كُره أمي للرجال قلَبَ حياتي

لَم أرَ حتى اليوم كُرهًا بقدر كُره والدَيَّ لبعضهما، ووجدتُ صعوبة لتصوّرهما مُتحابَّين في أيّ وقتٍ كان، حتى في فترات المواعدة أو الخطوبة. فالحقيقة أنّ هذَين الشخصَين لَم يجدُر بهما أن يلتقيا قط، لكنّهما إلتقيا وأنجباني في وقت كانا على شفير الطلاق.

تعرّفَ أبي على أمّي في الولايات المُتحّدة حيث هاجَرَ كلّ واحد مِن جانبه، ليلتقيا عند معارف مُشتركين أيضًا مِن البلَد نفسه. ولأنّهما لَم يتأقلَما بعد كلّيًّا على طريقة العَيش الأمريكيّة، وجدا أنّ مِن الأفضل الزواج مِمَّن يتشارك معه التقاليد والمنشأ واللغة نفسها. إلا أن طباعهما كانت مُختلفة اختلاف الليل والنهار وإنجابهما طفلة لَم يُصلِح أمورهما، خاصّة بالنسبة لأمّي. فهي كانت تُحبّ كلّ ما لَم يستطِع زوجها تأمينه لها، لِذا اختارَت أن تحبَّ غيره. وهي لَم تُحاول إخفاء علاقتها عن أبي طالما ذلك كان سيُثير غضبه، لكنّه اكتشفَ الأمر، وقرَّرَ تطليقها. وفي تلك اللحظة، بدأَت سلسلة أحداث غيّرَت حياتنا كلّنا.

أخذَتني أمّي ورحَلنا مع عشيقها إلى ولاية أخرى وذلك قبل أن يصدُر حكم الوصاية عليّ. لكنّها ربحَت الدعوى عن بُعد فأقنعَ محاميها القاضي أنّ هروبها معي كان لحمايتي مِن أبي مُدّعية أنّه كان يُعنّفُنا. وحصلَت أيضًا على نفقة عليه دفعها شهريًّا وإلا دخَلَ السجن. كنتُ آنذاك في الثالثة مِن عمري وبكيتُ لدى انفصالي عن والدي، فشأني شأن كلّ البنات، كنتُ مُتعلّقة كثيرًا به. وسرعان ما اقتنَعتُ أنّ الرجُل الذي أحبَّته أمّي هو أبي، فهكذا علّمَتني أن أُسميّه... لكنّه ترَكنا ذات يوم ولَم يعُد.

بكيتُ مُجدّدًا إلا أنّ والدتي وجدَت بسرعة رجُلاً آخر، وانتقَلنا للعَيش معه في بيته الكبير. والجدير بالذكر أنّ والدتي لَم تتزوّج أيًّا منهما لسبب علِمتُه لاحقًا، وهو لإلزام والدي بدفع نفقة لها، مع أنّ عشّاقها كانوا ميسورين. هي أرادَت فقط قهر أبي لأطوَل فترة ممكنة.

 

عشيق أمّي الجديد كان لطيفًا معي ومعها، وقدَّمَ لنا الراحة وكلّ مُستلزمات الحياة، لكنّه كان إنسانًا هادئًا ورصينًا، الأمر الذي لَم يُناسِب أمّي. لِذا، هي تركَته بعد سنة واحدة، ورحنا نعيشُ في فندق ريثما تجدُ والدتي مَن يصرفُ علينا مِن جديد.

مسيرتي المدرسيّة كانت مُتقطعة، لأنّنا كنّا نُغيّر مكان سكننا باستمرار أو نقضي فترات مِن دون استقرار مِن أيّ نوع. لَم يُزعجني الأمر كثيرًا إلى حين كبرتُ وبدأتُ أفهَم أنّ حياتنا ليست تقليديّة.

مِن جانبه، حاوَلَ أبي إيجادنا، مِن غير نتيجة، فالولايات هي بعيدة عن بعضها وشاسعة ولكلّ منها قانونها وحاكمها. وبعد أن ضربَه اليأس، قرَّرَ أخيرًا أن يتزوّج، فيحقّ له أيضًا أن يعرفَ السعادة مع إنسانة مُحبّة وحنونة. وعادَ وعروسه إلى بلَدنا الأم ليعيش بين ذويه.

