لا تيأسي... الأمل دائماً موجود!

تعذّبتُ كثيراً في حياتي... تركتُ المدرسة وأنا في الثالثة عشر من عمري عند وفاة أبي وأُجبرتُ على العمل لكي يتسنّى لإخوتي أن يتعلّموا. حلمتُ بغد أفضل لكنّه لم يأتي وتابعتُ مسيرتي الشاقة التي لم تتخلّلها سوى فترات قصيرة من الفرح.

ماتت أمّي وتزوّج الجميع أمّا أنا فمرّت حياتي دون أن أحسّ بها ووجدتُ نفسي في الأربعين من عمري أعمل في سوبرماركت كبير أضع الأسعار كالآلة على البضائع. كنتُ قد نسيتُ أن أتزوّج وأؤسس عائلة ولكن من سيقرن حياته مع إنسانة شبه أمّية قاربت على سنّ اليأس سوى بائس مثلها؟ ولكن الوحدة مؤلمة وفضّلتُ تقاسمها مع شخص آخر. وهنا أيضاً لم يحالفني الحظ فبعد سنة من زواجي به أصيب زوجي بمرض خبيث توفّي على أثره. عندها فهمتُ الرسالة: لم يكن مسموحاً لي أن أكون سعيدة. فلم أعاود المحاولة.

وجدتُ نفسي وحيدة وشاء القدر أن أجد عملاً مع من هم وحيدين مثلي. أخبرتني جارتي أنّ الدار للعجزة الذي تعمل فيه قريبتها يبحث عن أحد للإنتباه إلى المسنّين. كان المعاش مغر وكانوا سيؤمّنون لي المسكن والمأكل فذهبتُ فوراً الى هناك وبدأتُ العمل. كنتُ آخذ العجزة إلى الحمّام وأهتمّ بنظافتهم وأسلّيهم. أحببتُ هؤلاء الأشخاص ربّما لأنّهم مرفضين من ذويهم ومنسيّين وأعطيتهم كل حناني وحبّي.

وكانت هناك إمرأة عجوز أحببتها أكثر من الباقي إسمها هلانه. كانت مختلفة عن اللآخرين فكانت دئماً أنيقة ورقيقة وتتكلّم بهدوء. علمتُ أنّها من عائلة غنيّة وأنّ أولادها رموها في المأوى بعدما أقنعوها بأن تكتبَ لهم كل ما تملكه ما أغضبني كثيراً خاصة عندما كنتُ أراها تنتظرهم دون جدوى كل نهاية أسبوع. لم يأتوا يوماً لزيارتها وكانوا يكتفون بدفع تكاليف مكوثها عبر المصرف. كنتُ أحبّ أن أجلس معها وأستمع إليها وهي تروي لي أحداث حياتها المليئة بالإجتماعيّات والسفرات إلى بلدان بعيدة. ومع مرور الوقت أصبحنا كالأم وإبنتها فوجَدَت فيّ الحنان التي لم تناله من أولادها.

وحين مرضت وقال طبيب الدار أنّ نهايتها قرُبَت حزنتُ حزناً عميقاً وكأنني سأفقد جزءً مهمّاً من حياتي.

وعندما كانت على فراش الموت قالت لي على حِدى:

 


- ثريّا...لم أكن دائماً ثريّة... ولدتُ وكبرتُ مثلكِ أعاني من القلّة إلى حين نشلني زوجي رحمه الله من الفقر وصِرتُ سيّدة مجتمع. وعندما أصبح عندي المال الوفير إشتريتُ الغرفة التي كنتُ أسكن فيها لكي لا أنسى أبداً من أين جئتُ وأعمل جهدي لأساعد المحتاجين. لا أحد يعلم بوجود ذلك المكان. خذي هذا المفتاح وإذهبي إلى هذا العنوان. أدخلي الغرفة ومدّي يدكِ تحت السرير... ستشعرين أنّ إحدى البلاطات تتحرّك عند الملمس... إرفعيها وإجلبي لي العلبة الموجودة هناك... إيّاكِ أن تفتحيها!

 

- سأفعل ما تريدينه يا سيّدتي.

 

وذهبتُ إلى هناك ورجعتُ وأعطيتها تلك العلبة. وبعد ساعة إستدعت هلانه مدير الدار والطبيب وممرضتان وقالت لهم أمامي:

 

- حضرة الطبيب... يمكنك أن تؤكّد أنني أتحلّى بكامل قواي العقليّة أليس كذلك؟

 

- أشهدُ على ذلك

 

- إذاً سأعطي أمامكم هذه العلبة لثريّا... ما بداخلها ليس من شأنكم ولا أحد يعرف بوجودها أصلاً. ستفتحها ثريّا بعد رحيلي وعندما تكون لوحدها ولن تقول لأحد ما وجدت فيها. هل فهمتم ما قلته لكم؟

 

وافق الجميع.

وفي اليوم التالي غادرت هلانه الحياة. بقيتُ إلى جانبها حتى آخر لحظة أمسكُ بيدها لكي لا تذهب وحيدة. ورغم أننا أعلمنا أولادها بقرب موتها لم يأتِ أحد ليواسيها في لحظاتها الأخيرة.

ودّعها أهالي الدار كما يجب والكل بكى عليها. وعندما وصلتُ الى غرفتي فتحتُ العلبة ولم أصدّق عينيّ: كانت قد ترَكَت لي تلك السيّدة الطيّبة رزمة كبيرة من المال وجميع مجوهراتها ومفتاح الغرفة. كان هذا الكنز سيكفيني لأعيش بالرخاء حتى آخر يوم في حياتي. بكيتُ كثيراً وترحّمتُ عليها لأنّها أعطتني الفرصة التي لم أحظ بها يوماً وبفضلها كنتُ سأذوق أخيراً طعم الهناء.

وبعد بضعة أيّام جاء أولاد هلانه يسألون عن مجوهرات أمّهم بعدما أن فتّشوا عنها في كل مكان دون جدوى. إستدعى أمامهم مدير الدار جميع العاملين وسألهم واحد تلو الآخر إن كان قد رأوا مجوهرات السيّدة. كلّهم أجابوا بالنفي وعندما جاء دوري تلبّكتُ لأنني لم أكن أجيد يوماً الكذب. وكاد أن يُفضح أمري لو لم يتدخّل الطبيب:

 

-أنتم أوصلتم والدتكم إلى الدار وأنا أكيد أنّكم أنتم الذين حضّرتوا أمتعتها لذا تعرفون تمام المعرفة أنّه لم يكن بحوذتها مجوهرات وأنا أشهد أنّها لم تخرج يوماً من المؤسسة فأنصحكم بالبحث في مكان آخر.

 

قال هذا وإبتسم لي. كان الكل في الدار واثق أنّ هلانه قد تركت لي شيئاً ثميناً ولكن لم يتكلّم أحد ربّما لأنّهم رأوا كيف كنتُ أعاملها وكيف رماها أهلها بعدما أخذوا كل ما تملكه ومجيئهم للبحث عن المجوهرات أثار غضب الجميع.

لم أغادر عملي رغم أنني لم أعد بحاجة إلى المال. فضّلت ُ البقاء في الدار الذي أصبح بيتي الحقيقي وزملائي باتوا عائلتي. وبفضل ما تركَته لي تلك السيّدة الكريمة أنشأتُ صندوقاً يعنى بمساعدة موظفين الدار متأكدةً أنّ هذا ما كانت ستفعله هلانه.  

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button