كنتُ قد رفضتُ رفضًا قاطعًا الزواج مِن إبن خالتي، ليس فقط لأنّني لا أكنّ له سوى مودّة أخويّة، بل لأنّني كنتُ قد سمعتُ وقرأتُ أنّ هناك خطرًا على سلامة الأولاد مِن هكذا زيجة. لَم يلقَ رفضي أيّ صدى، خاصّة أنّني كنتُ المُتعلِّمة الوحيدة بين أهلي، الأمر الذي جلَبَ لي الغيرة والانتقادات وحاربَني ذويَ لأنّني كنتُ أفضل منهم.
لم تسمَح لي بيئتي بالوقوف في وجه القرارات الحاسمة، فتزوّجتُ على مضض مِن ياسين، الشاب الجاهل الذي لا يهمّه سوى الأكل وممارسة الجنس، فهو اعتبرَ بأنّ مُجرّد إدخاله المال إلى البيت هو كلّ ما تطلبه إمرأة. مِن جانبي، حاولتُ استيعاب هذا الإنسان وإيجاد ولو شيء يُساعدني على تحمّل لمَساته لي ليلاً بعدما يعودُ مِن عمله ومُقابلة أصدقائه في المقهى، لكنّني لَم أفلَح في ذلك.
عمِلتُ المستطاع لتجنّب الإنجاب إلا أن ضغوط العائلة كانت أقوى منّي، فحمِلتُ وافتخَرَ ياسين برجوليّته.
بعد أقلّ مِن سنة على ولادة إبننا، شُخِّصَ عنده مُشكلة في الكلى وردّ الأطبّاء الأمر إلى القرابة بيني وبين زوجي. لقد كنتُ على حقّ لكنّ الأوان كان قد فات.
إمتلأ قلبي بالغضب تجاه عائلتي وزوجي ومُجتمعي والعالم بأسره، فما ذنب ذلك المخلوق البريء الذي لَم يطلب أن يُبصر النور وأن يعيش حياته وهو يتألَم؟ تمنّيتُ لو أستطيع العودة في الزمَن والهروب مِن بيت أهلي قبل الزواج مِن ذلك الفاشل!
قمتُ بأبحاث عديدة عن حالة إبني المسكين، ووجدتُ أنّه سيتحمّل غسل الكلى والعلاجات بشكل مُنتظم. كان لونه دائم الشحوبة ولا حَيل له، الأمر الذي حال دون مُتابعته علمًا طبيعيًّا. كان مِن الواضح أنّ حياته ذاهبة سدىً.
رفضتُ رفضًا قاطعًا إنجاب ولد آخر كما طلَبَ ياسين منّي، وهدّدتُه بتركه لو بقيَ مُصرًّا على ذلك. عندها راحَ يتزوّج مِن غيري لتصير له، كما قال، ذريّة لا تُحصى. ضحكتُ في سرّيّ، فهكذا أناس يجب منعهم مِن الإنجاب لأنّهم لا يفهمون معنى الأبوّة بتاتًا.
إرتحتُ مِن ياسين للحقيقة وشكرتُ ربيّ أنّه لَم يُطلّقني، فهكذا بقي يدفع لي ولإبني شيئًا مِن راتبه، لكن كان عليّ أن أجد مورد رزق آخر، فتكاليف علاج صغيري كانت كبيرة حتى لو في المستوصفات الحكوميّة.
عارَضَ ياسين أوّلاً أمر إيجادي عملاً، لكنّه عاد وبدَّلَ رأيه عندما شرحتُ له أنّ المصاريف باتَت كثيرة عليه بعدما حمِلَت زوجته الجديدة.
بدأتُ العمل في سوبر ماركت بعدما تعذّرَ عليّ إيجاد أفضل مِن ذلك ووضعتُ إبني عند أهلي. أحببتُ التواجد بين عدد كبير مِن الناس والتواصل معهم، الأمر الذي كنتُ أُجيدُه. ولفَتَ ذلك نظَر المُدير الذي لاحَظَ كيف أنّ الكلّ يُحبُّني، ولاحَظَ أيضًا أنّني أتمتّع بثقافة وعلِم لا بأس بهما. لِذا رقّاني لأصبح مسؤولة عن قسم خدمة الزبائن بعدما كنتُ على الصندوق.
