرفُ كم أنّكَ مُتعلّقٌ بأولاد أخيكَ المتوفيّ، وسمعتُكَ تقول إنّكَ خصّصتَ لكلّ واحد منهم بمبلغ مال كبير.

 

ـ صحيح ذلك ولكن...

 

ـ وفهمتُ منكَ أنّ لكَ أخًا أكبر منكَ ولدَيه ولد... ماذا عنه؟ هل سيأخذُ مِن مالكَ أيضًا؟

 

ـ لا... فلقد اختلَفتُ وأخي منذ سنوات عدّة، وهو لَم يُحاول يومًا إصلاح ما بيننا مع أنّني مدَدتُ له يَد المُصالحة... وإبنه لَم يسأل عنّي على الإطلاق حتى حين تعرّضتُ لحادث كبير. لستُ على اتّصال بأيّ مِن عائلة هذا الأخ. لا تخافي حبيبتي، لدَيّ ما يكفي لكِ. ماذا تقولين عن عرضي بالزواج؟

 

ـ لستُ أدري. سأفكّرُ بالأمر.

 

إنتظرتُ مُطوّلاً جواب صوفيا ولاحظتُ عليها تلكوءًا ملحوظًا تجاهي، إذ صارَت تختلقُ الحجَج لعدَم رؤيتي، حجَجًا غير مُقنعة بتاتًا. فقرّرتُ مواجهتها وسألها عمّا يُزعجُها. فأجابَت:

 

ـ للحقيقة، قد أخبرتُ أهلي عن مشروع زواجنا وهم أبدوا المخاوف نفسها. فقالَت لي والدتي إنّ إحدى معارفها تزوّجَت في ما مضى شخصًا يكبرُها سنًّا ولدَيه أيضًا أنسباء، وبعد موته إكتشفَت المسكينة أنّه أعطى مُعظم ما لدَيه لأقربائه مُعتبرًا أيّاها غريبة عنه. أنا خائفة يا حبيبي!

 

ـ حسنًا... ماذا تقترحين إذًا؟ ماذا عليّ فعله ليطمئنّ قلبكِ؟

 

ـ لا أُريدُكَ أن تظنّ أنّني أسعى وراء مالكَ يا حبيبي... كما تعلم أنا إبنة أناس مُثقّفين ومِن نسَب مُحترَم جدًّا، إلا أنّ أبي توقّفَ عن مُزاولة الجراحة وليس هناك ما يُمكنُه تركه لي.

 

ـ أعلمُ ذلك يا حبيبتي. قولي ما عندكِ.

 

ـ أُريدُكَ أن تكتبَ لي البيت والأرزاق. لا اُريدُ مالاً بل فقط أن أعرفَ أنّه سيكون لي مكان أعيشُ فيه وأراضٍ يُمكنني بيعها إن ضاقَت أحوالي. لستَ مُجبرًا على أيّ شيء ويُمكننا البقاء كما نحن، لكن إعلَم أنّ يومًا قد يأتي وأضطرُّ إلى الزواج مِن غيركَ، فالوقت يمرُّ وأريدُ إنجاب ولو طفل واحد.

 

لَم أتوقَّع طلَبًا كهذا لكنّني فهمتُ دوافع صوفيا وحاجتها إلى الشعور بالأمان مع إنسان بسنّي. لِذا اتّصلتُ بالمحامي وأخذتُ موعدًا منه.

 


كان توفيق صديقًا لي، ولقد استعنتُ به مرارًا لبعض المعاملات البسيطة، لكنّه كان مُحاميًا بارعًا أيضًا. حين وصلتُ مكتبه وتصافحنا بحرارة وجلستُ أروي له ما أنوي فعله، هو هزَّ برأسه وقال:

 

ـ لستَ أوّل شخص يقصدُني مِن أجل ذلك، فقد سبقكَ رجال ونساء مِن المَيسورين، وأستطيع بكلّ سهولة القول لكَ: إيّاكَ أن تفعل!

 

ـ لماذا؟!؟ تلك المرأة على حقّ... عليّ تأمين حياتها لو حصَلَ لي مكروه. حتى أهلها مِن الرأي نفسه.

 

ـ أخبِرني عن هؤلاء القوم.

 

ـ ما أعرفُه هو مُطمئِنٌ... فقالَت لي صوفيا إنّهم...

 

ـ قالَت لكَ؟!؟ ألَم تتعرّف إليهم بنفسكَ؟

 

ـ للحقيقة لا.

 

ـ لماذا؟!؟ أنتَ تنوي الزواج مِن تلك المرأة فأوّل ما عليكَ فعله هو التعرّف إلى عائلتها. وتقول إنّها مُحامية ولدَيها مكتب مع أخيها. لَم أسمَع عنهما، فدَعني على الأقلّ أسأل عن ذلك المكتب وصاحبَيه! ومِن جهتكَ، أطلُب موعدًا لُمقابلة والدَيها. وإن كان كلّ شيء كما يجب، سأرتِّبُ لكَ، وبكلّ سرور، نقل مُمتلكاتكَ إلى حبيبتكَ.

 

ـ حسنًا، لكن أؤكّدُ لكَ أنّ ما مِن شيء مُريب يُحاكُ. سترى ذلك بنفسكَ.

 

حين خرجتُ مِن مكتب توفيق، بعثتُ رسالة إلى صوفيا لطلب موعد مِن أهلها. لَم يصِلني الجواب إلا بعد ساعات طويلة، فهي ردَّت: "أرى أنّكَ تراجعتَ عن قراركَ... والآن تُريد إشعاري بأنّني لستُ مَن أدّعي... لِما تطلبُ رؤية أهلي الآن؟ أنا مُستاءة منكَ".

