لا أُريد تلك العروس!

الوقوف في وجه أمّي كان، منذ البدء، أمرًا مُستحيلاً. أوّلاً بسبب شخصيّتها القويّة وثانيًا لأنّها ربَّتني لوحدها بعد موت أبي وذاقَت الأمرَّين مِن أجل رعايتي وإعطائي حياة كريمة ومُستقبل آمِن. أحبَبتُها وفي الوقت نفسه كرهتُها، بعد أن شعرتُ أنّها تُريد أن تستوفي مني ما ضحَّت به مادّيًّا ومعنويًّا. أجل، كنتُ مُدينًا لها بحياتي، بدءاً بماضيّ ومرورًا بحاضري ووصولاً إلى مُستقبلي. يا لَيتها أنجبَت لي أخًا أم أختًا لأخَذَ أحدهما بعض الثقل عنّي!

وحين ظننتُ أنّني اعتدتُ نزوات والدتي في ما يخصُّني، خطَرَ ببالها أنّ الوقت حان أن أتزوّج. ماذا؟!؟ كنتُ في سنَتي المدرسيّة الأخيرة وأنوي دخول الجامعة للتخصّص بالهندسة، وها هي تُريدُني أن أؤسّس عائلة! ومع مَن؟ لَم أكن حينها أعرفُ فتيات على الإطلاق ولا يهمّني أمرهنّ بل أُريدُ التعلّم فقط.

لكنّ فكرة تزويجي صارَت هاجسًا لدى أمّي، لدرجة أن طفَحَ كَيلي، خاصّة أنّها كانت تستعملُ ورقة: "أُريدُ أن يطمئنّ بالي قبل أن أُغادرَ هذه الدنيا"، مع أنّها كانت لا تزال في الأربعين مِن عمرها. فمَن يفقطُ في هكذا سنّ مُبكر؟

 

دخلتُ الجامعة ونسيتُ أمر هاجس والدتي، فقط لأنّها توقّفَت عن الكلام بالموضوع. صحيح أنّني وجدتُ الأمر مُريبًا، إلا أنّ انشغالي بِدرسي ألهاني. كان يجب عليّ العلم بأنّ التي ولدَتني لا تستسلِم بسهولة، لا بل لا تستسلِم أبدًا.

وذات مساء، دخلَت غرفتي وعلى وجهها بسمة أخافَتني. رفعتُ عينَيّ إلى السماء قائلاً: "أستُر يا رب!". وبعد أن جلسَت على سريري قالَت لي بِحماس:

 

ـ وجدتُ لكَ عروسًا! إنّها بالفعل مُمتازة! جمال وذكاء وابنة أناس مؤمنين وصالحين. إسمها زهرة وهي تسكن في البيت الصغير المُلاصق للجامع القديم.

 

ـ ما بكِ يا ماما؟ ألَن ننتهي مِن هذا الموضوع أبدًا؟ قلتُ لكِ إنّني أودّ الحصول على شهادة مُهندس، والعمَل لاحقًا على مشاريع ضخمة وجميلة. ليس لدَيّ الوقت للاهتمام الآن بالزواج!

 

ـ لِذا إخترتُ هذه العروس لكَ.

 

ـ ماذا تعنين؟ هل هي مُستعدّة للانتظار سنوات عديدة؟

 

ـ مُستعدّة؟ لستُ أدري... لكن مُجبرة.

 

ـ ومَن سيُجبرها؟ كلامكِ غامض للغاية!

 

ـ سنُّها سيُجبرُها على ذلك... فهي لا تزال في العاشرة مِن عمرها.

 

ـ أنتِ جننتِ حقًّا يا ماما! هل تسمعين ما تقولينَه أم أنّكِ غارقة في هاجسكِ؟

 

ـ لا يهمُّني ما تقوله. كلّ ما أعرفُه هو أنّها بالفعل مَن ستتزوّجها.

 

ـ لن يحصل ذلك حتى لو بعد مئة سنة! أتركيني وشأني!!!

