لزوجي هواية جديدة!

كانت لزوجي هواية قديمة وهي التصوير، لكنّه لَم يُمارسها بالفعل بسبب انشغاله بتحصيل علمه وحاجته للمال للصرف على أمّه وأخوَته بعد موت والده. وبالفعل أصبَحَ سامي شابًّا مُتعلِّمًا وناجِحًا، وحصَلَ أن تعرّفتُ عليه وربَطنا مصيرَينا ببعضهما. وسرعان ما وجدتُ نفسي حامِلاً بولَد، فكانت الفرحة عارِمة بين عائلتَينا، وبدأتُ أُفكِّر بتجهيز غرفة لصغيرنا، الأمر الذي كان يتطلّب ميزانيّة مُعيّنة. لكنّني لَم أكن قلِقة، فوضعتُ وزوجي كلّ شهر المال اللازم جانبًا مِن راتبَينا لتخصيصه للولَد، وجمَعنا مبلغًا لا بأس به. إلا أنّ سامي قالَ لي يومًا:

 

ـ حبيبتي... أعلَم أنّ ذلك المال مُخصّص لولَدنا، إلا أنّني بحاجة له لشراء معدّات للتصوير وجدتُها بسعر مُمتاز، فصاحبها يودّ السفَر وهو بحاجة إلى سيولة. لن تأتي هكذا فرصة مرّتَين، وتعلَمين كَم أهوى التصوير. أعرف أنّكِ شارَكتِ بمبلغ أكبَر مِن الذي خصّصتُه أنا لولدَنا، ولذلك أعدُكِ بأنّني سأعيدُ لكِ كلّ قرش سآخذه في غضون شهر أو اثنَين.

 

صدّقتُ زوجي ووعوده، فأعطَيتُه المال بكلّ طيبة خاطر. فهو كان رجُلاً مُحِبًّا وخلوقًا وعانى كثيرًا خلال طفولته ومُراهقته، وها قد جاء اليوم الذي أُتيحَ له تحقيق حلمه. فسامي كان يُريدُ أن يصبَحَ مُصوّرًا مشهورًا، كالذين يلتقطون الصوَر العظيمة للمشاهير ويُخلّدون لحظات لا تُنتسى.

جاء زوجي بالمعدّات وكنتُ مُتحمِّسة له كثيرًا، لكنّه أخَذَ، مِن دون أن يستشيرَني، الغرفة المُخصّصة لولَدنا ليُحوّلها لستوديو. غضبتُ منه كثيرًا وطلبتُ منه إزالة مُعدّاته، لكنّه وعدَني أنّه سيفعل ذلك بعد أشهر قليلة، بحجّة أنّ الولَد لن يشغل غرفته إلا بعد حين لأنّه كان سينام بسرير صغير معنا في الغرفة. هو كان على حقّ، لذلك صدّقتُه مرّة أخرى.

ولِدَ إبننا أخيرًا، وأخَذَ سامي له أجمَل الصوَر قائلاً بفخر إنّه "زبونه الأوّل". ضحكنا للدعابة، ولَم أكن أعلَم بعد أنّ هواية زوجي ستغيّر حياتنا... وبأيّ شكل.

فبعد أيّام قليلة، بدأ سامي ينعزِل في الستوديو لساعات طويلة ولا يخرج منه سوى للأكل. أمّا بالنسبة لوظيفته، فاتّفقَ مع صاحب الشركة أنّه سيعمَل مِن البيت عبر الانترنت، الأمر الذي ساعدَه للتفرّغ أكثر للتصوير. أمّا بالنسبة لنا، فنسيَ على ما يبدو أنّ صارَ له إبن وأنّ زوجته هي بحاجة إليه. إضافة إلى ذلك، تحجّجَ سامي بأنّ بكاء ولَدنا يمنعه مِن النوم، فانتقَلَ بصورة دائمة إلى الغرفة التي لَم يتسنَّ لنا تزيينها لطفلنا الجميل.

