لستُ بضاعة مضروبة

يوم صِرتُ في السابعة مِن عمري، بدأت والدتي بتعليمي الخياطة التي كانت قد تعلَّمَتها مِن أمّها واتخذتَها مهنة دائمة. للحقيقة، لَم أكن مسرورة مِن ذلك، فلَم أرِد أن أقضي أيّامي ولياليّ على مكِنة الخياطة مثلها، بعد أن رأيتُ الأضرار الجسديّة التي أصابَتها مِن آلام في الظهر وقصر في النظر. إلا أنّني لَم أستطِع التهرّب مِن أوامر والدتي التي كانت قاسية مع أولادها خاصّة بعد موت أبينا. وعلى مرّ السنوات، بتُّ قادرة على مُساعدتها لا بل صنع قِطَع صغيرة للزبونات.

وضعتُ أحلامي جانبًا وكذلك مُتابعة دروسي، عالمةً تمام العِلم أنّني فقدتُ للأبد طفولة ومُراهقة كان مِن حقّي أن أعيشَها. إلا أنّني أقنعتُ نفسي بأنّ مِن واجبي مُساعدة عائلتي ذات الدَّخل المحدود. لا أنكُر أنّني حسدتُ أخواتي على ذهابهنّ إلى المدرسة وتعلَّمهنّ ما لن أعرفُه يومًا، فما ذنبي إن كنتُ المولودة البكر؟

بلغتُ الثامنة عشرة مِن عمري، وصِرتُ آخذُ مكان والدتي في بعض الأحيان في جلسات أخذ المقاسات عند الزبونات أو إجراء التصليحات السريعة.

وفي إحدى تلك البيوت تعرّفتُ إلى سعيد. كان ذلك الشاب ابن عائلة ثريّة ويقضي نهاره في المنزل بانتظار تسلّمه منصب في شركة أبيه. هو أعجَبني فور رؤيتي له وابتسمتُ له رغمًا عنّي. ردّٕ لي سعيد البسمة وصارَ ينتظرُ قدومي بفارغ الصبر ليُغازلَني كلّما أدارَت أمّه ظهرها. إنتهى المطاف به بإعطائي موعدًا سرّيًّا في أحد أروقة المنزل الكبير وبتقبيلي على فمي. شعرتُ بإحساس جميل، فقد كانت تلك أوّل مرّة يقتربُ منّي شابّ. وحين وضعتُ ليلاً رأسي على وسادتي، حلِمتُ بسعيد وهو يطلبُ يدي ويُقسمُ بإسعادي لآخر حياتي. لكن هؤلاء القوم، وعلى خلاف كلّ القصص الخرافيّة، لا يقبلون بأناس مثلنا، بل يتسلّون بهم قليلاً ريثما يجدون مَن يليقُ بمقامهم. فما لَم أكن أعرفُه، هو أنّ أمّ سعيد كانت تعلَمُ بإعجاب ابنها بي، ولا تُمانع أبدًا أن يمضي بعض الوقت معي ليتدرَّبَ على أمور الحياة.

وبعد مُغازلة وقبلات عديدة، حصَلَ ما لَم يكن يجدرُ به أن يحصل لفتاة مثلي، ففقدتُ عذريّتي على أريكة الصالون. ولكثرة غبائي، تصوّرتُ أنّ ذلك الشاب هو شهم ويعرفُ بالأصول وسيُلِصحُ ما فعلَه بالزواج منّي. إلا أنّه نظَرَ إليّ باندهاش تام حين سألتُه متى سيقصدُ أمّي ليطلبَني منها، وقال:

 

ـ أطلبُكِ للزواج؟ ولماذا أفعَل؟

 

ـ لأنّكَ... أعني لأنّنا...

 

ـ لَم أُجبركِ على شيء يا عزيزتي بل كنتِ مسرورة للغاية!

 


ـ لقد فقدتُ شرَفي بسببكَ!

 

ـ هذا ليس مِن شأني. هيّا، عودي إلى بيتكِ، وإن أرَدتِ الاستمتاع مُجدّدًا، فتعرفين أين تجيديني.

 

بكيتُ كلّ دموعي ورحتُ إلى أمّي أُتابعُ بكائي في أحضانها. هي صفعَتني بقوّة لدى سماعها الذي حصَل، ومِن ثمّ عانقَتني مؤكّدة لي بأنّها ستتصرّف.

في اليوم التالي، راحَت والدتي إلى تلك السيّدة وعادَت غاضبة لأقصى درجة، بعد أن طُرِدَت بقساوة مِن ذلك المنزل البغيض. تُرِكتُ لمصيري، فتاة مسكينة لَم تعرف شيئًا عن الحياة بل اعتقدَت أنّ الناس مثلها وعائلتها، أيّ أناس طيّبون وبسيطون.

حاولَت والدتي إيجاد عريس لي إمّا بسيط العقل أو ذا علّة ما ليقبَلَ بي. رفضتُ ذلك بقوّة فلَم أكن بضاعة يجب التخلّص منها بأيّ ثمَن بل فقط إنسانة مخدوعة. على كلّ الأحوال، كرهتُ بقوّة صنف الرجال وصبَبتُ اهتمامي على الخياطة.

