كنتُ الشاهِدة الصامتة لِتنمّر أبي على أمّي، لدرجة أنّني خلتُ خلال طفولتي أنّ تلك كانت الديناميكيّة الاعتياديّة للأزواج، وذلك بالرغم مِن حزن وبكاء والدتي الدائمَين. لكن مع الوقت، بدأتُ أعي الظلم والطغيان اللذَين اتّصَفَ بهما والدي. فالحقيقة أنّني لَم أرَه ولو مرّة يُعاملها بلطف ولياقة، أو بما قد يُشبِه الحبّ أو الحنان، بل العكس، فهو كان يصرخُ بها طوال الوقت، وينعَتها بشتّى النعوت المُهينة ويُطالبها بخدمته في أيّ وقت مِن الليل أو النهار. إلّا أنّه كان يُعامِلُني وباقي الناس باحترام ولطف. غضبتُ كثيرًا لهذا الواقع، وخاصّة لقبول أمّي بهذه المُعاملة المُشينة، وحثَّيتُها ألف مرّة على الوقوف في وجهه ورفض ذلك التنمّر الدائم. إلّا أنّها كانت تقول لي دائمًا: "ما عساني أفعَل... فهكذا هي الأمور ولا شيء سيُغيّرها". أعطَيتُها سبُلًا عديدة لتستعملها معه، لكنّها لَم تُجرّب أيًّا منها.
بالطبع كلّمتُ أبي بالموضوع، طالبةً منه تغيير معاملته لزوجته، لكنّه كان دائمًا يتحجّج بتوتّر ما أو مُشكلة يمُرّ بها تحمِله على فقدان أعصابه، وصبّ غضبه على أمّي ويقول ببسمة: "إن هي لا تستطيع تحمّلي في أوقاتي العصيبة، فمَن سيفعل؟". لكنّني كنتُ أعلَم أنّه يكذِب ويُصوّرُ نفسه أمامي وكأنّه يُحِبّ زوجته بالرغم مِن كلّ شيء. فلَم أرَ أيّ حبّ مِن جهّته، بل فقط مِن جهّتها هي، المسكينة، فلطالما رأيتُها وهي تنظُر إليه وكأنّه رجُل خارِق يستحقّ الاحترام غير المشروط والطاعة المُطلقة. حاوَلتُ معرفة إن كان لأبي أسباب لتصرّفاته، أيّ إن فعلَت له أمّي شيئًا في ما مضى يعذرُ معاملته لها، لكنّني لَم أجِد شيئًا على الاطلاق، فهو كان بكلّ بساطة رجُلًا نرجِسيًّا وجَدَ ضحيّته المثاليّة ولا ينوي أن يفلِتها أبدًا.
أبدًا؟ للأسف لا، فالمسكينة أُصيبَت بمرض فتّاك، على الأرجح بسبب زعَلها على مدّة سنوات لا تُحصى، فماتَت.
حُزن أبي عليها كان شبيهًا بالغضب، فكيف هي تتركه وترحَل؟ كيف هي تجرؤ على الموت مِن دون إذنه؟ وعلى مَن كان سيصبّ غضبه وامتعاضه؟ والجواب كان بسيطًا، على الأقلّ بالنسبة له: عليّ أنا.
بدأَت الأمور تدريجيًّا، كأن يطلب والدي منّي عدَم التأخّر بالعودة إلى البيت بعد عمَلي، لأنّه يشعرُ بالوحدة في المنزل بعد وفاة زوجته. تفّهمتُ وضعه إذ أنّه لَم يمضِ ولو يومًا واحِدًا لوحده، فوضَعتُ حياتي الخاصّة جانبًا مِن أجله وامتنَعتُ عن رؤية صديقاتي... وحبيبي الذي أبقَيتُه في الظلّ خلال فترة مرَض أمّي ولاحِقًا وفاتها، لأنّ الوقت لَم يكن مُناسِبًا للإفصاح عن حبّ جديد. مكَثتُ في البيت أُحضِّرُ لوالدي الأكل، وأهتمّ بترتيب أمتعته وتنظيفها، آملة أن يقِف على رجلَيه قريبًا ويعي أنّه قادر على القيام ببعض الأمور بنفسه، على الأقلّ المُتعلِّقة به مُباشرة. فالحقيقة أنّه لَم يكن عجوزًا أو لدَيه أيّ إعاقة، بل كان يتخطّى بالكاد الخمسين مِن عمره وذا عافية مُمتازة.