ثمّ التحَقَ زوجي بصفّ لتعلّم التصوير المُحترِف، بعد أن أدركَ أنّ ما يعرفه ليس كافيًا، على الأقلّ بالنسبة لتحقيق حلمه، فسكتُّ أيضًا. كان يجدرُ بي أخذ موقف حيال ذلك لكنّ ولَدي استقطبَ كلّ اهتمامي. وهكذا، صارَ سامي يقضي وقته إمّا في "غرفة التصوير" في البيت أو في صفّه، وفي غالِب الأحيان مع رفاقه الجدد في المعهد للتحدّث عن التصوير حول مائدة طعام في مطاعم مُختلِفة. وهكذا، لَم أعُد أشعُر أنّ لي زوجًا على الاطلاق.

أعرَبتُ لسامي أخيرًا عن استيائي، وهو تفاجأ كثيرًا بالذي أقوله لا بل غضِبَ لأنّني لَم أكن أُسانِده كفاية. يا لوقاحته! يجدرُ بي أنا أن أقولَ له هذا! لَم أُجادِله مِن أجل ابني، لكنّني كنتُ مُصمِّمة على أن تعود حياتي الزوجيّة كما كانت قَبل أن تستيقِظ لدى زوجي مواهب منسيّة.

جلَبتُ والدتي إلى البيت خلال النهار لتُساعدني بابني لأنّ كان عليّ العودة إلى عمَلي، وأردتُ أن تستعيدَ أمّي كلّ الذي نسيَته بالنسبة للأطفال، فلقد مضَت سنوات عديدة منذ كانت أمّي أمًّا. وحين اطمأنّ بالي، حضّرتُ نفسي للعودة إلى منصبي الذي كان يدرُّ عليّ مالاً لا بأس به. هي الأخرى استاءَت مِن سامي بعدما رأت كيف هو غائب عن واجباته كزوج وأب، وتفاجأَت بسكوتي وتحمّلي للوضع. فالحقيقة أنّني لستُ أبدًا إمرأة خاضِعة بل أتمتّع بشخصيّة قويّة ولا أتردّد عن المُطالبة بحقوقي. وهذه الصفات بحدّ ذاتها هي التي أوصلَتني إلى مركزي. لكنّ سامي كان نقطة ضعفي الوحيدة، فكنتُ أحبّه كثيرًا. إضافة إلى ذلك، حسبتُ أنّ ما يمرّ به زوجي هو مرحلة عابِرة، فتركتُه يتمتّع بهوايته إلى حين يسأم منها ويعود إلى صوابه.

لكنّ الوضع بدأ يتفاقَم يوم بعد يوم، حتّى وصَلَ إلى حدّ غير مقبول. فذات مساء، وصَلَ زوجي مِن درسه في التصوير برفقة صبيّة لا يتعدّى عمرها الثامنة عشرة، ودخَلَ معها غرفة التصوير وأقفَلَ الباب وراءه. ماذا؟!؟ ركضتُ إلى الباب وقرعتُه بقوّة إلى أن فتَحَ لي. سألتُه ما الذي يجري، فأجاب:

 

ـ لا شيء، لا شيء... أنا أُطبِّق ما تعلّمتُه.

 

ـ مَن هذه معكَ؟!؟

 

ـ إنّها عارِضة يستعين بها زملائي.

 

ـ كيف تأتي إلى البيت بإمرأة مِن دون التشاور معي؟!؟

 

ـ لَم أظنّ أنّ هناك مِن مُشكلة! ما بكِ؟!؟ لماذا تعترضين على كلّ ما أفعله؟

 

ـ هذا بيت مُحترم ولن أسمَحَ بأن تحصل هكذا أمور فيه!

 

ـ أنا لا أفعل شيئًا غير مُحترَم.

 

ـ أرِني!