 

وبالفعل تركَتني والدتي وشأني أخيرًا، واستطعتُ التركيز على درسي وشهادتي، وبعد سنوات قليلة تخرّجتُ بامتياز. كنتُ أسعَد شابّ في الدنيا، فالحياة ومجال العمَل كانا يفتحان ذراعَيهما واسعًا لي. وحين عُرِضَ عليّ السفر إلى إحدى بلدان الخليج، لَم أتردّد في القبول حتى لو عنى ذلك ترك والدتي. وبالطبع هي لَم تكن مسرورة، ليس لأنّها ستبقى لوحدها بل اكتفَت بالقول: "وعروسكَ؟".

بدأتُ بالعمل في الغربة بحماس ملحوظ وبكفاءة لَم تغِب عن عيون القيّمين على المشروع، فتمَّت ترقيَتي بسرعة. زرتُ البلَد وأمّي بانتظام مُحمّلاً بالهدايا ومُصمّمًا على تجاهل موضوع العروس الذي كان سيُفتَح في كلّ مرّة.

 

بعد سنتَين، تعرّفتُ إلى صبيّة جميلة وأحبَبنا بعضنا، وشعرتُ أنّني صرتُ حاضرًا للزواج. لكنّني خفتُ مِن ردّة فعل أمّي لِذا أخفَيتُ عنها الخبَر أطول مدّة مُمكنة.

وفي تلك الفترة بالذات وقعَت الكارثة: لقَيت أمّي مصرعها حين دهسَتها سيّارة مُسرعة... إنقلَب عالمي رأسًا على عقَب وأخذتُ أوّل طائرة مُتجّهة إلى البلد لأتمكّن مِن حضور مراسِم دفنها. بكيتُ كلّ دموعي عليها، وشعرتُ بالذنب حيال مُشاجرات عدّة حصلَت بيننا وطلبتُ منها السماح. لَم أشأ بَيع البيت أو الأثاث، مع أنّني لَم أفكِّر بالعودة يومًا، فالتي كانت تربطُني بالبلد رحلَت عنه وعن الدنيا بأسرها.

عدتُ إلى عمَلي في الخليج وإلى حبيبتي التي واسَتني كثيرًا ونشّفَت دموعي، وكنتُ مُمتنًّا لوجودها في حياتي. فلولاها لبقيتُ وحيدًا وحزينًا لفترة طويلة. ولأردّ الجميل لها، أسرعتُ بالزواج منها، وسكنّا سويًّا في الشقّة الجميلة التي قدّمَتها لي الشركة. كنتُ سعيدًا للغاية، ووسط فرحتي نسيتُ أمّي والبلَد بأسره.

إلا أنّ المشاكل بيني وبين زوجتي بدأَت بعد أقلّ مِن سنة على زواجنا. وبالرّغم مِن محاولاتي العديدة لإصلاح الأمور، كنّا نعودُ ونتشاجر إلى أن وصَلَ الأمر بنا إلى طريق مسدود. لِذا كان لا بدّ لنا أن نفترِق وأن يعيش كلّ منّا بعيدًا عن الآخر. وعندما تمّ الطلاق بيننا كان قلبي حزينًا.

وشعرتُ فجأة بحاجة ماسّة للعودة إلى البلَد، إلى جذوري، إلى المكان حيث كنتُ سعيدًا وآمنًا. أخذتُ إجازة مِن عمَلي ورحتُ إلى البيت الذي ولِدتُ وكبرتُ فيه. للحقيقة، كان قلبي ثقيلاً وشعرتُ بغياب والدتي فيه، فهي كانت تملأ المكان بوجودها . إلا أنّني رضختُ لواقع الدنيا، أيّ أنّ الإنسان مخلوق هشّ وضعيف وأنّ نهايته محتومة.