تأثّرَت علاقتي بأمّي بعد ذلك إذ صارَت تُعاملَني بجفاف وتُرهُقني بالعمَل وكأنّني مُجرمة. هي نسيَت أنّها السبب في ما حصَلَ لي، لأنّها لَم تُخبرني يومًا عن أمور الحياة، وأبقَتني محصورة بين جدران المنزل طوال سنوات نموّي.

راقبَتني أمّي عن كثَب لترى إن كنتُ حاملاً أم لا، وارتاحَت كثيرًا عندما جاءَ موعد حَيضي. عوقِبتُ مِن كلّ النواحي وشعرتُ بظلم كبير.

يوم توقّفَت والدتي نهائيًّا عن الخياطة، كنتُ قد أصبحتُ في الخامسة والعشرين مِن عمري وبارعة في ما أفعلهُ، وشعرتُ بنوع مِن الاستقلاليّة المهنيّة والشخصيّة بعدما صِرتُ التي تُدخِلُ المال إلى البيت. فلَم تعُد والدتي تقسو كثيرًا عليّ أو تُسمعُني الكلمات الجارحة كما فعلَت بعد حادثتي المؤسفة مع سعيد.

تعرّفتُ إلى يوسف بينما كنتُ أشتري قماشًا لإحدى الزبونات. كان موجودًا في المحل وأعجبَته طريقتي في انتقاء ما أريدُه، فتبادَلنا الحديث قليلاً وعلِمتُ منه أنّه تاجر قماش. خرجتُ مِن المحل وعدتُ إلى البيت ونسيتُ ذلك الشخص بسرعة. إلا أنّ الصّدَف شاءَت أن أراه مُجدّدًا في المكان نفسه بعد أشهر طويلة، وهو أصرَّ عندها على عدَم تركي أختفي مرّة أخرى. أعطَيتُه رقم هاتفي كي يدعُني أرحَل وأُكملُ عمَل، وليس لأنّه أعجبَني.

بدأتُ أتبادل الأحاديث مع يوسف عبر الهاتف، وسرعان ما أرادَ أن نلتقي، فأجبتُه بالرفض لكنّه لَم يكن مِن الذين يستسلمون بسهولة. عرضتُ عليه أن يأتي إلى البيت إن أرادَ رؤيتي. وفي اليوم نفسه جاءَ الرجل مُحمّلاً بالهدايا. سُرَّت أمّي به طبعًا إذ رأَت فيه "مُخلّصي". أمّا أنا، فبقيتُ باردة معه. رحَلَ إلى داره وانتظرتُ حتى المساء لأتّصل به وأقولُ له:

 

ـ إسمع يا يوسف، لا بدّ أنّكَ رجل لطيف وأشكرُكَ على اهتمامكَ بي، لكنّني لستُ مُتحمّسة لخوض أيّ علاقة تؤدّي إلى الزواج أو أيّ شيء آخر. فقد ضحِكَ عليّ شاب وسرَقَ منّي براءتي منذ سنوات، ولا أُريدُ أن يعتبرَني أحدٌ "بضاعة مضروبة" تحت أيّ ذريعة حتى لو عنى ذلك بقائي عزباء حتى مماتي. لستُ غرَضًا بل إنسانة، وما فقدتُه مع ذلك الوغد لا يُحدِّدُ مَن أنا. أنا امرأة نشيطة وموهوبة ومُحبّة ولا أستحقّ أن ينظُرَ أيّ أحد إليّ سوى نظرة احترام وتقدير. وإن كنتُ في أحد الأيّام أرغبُ في الزواج، فسيكون مِن رجل عصريّ وذي آفاق واسعة، رجل يرغبُ بي لخِصالي الجميلة، ولقضاء حياته إلى جانبي عاملاً جهده على إسعادي وتلبية حاجاتي. لِذا سأطلبُ منكَ نسياني والبحث عن امرأة أخرى.

 

ـ لا أُريدُ سواكِ ولا يهمُّني ما حصَلَ لكِ سابقًا.

 

ـ إن كان ذلك صحيحًا، فسأُحمّلُكَ مسؤوليّة كلامكَ. عند أيّة إشارة إلى ذلك الموضوع سأختفي مِن حياتكَ إلى الأبد. هل اتّفقنا؟

 

بدأنا نتواعد ووجدتُ أنّ يوسف إنسان جيّد وخلوق فقبلتُ بأن أتزوّجه أخيرًا. إلا أنّني بقيتُ على حذَري منه. فربّما يكون الكلام الذي نسمعُه قبل الزواج ليس نفسه مِن بعده.

أصرَّيتُ على البقاء في عمَلي، فلا يجدرُ بأيّ فتاة أو سيّدة التخلّي عن مهنتها مِن أجل رجُل، لأنّها تذكرتها إلى الخلاص في حال حصول أيّ مُشكِلة في زواجها. أجل، كنتُ قد صرتُ امرأة واعية وناضجة للغاية بعد أن قرّرتُ أنّ عليّ فهم الحياة بنفسي.