 

دخلتُ الغرفة، ورأيتُ الصبيّة مُستلقية على الأريكة بطريقة غير مُحترمة على الاطلاق! فبدأتُ بالصراخ عليها وطلبتُ منها أن تخرج مِن بيتي على الفور. عندها تدخّلَ سامي:

 

ـ هذا ليس بيتكِ، بل بيتي! وانا آخذُ لها الصوَر وحسب! لا أُريدُ زوجة هستيريّة بل زوجة مُتفهِّمة! عودي إلى إبنكِ!

 

كان مِن الواضح أنّ سامي مُصمِّم على فعل ما يشاء فتجنّبتُ المواجهة، لكن على مضض. وفي المساء اليوم التالي، عادَ سامي أيضًا برفقة الصبيّة، وحبَسَ نفسه معها وراء باب مقفول بالمفتاح. عندها، إتّصلتُ بأمّي التي كانت قد عادَت لتوّها إلى بيتها، فتفاجأت باتّصالي وظنَّت أنّ مكروهًا حصَلَ لنا. إستمعَت إليّ جيّدًا ثمّ قالَت:

 

ـ حسنًا... الحلّ بسيط... "داوِها بالتي كانت هي الداء.

 

ـ ماذا تعنين؟

 

ـ إن كان جَلب شخصًا مِن الجنس الآخَر إلى البيت بغرَض العمَل هو أمر مقبول، فافعلي الشيء نفسه. أليس لدَيكِ في الشركة زميل بإمكانكِ العمَل معه في البيت؟

 

ـ ماما... كيف تنصحيني بذلك؟!؟

 

ـ أجيبي!

 

ـ بلى... فلقد وظّفنا شابًّا جديدًا منذ فترة قصيرة... وهو قد يحتاج إلى مُساعدة... لكن... لستُ أدري.

 

ـ أنا لا أطلبُ منكِ أن تقَعي في حبّه أو تفعلي شيئًا غير أخلاقيّ معه! إجلبيه فقط إلى البيت واجلِسي معه لتعليمه. ليس هناك مِن خطَب في ذلك... أليس هذا ما يفعله زوجكِ؟ إسمَعي... زواجكِ في خطَر وأنتِ تعلَمين ذلك تمامًا. هل تُريدين فقدان سامي إلى الأبد؟ الغيرة يا حبيبتي، الغيرة!

 

تردّدتُ كثيرًا لفعل ما اقترَحته والدتي، إلا أنّ سامي صارَ يأتي بتلك الفتاة كلّ ليلة، والله وحده يعلَم ما كان يجري داخل تلك الغرفة. لِذا عرضتُ على وليد، موظّفنا الجديد، أن أُعطيه تمرينًا خاصًّا في البيت، بعد أن شدّدتُ على أنّ زوجي سيكون أيضًا حاضِرًا كي لا يتصوّر أمورًا غير موجودة.

دخَلَ سامي مع العارِضة مساءً، ووجَدَ وليد جالِسًا معي إلى طاولة الطعام وأمامنا ملفّات عديدة. إقترَبَ منّا مُستغرِبًا وسألَني مَن يكون ذلك الشاب فأجبتُه: "لا عليكَ... فأنا أدرّبُه... إنّه جزء مِن عمَلي. أنتَ زوج مُتفهِّم وتعلَم أن ليس هناك مِن شيء غير مُحترَم بالذي أفعله". غضِبَ سامي لكنّه تمالَكَ أعصابه. فتابَعتُ: "إذهب إلى عمَلكَ يا حبيبي، إذهب". دخَلَ زوجي غرفة التصوير مع الصبيّة وأقفَلَ الباب بالمفتاح كعادته... إلا أنّه فتَحَه مِن جديد ليرى ما أفعله مع وليد. ثمّ أبقى الباب مشقوقًا ليُفهمَني أنّه يُراقبُني. ضحِكتُ في سرّي واعتذرتُ مِن وليد على هذا الانقطاع، فعاوَدنا العمَل.