وفي تلك الفترة، وقبل أن تنتهي إجازتي، لَم أعُد أرغب بالعَيش في الغربة حيث لا أنتمي على الإطلاق. لِذا إتّصلتُ بزملائي القدامى في الجامعة وعرضتُ على إثنَين منهم تأسيس شركة هندسة، فخبرَتي القويّة في الخارج أعطَتني تقدّمًا وتنوّعًا في مجال الهندسة. وفي غضون أيّام، وضعنا خطّة عمَل وجهّزنا أوراق الشركة وبدأنا بالمُعاملات اللازمة. كنتُ أعي أنّها بالفعل مُغامرة، لكنّني كنتُ مُقتنعًا بالذي أفعلُه. قدّمتُ استقالتي مِن عمَلي في الخارج، وقمتُ بتصليحات في البيت وتجديدات كانت تلزمه. وإذ طلبتُ مِن أمّي أن تُبارك مشروعي الجديد، بدأتُ وشريكَيَّ تأسيس المكتب الذي اخترناه في قلب العاصمة. وضعتُ إعلانًا في الصحيفة لإيجاد سكرتيرة إداريّة فجاءَتني العديد مِن الصبايا اللواتِي تحمِلنَ شهادات في هذا المجال. إخترتُ بينهنّ صبيّة اسمها جنان، لأنّها بدَت لي جدّيّة وقادرة على فهم ما أنتظره منها. إلى جانب ذلك، هي أيضًا بدَت لي مُحافظة على خلاف باقي الفتيات اللواتي أجرَيتُ معهنّ المُقابلة، بفضل لبسها المُحتشم ونظرتها الخجولة وصوتها الهادئ.

جرَت الأمور كما تمنَّيتُها في ما يخصّ العمَل، أيّ أنّنا بدأنا نأخذ ُمشاريع بناء وتخطيط. وسرعان ما إنتشرَ اسمنا في مجال العمَل الهندسيّ. خبرتي في الخارج ساعدَت في ذلك، فلقد استطاعَ زبائننا رؤية ما نفّذتُه سابقًا. عمِلتُ بكدّ مِن دون أن أحسِب الساعات الطويلة التي بقيتُ خلالها في المكتب. سكرتيرتي ساعدَتني كثيرًا، فهي أعطَتني الكثير مِن وقتها الإضافيّ لأنّها لَم تشأ تركي مِن دون مُساعدة. شكرتُ ربّي أنّني وجدتُ هكذا إنسانة وإلا تضاعفَ تعَبي ومجهودي وانهَرتُ جسديًّا ومعنويًّا. فشريكَيَّ في المكتب كانا بالفعل اسمَين على ورقة ولا يتعاطيان بِسَير العمَل بل أستشيرُهما مِن وقت لآخر.

ولمكافأة جنان سكرتيرتي، دعوتُها للغداء ذات يوم لأُعلنَ لها أنّني سأُعطيها علاوة على راتبها. هي تردّدَت بالقبول لكنّني أقنعتُها أنّني بالفعل مُعجب بعملها ولا أضمرُ أيّ أفكار تجاهها. صحيح أنّها كانت صبيّة جميلة، إلا أنّني كنتُ في تلك الفترة لا أفكِّرُ سوى ببلوغ هدفي المهنيّ.

حين وصلَت جنان المطعم، بالكاد تعرّفتُ إليها، فهي كانت قد وضعَت بعض المساحيق على وجهها وارتدَت فستانًا أنيقًا. وفي تلك اللحظة، بدأ قلبي يخفقُ بقوّة وعمِلتُ جهدي لإخفاء إرتباكي. قضَينا وقتًا جميلاً، وهي فرِحَت كثيرًا لدى سماع خبَر العلاوة. وفي اليوم التالي، وبالرغم مِن جهودي، صرتُ مُغرمًا بجنان. خفتُ أن أفصَحَ لها عن مشاعري تجاهها كي لا أُفزعها وأخسرها، لِذا كتمتُ مشاعري لأشهر طويلة.