وبعد أشهر قليلة على زواجنا، صارَ يوسف ينزعجُ مِن ذهابي إلى بيوت الزبونات لأخذ المقاسات، إلا أنّه لَم يُفصِح لي عن السبب إلا حين أصرَّيتُ كثيرًا عليه. فقال:

 


ـ تذهبين إلى تلك المنازل لوحدكِ.

 

ـ إنّها أماكن آمنة يا حبيبي، لا تخَف عليّ.

 

ـ لستُ أتكلّم عن المخاطر بل عن...

 

ـ عن؟ قُل ما لدَيكَ!

 

ـ عمّا قد تفعلينَه هناك.

 

ـ ماذا تقصد؟ آخذُ مقاس الزبونات وأعودُ إلى هنا!

 

ـ وأزواجهنّ وأولادهنّ؟ ألَم تفعلي سابقًا مع أحدهم أفعالاً مُعيبة؟

 

ـ كنتُ يافعة وجاهلة آنذاك! ما بكَ؟ وهل أُمارسُ الجنس مع كلّ رجل أراه؟ هل أنا معدومة الأخلاق بنظركَ؟!؟ أنا خلوقة ومُتزوّجة يا أستاذ!

 

ـ أعلمُ ذلك ولكن...

 

ـ لقد حذّرتُكَ يا يوسف! فليس عليّ الاعتذار عمّا حدَثَ لي مِن قبل وتبرير نفسي مدى حياتي! وأنتَ وعدتَني يا يوسف! وعدتَني!

 

عدتُ إلى بيت أمّي في اليوم التالي. لَم أحزَن كثيرًا بل أكملتُ عمَلي وكأنّني لَم أتزوّج قط. فحياتي كانت صعبة منذ البداية وتعوّدتُ باكرًا على تحمّل الكثير.

مرَّت ثلاث سنوات بسرعة لكثرة عمَلي في الخياطة، وانتقَلنا للعَيش في شقّة أكبر وأجمَل وكنّا سعداء. وكنتُ وأخواتي نُحضّر لزواج أختي الصغيرة. ووسط هذا الفرَح، دقّ أحدٌ بابنا في المساء وتفاجأتُ بيوسف واقفًا أمامي حاملاً أكياسًا وباقة ورد. قلتُ له:

 

ـ ماذا تُريد؟

 

ـ أريدُكِ أنتِ.

 

ـ لستُ بصدد الرجوع إليكَ يا يوسف... وما حاجتي إليكَ؟ لتُسمعَني كلامًا جارحًا؟

 

ـ أنا آسف... أنا غبيّ... سامحيني.

 

ـ ولماذا أُسامُحكَ؟ أعطِني سببًا واحدًا.

 

ـ لأنّني أُحبُّكِ.

 

ـ بل تُحبُّ رجولتكَ أكثر، تلك الرجولة الزائفة التي لقنّوكَ إيّاها. تظنُّ أنّكَ أفضَل منّي؟ تسمحُ لنفسكَ بمعاشرة النساء كما شئتَ قبل الزواج وتُحاسبُ زوجتكَ على ما حدَثَ لها قبل سنوات؟ مَن أوكَلَ إليكَ محاسبة غيركَ؟ إذهب مِن هنا ولا تعُد إلا حين تفهم أنّني إنسانة مثلكَ تمامًا!

 

أقفلتُ الباب بوجهه بقوّة، إلا أنّني بكيتُ بعدما أدركتُ كَم أنّني اشتقتُ إليه.

بقيَ يوسف يأتي ويقفُ عند الباب أسبوعيًّا لمدّة سنة بكاملها. وهو لَم يملّ أبدًا، وكان يكفيه أن يراني أمامه حتى لو أسمَعتُه كلمات قاسية. وفي إحدى المرّات، إنفجَرَ بالبكاء أمامي فحضنتُه وهمستُ في أذنه:

 

ـ سأعودُ إليكَ يا يوسف، لكن إيّاكَ!

 

ـ لقد تعلّمتُ الدرس، لا تخافي. أنتِ ملِكَتي... تاج رأسي... لَم أقلِّل يومًا مِن احترامي لكِ لكنّني خفتُ... واعتبرتُ نفسي رجلاً يُسمَح له كلّ شيء... حياتي مِن دونكِ لا قيمة لها.

 

أنجبتُ مِن يوسف ابنًا وأُربّيه كما يجب، أي على احترام المرأة وكيانها وليس اعتبارها بضاعة تُشترى وتُباع أو تُبدَل إن كانت فيها شائبة. ولو كلّ أمّ ربَّت ابنها هكذا، لما كان هناك مِن امرأة تعيسة أو مظلومة أو ذات حقوق ضائعة أبدًا.

أنا اليوم امرأة مُكتمِلة، لدَيّ زوج مُحبّ ومهنة متينة وابن صالح. صحيح أنّني لستُ مُتعلِّمة أكاديميًّا إلا أنّني تلميذة الحياة، والحياة مدرسة ثمَن دروسها مُكلِف للغاية وفقط الفالح ينجحُ في امتحاناتها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button