مرَّت الأشهر وهو لَم يتبدَّل، بل زادَت طلباته وبدأَت لهجته تتغيّر معي، وكنتُ أعرفُ تمامًا ما عنى ذلك. إلّا أنّني صبرتُ بعد أن أعطَيتُه ضمنيًّا مهلة لينشغِل عنّي ويُتابع حياته. فكنتُ أنوي الزواج مِن حبيبي والسكَن معه في مكان بعيد، في البيت الذي بناه وحضّرَه لحياته المُستقبليّة. تمكَّنتُ حتّى من إيجاد أعمال عديدة تُناسب قدراتي في تلك المنطقة، وتبيّنَ أنّني بالفعل مُستعدِّة لترك حياتي السابِقة للبدء ببناء عائلة خاصّة بي.
بقيتُ أخفي عن أبي "خطيبي" سمير، إلى حين ساءَت الأمور وباتَ والدي يصرخُ عليّ كما كان يفعل مع أمّي، ونتشاجَر على الدوام بسبب رفضي لهذه المُعاملة التي قبِلتُ بها المرحومة. فوالدي لَم يتصوَّر أن تقِف امرأة في وجهه وكأنّ رجوليّته هي مُتعلِّقة بقدر الاهانات التي يمكن أن يتلفّظ بها. على كلّ الأحوال، كان لدَيّ سمير، شابّ عاقِل ومُتّزِن، وكنتُ أعرفُ تمام المعرفة أنّه لن يُعاملني هكذا أبدًا.
إقترَبَ موعد الافصاح عن وجود رجُل في حياتي، فكنتُ أنوي الزواج منه بعد فترة قصيرة، وللحقيقة خفتُ مِن ردّة فعل أبي. لكنّه تقبَّل الموضوع برحابة صدر، وتكلَّمَ عن سُنّة الحياة وكيف أنّ للأبناء أن يطيروا بأنفسهم ليبنوا عشّهم. تفاجأتُ به لكنّني سُرِرتُ أنّ الأمور جرَت عكس ما توقّعتُ.
أخبَرتُ سمير عمّا جرى مع والدي وهو تحمَّسَ للتعرّف على حماه المُستقبليّ، فحدَّدتُ موعدًا ليَلتقي الرجُلان. للحقيقة لَم أكن مُرتاحة كثيرًا لذلك اللقاء، فأنا أعرفُ أبي عن ظهر قلب، وهو قد يتصرّف بفظاعة مع خطيبي بقصد إبعاده عنّي. لكن لَم يحدث أيّ من الذي فكّرتُ فيه، بل العكس. هما جلَسا سويًّا وتحدّثا كالأصدقاء القدامى، ففرِحتُ كثيرًا لهذا التقارب. وسرعان ما صارَ سمير يزورُنا بشكل شِبه يوميّ ويُشاركنا الوجبات وكأنّه باتَ بالفعل واحدًا منّا. جرَت الأمور بشكل ممتاز أيضًا بين أهل خطيبي وأبي، وتمنَّيتُ لو كانت والدتي لا تزال على قَيد الحياة لتفرَح لي ولحياتي الجديدة.
حُدِّدَ موعد عقد القران، وبدأتُ أتحضّر بنقل أمتعَتي إلى البيت الزوجيّ، حين لاحظتُ تغيّرًا في تصرّفات سمير معي. فهو أصبَحَ أكثر عنادًا مِن قَبل ويُصِرّ على قراراته، حتّى لو كانت خاطئة، ويُجادلُني فقط مِن أجل الفوز بالجدال. ردَدتُ الأمر لخوفه ربّما مِن الارتباط لمدى الحياة، ما يحصل أحيانًا للعروسَين قَبل الزواج بفترة قصيرة، فبقيتُ صابِرة على تصرّفاته.