مرَّت سنة بكاملها ولَم أعُد أستطيع تحمّل الوضع، فكان عليّ عَيش حبّي لسكرتيرتي في العلَن، لِذا قرّرتُ إخبارها بمشاعري شرط أن تبقى في عملها لدَيّ إن هي رفضَتني. ووعدتُها بأنّني لن أغيّرَ مُعاملتي لها لو لَم تقبَل بي زوجًا لها. وكَم كانت فرحَتي كبيرة حين رأيتُ وجهها يحمّرُ مِن الفرَح، وسمِعتُها تُتمتمُ بِخجل "لستُ مُستاءة لسماع كلامكَ... بل العكس". أخذتُها بين ذراعَيّ بقوّة وشكرتُ ربّي بحرارة. إتّفقنا أن نذهب في اليوم التالي بعد انتهاء الدوام إلى أهلها لأتعرّف إليهم وأطلبَ منهم يدها، فارتدَيتُ في الصباح بذّة جميلة وجلبتُ معي علبة مِن الحلوى. وفي المساء، جلسَت جنان في سيّارتي وقادَتني إلى ذويها. تفاجأتُ كثيرًا حين دخلنا الحَي الذي أسكنُ فيه، فلَم أعرِف أنّها تعيشُ بالقرب منّي لأنّ العنوان المُدوّن في ملفّها ليس نفسه. إلا أنّها قالَت لي:

 

- هذا بيت جدّتي وكنّا نعيشُ فيه قبل أن ننتقل إلى مسكنها الحاليّ، وأُريدُها أن تعلَم بالخبَر أوّلاً، فنحن مُقرّبتان جدًّا.

 

إستقبلَتنا العجوز ببسمة واضحة، وقدّمَت لنا العصير وجلسنا نتكلّم. لكنّها نادَت جنان باسم آخَر وخلتُ نفسي قد أسأتُ السمَع. فسألتُها إن كانت هي نادتها "زهرة" بدلاً مِن جنان، فضحِكَت العجوز قائلة:

 

- منذ البدء لَم أُحِبّ الاسم الذي اختارَه ابني لابنته، فقرّرتُ أن أُناديها "زهرة".

 

عندها توقّفَ الزمَن بالنسبة لي، إذ أنّني أدركتُ فجأة أنّنا موجودون في بيت صغير ملاصِق للجامع القديم. يا إلهي! أسرعتُ وسألتُ الجدّة إن كانت تعرفُ أمّي، رحمها الله، فنظرَت إليّ بتمعّن وقالَت:

 

- هل أنتَ ذلك الشاب الذي أرادَ إنهاء دراسته ولا يُريدُ الزواج إلا لاحقًا؟ يا إلهي... هل هي صدفة أم قدَر؟ أمّكَ خطبَت زهرة منّي منذ سنوات!

 

للحقيقة لَم آخذ الأمر عل محمَل الجدّ آنذاك، فمَن يخطبُ فتاة في العاشرة مِن عمرها؟ نسيتُ الموضوع بسرعة، خاصّة بعدما سمعتُ بموتُ المسكينة والدتكَ". جنان تفاجأت كثيرًا، فرويتُ لها القصّة منذ أوّلها، ونظرنا إلى بعضنا باستغراب وفرَح... وحبّ. وأدركنا أنّ حبّنا كان محتومًا أن يحصل بعد أن اختارَت أمّي أفضل عروس لابنها لأنّها الوحيدة التي تعرفُ حقًّا مَن سيُسعده ويقفُ إلى جانبه. وحين عدتُ إلى البيت بكيتُ كثيرًا، وناجَيتُ أمّي لتُسامحني ولأشكرها على هذا الكمّ مِن الحكمة والحبّ.

تزوّجتُ وجنان وأنجبنا البنين والبنات، وازدهَرَ عمَلي. ولَم يمضِ يوم تعيسًا علينا، وكأنّ الله باركَني بالفعل وعائلتي. لا أستطيع تفسير ما حصل مع جنان بالمنطق، فقد تكون مسألة صدفة بحت. لكن شعوري الدّفين هو أنّ أمّي باختيارها لـِ "زهرة" قد رسمَت مُستقبلي، بموافقة الخالق طبعًا. فهناك أمور عديدة لا ولن نفهمها، بل علينا تقبّلها لأنّ الله وحده يعرفُ أين تكمن سعادتنا.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button