أخذتُ مهمّتي الجديدة على مِحمَل الجدّ، وحصَلَ أن ساهمتُ بشكل سلِس بفضّ مشاكل عديدة واجهَها زبائننا. كانت البسمة لا تُبارحُ وجهي، فتفاجأ المُدير عندما وصلَته أصداء وضعي العائليّ ومشاكل إبني الصحّيّة فطلبَني إلى مكتبه وقال لي:
ـ أنتِ مُدهشة... حقًّا... لدَيكِ القدرة على ترك كلّ متاعبكِ عند عتبة بيتكِ والقدوم إلى العمَل وكأنّكِ أسعَد مخلوقة على وجه الأرض... وهكذا تكون المهنيّة الحقيقيّة... أُريدُكِ أن تُدرّبي باقي الموظّفين ليُصبحوا مثلكِ... وسأزيدُ راتبكِ طبعًا.
ـ لكَ ألف شكر يا سيّدي.
ـ وإن كان هناك ما أستطيع فعله مِن أجل ابنكِ فأنا مُستعدّ... لدَيّ إبن وهو يتمتّع بصحّة مُمتازة ولا أجرؤ على تصوّر حالتي لو أنّه مريض. أحيانًا ننسى كَم أنّنا محظوظون ويلزمُنا إدراك ما يمرّ به غيرنا لتقدير ما اعتقدناه تحصيلاً حاصلاً.
ـ كلامكَ يا سيّدي يُفرحُ القلب فأقرَب الناس لي لا يتكلّمون هكذا. سأبذلُ جهدي لتبقى ممتنًّا مِن أدائي وألا تندم على ثقتكَ بي. أعدُكَ بذلك.
ثقة المدير بي وتقديره لمُعاناتي أعطياني أجنحة، وصِرتُ أعمَل بفرَح لَم أعرفه مِن قبل. فهذا ما يلزمُنا... دعم ولو كان معنويًّا.
وأجمل ما في الأمر، هو أنّ العاملين والموظّفين في السوبر ماركت لم يستاؤوا مِن تقدّمي الجديد، ولا تدريبي لهم مع أنّهم كانوا موجودين في المؤسّسة منذ سنوات عديدة. فلا بدّ أنّهم لمَسوا تواضعي ومحبّتي لهم الصادقة، فالإنسان يشعرُ بذلك ولا يتقبّل مَن يتعامل معه بفوقيّة وتعجرف.
بدأ صغيري بغسل الكلى، الأمر الذي أرهقَه للغاية، وكنتُ أبذل جهدي في المساء لتعليمه ما أعرفُه، فبات يقرأ ويكتب بطلاقة ولدَيه معرفة واسعة بأمور عديدة. علّمتُه أيضًا تقبّل وضعه والإيمان بإرادة الله الذي وحده يعلم ما يجب أن يكون أو لا يكون.
لَم أعُد أخاف مِن مصاريف علاجه بسبب راتبي والتغطية الصحّيّة التي حظيتُ بها في العمل. كلّ ما صارَ يهمّني هو حالة إبني النفسيّة، ففي آخر المطاف كان سيموتُ باكرًا إذا لَم أجد له كلية، وهو كان على علم بذلك. وللأسف الشديد لَم تكن كليتي تُناسبه. أمّا في ما يخصّ والده، فهو كان يرفضُ حتى إجراء ولو فحص لِمعرفة مدى موافقة كليته لإبنه. لَم يُفاجئني الأمر، فهذا كان يتطابقُ مع شخصيّته الأنانيّة.