لكن في أحَد الأيّام، حين كنتُ وسمير في البيت الجديد نقومُ ببعض التصليحات، قالَ لي خطيبي: "وما أدراكِ أنتِ؟ لستِ سوى امرأة! أنا الرجُل والقرار يعودُ لي وحدي! أفهِمتِ؟!؟". نظرتُ إلى عَينَيه، ورأيتُ على الفور النظرة ذاتها التي رأيتُها في عَينَي أبي حين كان يُحقِّر بأمّي. لَم أقُل له شيئًا، فخفتُ أن أستفزّه ونحن لوحدنا في البيت، وانتظرتُ أن نعودَ إلى العاصمة ونجلس في مكان عام لأقولَ له:
ـ إسمَع يا سمير... ما حصَلَ في البيت لا يُشبِهُكَ، فإمّا أنتَ مُمَثِّل بارِع واستطَعتُ أن تغشّني لمدّة سنة كامِلة، أم أنّكَ مُتأثِّر بأحَد ما يُعطيكَ النصائح المغلوطة. في الحالَتَين، إعلَم أنّني لن أقبَل أن يُكلّمني أحَد هكذا، أيًّا كان. إمّا أن تحترمَني، أو عليكَ أن ترحَل مِن حياتي. إضافة إلى ذلك، مسألة أنّ الرجال يفهمون أكثر مِن النساء خاطئة كلّيًّا، ولا أنصحُكَ باستعمالها لأنّ الأمر مُضحِك ومُخزٍ.
ـ أنا آسِف لكنّ أباكِ...
ـ ما به؟
ـ هو الذي حرّضَني قائلًا إنّني سأفقدُ السيطرة عليكِ إن لَم...
ـ السيطرة؟!؟ أهذا ما يعني الزواج بالنسبة لكَ؟ مسألة سيطرة؟!؟
ـ أعني أنّ على الرجُل أن...
ـ لا تُكمِل! فلا داعٍ لذلك، أرجوكَ. فالواضح أنّ أبي لَم يزرَع في رأسكَ تلك الأفكار، بل كلامه لكَ أيقظَها فقط. حسنًا، لا يوجَد سوى حلّ واحِد لهذه المُشكلة، وهو أن ننفصِل وأن يذهب كلّ منّا في سبيله.
ـ لا! فأنا أحبُّكِ.
ـ لا أظنّ ذلك، يا عزيزي. الوداع، فلن أُكرِّر غلطة أمّي وأعيش حياتها، لا، شكرًا!
فسَختُ خطوبتي وواجَهتُ أبي بالذي حاوَلَ فعلَه بعلاقتي بسمير:
ـ أنا ذاهبة للعَيش مع خالتي، وستبقى لوحدكَ مع غضبكَ وأفكاركَ السوداء، فيكفي ما رأيتُه ومرَرتُ به خلال طفولتي ومُراهقتي. لن تفعَل بي ما فعلَتَه مع أمّي، فإنّني أعلَم ما كنت تُخطِّط له، أنتَ أرَدتُ أن أتركَ خطيبي لأبقى معكَ، عالِمًا تمام العِلم أنّني لَن أقبَل معاملته لي مثل معاملتكَ لأمّي. وكنتَ مُحِقًا بذلك، لكنّكَ أخطأت بحساباتكَ، فلن أخدمكَ على الاطلاق، عليكَ مِن الآن فصاعِدًا أن تقومَ تلك الأمور بنفسكَ أو أن تتزوّج مِن جديد. أنا راحِلة.
إفلاتي مِن أبي أشعَلَ في قلبه نار الانتقام، فحاوَلَ منَع خالتي مِن استقبالي في بيتها، بِبَثّ الأكاذيب حولي وتشويه سمعتي أمامها. قولوا لي، أيّ أب يقولُ عن ابنته الوحيدة إنّها تبيع جسَدها للرجال؟!؟ أيّ أب؟!؟ لكنّ خالتي لَم تُصدِّقه أوّلًا لأنّها تعرِف كَم أنّ سيرتي نظيفة، وثانيًا لأنّها كانت تعلَم مَن هو أبي وكيف عامَلَ أختها.
رحَلتُ وقطَعتُ كلّ صِلة مع والدي وكان ذلك أفضل ما فعَلتُه، فمَع خالتي استطعتُ إيجاد ما كان يُشبِه علاقتي بأمّي الحبيبة التي كدتُ أن أُلاقي مصيرها.
تزوّجَ أبي مُجدّدًا، فكيف له أن يعيش مِن دون أن تكون له ضحيّة يُهينُها ويُهدِّدها ويُحقِرّها؟ لكنّ زواجه لَم يدُم، بل تركَته عروسته بعد أشهر قليلة. فهو لَم يفهَم أنّ نساء اليوم لسنَ كالنساء اللواتي سبقَتهنّ، فهنّ ترفُضنَ الذِلّ والإهانة والفوقيّة. نساء اليوم تُرِدنَ العَيش بسلام مع شريك حياتهنّ بالمُساوات، والاحترام، والتكافؤ. فهكذا تُبنى العائلات، وهكذا تُبنى الأوطان.
حاورتها بولا جهشان