شعرتُ بالذنب فهي أساءَت الفهم، واعتذرتُ منها مطوّلاً طالبًا منها نسيان ذلك الموعد. وشتمتُ ضمنيًّا توفيق الذي سبَّبَ لحبيبتي الزعَل.

بعد يومَين، إتّصَلَ بي المحامي، وقَبل أن أُبديَ له امتعاضي منه قال لي: "سألتُ عن صوفيا وأخيها ولا وجود لهما بين المُحامين. كُن حذرًا يا صديقي. لن أقبَل بجرّكَ إلى هكذا مُغامرة. أنا آسف."

لَم أكترِث لحديثه فقد كان هناك محامون غيره في البلد! ليذهب توفيق إلى الجحيم، فكان لا بّد أنّه يغار منّي لأنّني وجدتُ إنسانة رائعة! لَم أكتفِ بذلك فحسب، بل حظرتُ رقم صديقي كي لا أضطرُّ لسماع كلامه عن حبيبتي. كنتُ أُريدُ تلك المرأة مهما كلّفَ الأمر!

أخذتُ صوفيا ورحنا عند مُحامٍ آخر وكتبتُ البيت والأراضي بإسمها، وهي ذرفَت دمعة فرَح وعانقَتني بقوّة قائلة: "أنتَ رجل رائع بالفعل!". ولو كنتُ قادرًا على قراءة الأفكار، لسمعتُ ما كانت تقوله لي حقًّا وهو: "أنتَ رجل غبّي بالفعل!". فبعد تلك الجلسة القانونيّة بأيّام قليلة، إختفَت صوفيا كليًّا وأُقفِلَ خطّها نهائيًّا. إنتظرتُ وبالي مشغول ثمّ اتّصَلتُ بالمُستشفيات كلّها: لا أثَر لا أحد بذلك الإسم في أيّ مكان. رحتُ إلى الحَيّ حيث هي قالَت لي إنّها تسكنُ وأهلها، وهناك أيضًا ما مِن أحد يعرفُها. كان لا يزال عقلي يرفضُ تصديق ما كان جليًّا وهو أنّ صوفيا كانت مُحتالة وحسب.

مرَّت الأسابيع والأشهر إلى حين قُرِعَ بابي، وإذ بي أرى صوفيا وشخصًا آخرًا واقفين عند العتبة. نظرتُ إلى مُرافق حبيبتي واستغربتُ وجود إبن أخي الأكبر. بالكاد تعرّفتُ إليه بعدما مرَّت سنوات عديدة على آخر لقاء لنا. ظننتُ لوهلة أنّ سمير جاء مع صوفيا ليُعيدُها لي مِن دون أن أفهم كيف له أن يعرفها. على كلّ حال، لَم تطُل تساؤلاتي، فإذ بحبيبتي تقولُ لي، وبكلّ وقاحة:

 

ـ جئتُ وزوجي لتسلّم البيت، فهو ملكي قانونيًّا.

 

ـ أنتِ مُتزوّجة؟!؟ ومِن إبن أخي سمير؟!؟ ما هذا الكلام؟

 

عندها قال لي سمير:

ـ أجل يا عمّي... وهكذا صرتُ مُتعادلاً مع أولاد عمّي الصغير... هم نفسهم الذين علّمتَهم وصرفتَ عليهم وخصّصتَهم بأموالكَ. الآن عليكَ الرحيل مِن بيت زوجتي، وبسرعة. سنبقى هنا إلى حين تُلملِم حاجاتكَ وتُغادر المكان. أعني بذلك أمتعتكَ الخاصّة فقط، فعليكَ ترك الأثاث مكانه.

 

ركضتُ خارجًا أبكي على غبائي، ثمّ ركبتُ السيّارة وقصدتُ توفيق راجيًا منه المُساعدة، إلا أنّ نقل ممتلكاتي كان قانونيًّا ولَم يكن لدَيّ أيّ دليل على احتيال ما لِنَقض العقد.

رافقَني صديقي إلى البيت لتجنيبي موقف حرِج مع سمير وصوفيا وأخذتُ أغراضي بسرعة.

سكنتُ عند توفيق وعائلته ريثما وجدتُ مسكنًا خاصًّا بي وانعزلتُ عن باقي العالم.

علِمَ أولاد أخي الصغير بما حصل لي، فركضوا يعرضون عليَّ مساعدتهم وإعادة لي ما صرفتُه عليهم خلال السنوات السابقة لبدئهم العمَل. رفضتُ عرضهم بتهذيب، فالمُذنب الوحيد كان أنا.

لا تزال صوفيا وزوجها يعيشان في بيتي وينعمان وأولادهما برزقي. مِن ناحيتي، شكرتُ ربّي أنّني أملكُ المال الكافي للعَيش بكرامة وإلا لكنتُ عانيت الإذلال في شيخوختي. لَم أحاوِل طبعًا البحث عن حبّ جديد، فكيف لي أن أثِق بامرأة بعد الذي حصل لي؟ 

الحبّ يُعمي صاحبه مهما علا شأنه أو ذكاؤه، فيصعبُ علينا التمييز بين الخيِّر والشرّير. لذا مِن المُستحسَن أن نسأل ونستقصي ونأخذ بنصائح مَن أثبتوا لنا أنّهم جديرون فعلًا بثقتنا.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button