يوم صرتُ مُديرة السوبر ماركت كان قد مضى خمس عشرة سنة على بدئي العمل. سلّمَني المدير مكانه بإقامة حفل لي حضرَه الجميع وهو ذهَب فرِحًا يستمتعُ بتقاعده في القرية. كان إبني قد صارَ في العشرين مِن عمره ولَم تتحسّن حالته بل ساءَت لدرجة خطِرة. إسمه كان مُدرجًا على قائمة انتظار وهب كلية، ولَم يحن دوره لكثرة الطلَب وقلّة العرض. كنّا قد أدركنا أنّ النهاية باتَت محسومة، ووصَلَ الأمر بإبني لتقبّل مصيره كليًّا، فهو كبُرَ مُحاطًا بمَن أحبَّه ولَم أبخل عليه بشيء مِن الناحية الماديّة أو العاطفيّة والإنسانيّة. لَم أُفكّر يومًا بنفسي، وكأنّني لَم أكن موجودة كامرأة بل فقط كأمّ، ولَم أندَم ولو للحظة لا بل مهمّتي كانت مصدر فرَح لي. فمَن أنا لأشارط الله على ما رسَمَه لي؟ الإرادة الإلهيّة أكبر مِن أن نفهمَها ومَن يتقبّلُها فعليًّا يعيشُ براحة قلب تُساعده على اجتياز المِحَن.
هل أنّ ما فعلتُه لسنوات طويلة وإيماني المُطلق بالخالق هو ما غيّر مجرى حياتنا؟ في كلّ الأحوال، جاءَني في أحد الأيّام إتّصال مِن طبيب إبني ومِن نبرة صوته علِمتُ أنّه خبر سار. كانو قد وجدوا كلية أخيرًا! حين أقفلتُ الخط أسرعتُ إلى غرفة إبني في المشفى وزفَّيتُ له الخبر. وهو نظَرَ إليّ باندهاش، ليس لأنّه لَم يعُد يتوقّع الشفاء بل العكس. فقد قال لي:
ـ يا ليتهم يعطون الكلية لشخص آخر يا أمّي.
ـ ماذا؟ لَم أفهَم قصدكَ!
ـ ما نفَع الزرع الآن؟ فأنا مُقتنِع تمامًا بالرحيل... لستُ خائفًا على الإطلاق بل حزين بعض الشيء عليكِ، مع أنّني أعلمُ أنّكِ الأخرى قابلة بالمحتوم.
ـ لا يا إبني... فكما أنّ مرضكَ هو أمر مِن الله، هكذا هو إيجادنا الكلية... فمَن يقبل بإرادة الخالق يقبلُ بها كيفما جاءَت. أنتَ عانَيتَ ما يكفي وحان الوقت لتعيش بصحّة جيّدة. أتسمعُني؟ لتعيش!
كانت عمليّة الزرع دقيقة للغاية، فحالة إبني كان يُرثى لها لكنّها نجحَت أخيرًا. لزِمه وقت للتعافي وليرى الأطبّاء إن كان جسمه سيتقبّل الكليّة الجديدة. صلَّيتُ كثيرًا ولَم أنَم لليال عديدة إلى أن إطمأنّ قلبي. وأوّل مَن زفَّيتُ له الخبر لَم يكن أب إبني بل مديري القديم الذي كان يكنّ لنا مودّة خاصّة وجدّيّة. وفي آخر المطاف، لولا ذلك الرجل لكان إبني قد ماتَ منذ سنوات مِن دون الرعاية اللازمة.
وعندما التقى إبني بابن المدير يوم رحنا نزوره في القرية، قال مديري السابق لإبنه:
ـ هذا هو الشاب الذي أخبرتُكَ عنه... إنّه قويّ كأمّه... فالقوّة هي بالمثابرة والأمل. فليس مِن الأسهل مِن أن نستسلم ونتراجع.
عمِلَ إبني معي في السوبر ماركت، واهتمَّ به الجميع بعد أن تتبّعوا أخباره طوال سنوات.
نحن اليوم أناس سعداء لا نخاف مِن شيء، ففي آخر المطاف، هناك مَن يرعانا ويحمينا، ولن يحصل لنا سوى ما كتبَه خالق الكون لنا، فلِتكن مشيئته أيًّا كانت!
حاورتها بولا جهشان