بقيَ زوجي يجلِب العارِضة وأنا بقيتُ أجلِب وليد... إلى حين عادَ زوجي في إحدى الأمسيات لوحده، وجلَسَ معنا إلى طاولة الطعام مِن دون أن يتفوّه بكلمة. مِن جانبي، بقيتُ مُركِّزة على عمَلي مع وليد وكأنّنا لوحدنا، أيّ أنّني تجاهَلتُ سامي كلّيًّا. ثمّ استدَرتُ نحو زوجي وسألتُه:

 

ـ ألا تعمَل الليلة في غرفة التصوير؟

 

ـ لا.

 

ـ حسنًا... بما أنّ ليس لدَيكَ عمَل في التصوير وبما أنّني ووليد مُنشغِلان، لِما لا تأتي بعملكَ لشركتكَ وتقومُ به هنا، على هذه المائدة أيضًا.

 

ـ فكرة جيّدة... فلدَيّ عمَل مُتأخِّر.

 

إبتسَمتُ وتابَعتُ عمَلي مع وليد، وجاء زوجي بحاسوبه المحمول وانضمّ إلينا، لكنّه كان أيضًا يُراقبنا ليعلَم إن كان هناك مِن شيء بيننا. كان مِن الواضح أنّه يشعر بالغيرة حيال ذلك الشاب الوسيم والذي كان ينظُر إليّ باعجاب، لأنّه رأى فيّ المُدرِبة الكفؤة التي ستفتَح له أبواب النجاح. في المساء نفسه، وبعد أن رحَلَ وليد، سألَني زوجي إلى متى سأبقى آتي بذلك الموظّف إلى البيت، فأجبتُه:

 

ـ لا أدري... سأرى. لماذا لا تهتمّ بولَدنا بينما أُعِدُّ العشاء؟ وهناك بعض الغسيل الجاف يجِب طيّه.

 

فعَلَ سامي ما طلبتُ منه، وجلَسنا إلى مائدة الطعام وبدأتُ أروي له عن ابننا وحركاته اللطيفة ثمّ جعلتُه يحكي لي عن دروسه في التصوير. بقيتُ آتي بوليد بينما لَم تعُد العارِضة تأتي إلى البيت، بل صارَ زوجي يُنهي عمَله للشركة بصحبتنا ويُساعدني بابننا والبيت. ثمّ هو قالَ لي:

 

ـ أظنّ أنّ وليد صارَ قادرًا على العمَل لوحده.

 

ـ أظنّ ذلك أيضًا... لكن بإمكاني استدعاءه مُجدّدًا... إن كان يتطلّب الأمر ذلك.

 

ـ لن يتطلّب الأمر ذلك.

 

ـ نحن بحاجة إليكَ يا سامي، بحاجة إلى زوج وأب... نحن الأولويّة، هل تفهم ما أقصد؟

 

ـ أجل... وأنا الأولويّة لدَيكما، أليس كذلك؟

 

ـ أجل. تعال الآن نُلاعِب ابننا، فهو أهمّ شيء لدَينا في هذه الدنيا. هو ثمرة حبّنا وهو مُستقبلنا، لا شيء ولا أحَد يجب أن يدخُل بيننا. أبقِ التصوير كهواية لكَ، لا أكثر.

 

ـ وماذا عن وليد؟!؟

 

ـ هو موظّف، لا أكثر.

 

ـ حسنًا... إتّفقنا.

 

لولا أمّي وحنكتها لَخسِرتُ زوجي وعائلتي، فالأكبر منّا سنًّا لدَيهم خبرة عميقة بالناس والحياة، ويعرفون كيف يُساعدونا عند الحاجة. إنّهم برَكة بحدّ ذاتهم ومصدر حكمة كبيرة، فاعتنوا بهم وأكرموهم.

مضى على تلك القصّة حوالي العشر سنوات، ولَم يعُد زوجي مُهتمًّا بالتصوير على الاطلاق، بل ركّزَ على عمَله ونالَ الترقيات وهو سعيد للغاية معنا ولا يشعُر بالحاجة إلى أيّ شيء آخَر. حبّنا كبرَ وصارَ متينًا، ولا أظنّ أنّ شيئًا أو أحدًا بإمكانه تفريقنا على الاطلاق.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button