 

مرَّت السنوات وأنا أشعرُ بعدَم الاستقرار بين الرجال الذين مرّوا في حياتنا، والسفَر مِن ولاية إلى ولاية والفترات الصعبة حين لَم يكن هناك مٍن مُعيل لنا. شكرتُ ربّي أنّ أمّي لَم تُنجِب مِن أيّ مِن عُشّاقها، فتصوّروا حالتنا لو كان هناك المزيد مِن الأولاد! إستطعتُ أن أُكمِلَ دراستي بشكل شبه جيّد، لكنّني لَم أُفكّر بدخول الجامعة بل إيجاد عمَل لترك أمّي والعَيش بعيدًا عنها، خاصّة أنّها كبرَت وصارَت تشرَب الكحول بكثرة لتنسى أنّها لَم تعُد تُعجِب الرجال كما في السابق. فباتَ عشّاقها مِن الفئات العاملة غير القادرين على تأمين حياة مُريحة لها.

حين صرتُ في الثامنة عشرة، ودّعتُ أمّي وعدتُ إلى البلَد وفي بالي شيء واحد، الاجتماع بأبي قبل أن أٌقرّر إن كنتُ سأعودُ إلى أمريكا أم العَيش مع أو بالقرب مِن الذي أعطاني الحياة.

بعد بحث، وجدتُ أبي وكان اللقاء مؤثّرًا، إذ أنّه بكى كثيرًا لأنّه لَم يتصوّر أبدًا أن يأتي يوم ونجتمِع مُجدّدًا، خاصّة في البلَد. روَيتُ له أحداث حياتي، وهو تأسّفَ كثيرًا أن أكون قد عشتُ في قلق دائم وعدَم استقرار نفسيّ. عرّفَني على زوجته وابنه، وسُعدتُ أنّ لي أخًا ولو أصغَر سنًّا. إستقبلَتني الزوجة بفرَح لكثرة حبّ أبي لي وكلامه المُستمرّ عنّي. فبعودتي عادَت أيضًا الفرحة إلى قلبه، وكأنّ كلّ شيء أخَذَ مكانه الصحيح.

 

وجدتُ عمَلاً جيّدًا، فكما نعرفُ يلقى الأجنبيّ مُعاملة مُختلفة في بُلداننا الشرقيّة، وبدأتُ أُرتّب حياتي الجديدة. بقيتُ على اتّصال مع أمّي عبر الهاتف والانترنت، فبالرّغم مِن كلّ شيء، هي لَم تُسيء مُعاملتي يومًا بل أصرَّت على أن أحظى بالأفضل، إن تواجَدَ. حبّها لي كان غريبًا، لكنّه كان حبًّا بالفعل.

وبعد أقلّ مِن سنة، طلبَت منّي والدتي إن كان بإمكاني استقبالها في الشقّة التي استأجرتُها للعَيش لوحدي. حاولتُ المُساومة، إلا أنّ وضعها الصحّي لَم يكن جيّدًا أو يسمحُ لها بالاعتناء بنفسها. طلبتُ رأي أبي وهو لَم يشأ التدخّل بشؤننا، ففي آخِر المطاف كان هو كالغريب بيننا. لَم يُطاوعني قلبي على ترك والدتي لوحدها ومرَضها في قارّة بعيدة، لِذا أرسلتُ لها ثمَن بطاقة السفر فوصلَت البلد بعد أسبوعَين.

للحقيقة، لَم أجِد والدتي مريضة، أو على الأقلّ بالقدَر الذي صوّرَته لي، فقلتُ لنفسي إنّ فكرة العَيش معي حسَّنت وضعها، وفرِحتُ لها. أخذتُها إلى أماكن جميلة لتستعيد ذكريات الطفولة حيث ترعرعَت وكبرَت قبل أن تُهاجر، وهي شكرَتني بحرارة. كان قلبي كبيرًا لدى فكرة العَيش أخيرًا بسلام واستقرار، وبدَت لي فكرة الزواج أقلّ بشاعة مِن قبل، فلا تنسوا أنّني ابنة والدَين مُطلّقَين وأمّ لَم تترك رجُلاً إلا وعاشَت معه قبل أن يرحَل ويتركنا... أو نتركه نحن.

 

بعد حوالي الثلاثة أشهر، دقَّ باب شقّتي رجُل طالبًا رؤية أمّي، وهي ركضَت لاستقباله بحرارة واضحة... أيّ بتقبيله على فمه! ثمّ جرَّته إلى الداخل وقالَت لي بفخر: "هذا هو رجُل حياتي!". هزَزتُ برأسي إذ أنّها كانت تقولُ الشيء نفسه عن كلّ عشّاقها، على الأقلّ في البدء. وحين رحَلَ ضيفنا، قلتُ لوالدتي بنبرة جدّيّة:

 

ـ عليكِ الرحيل... أجل، حتى لو كنتِ أمّي... فلقد قبِلتُ استضافتكِ بسبب مرض اتّضح لي أنّه وهميّ، وها أنتِ بالفعل بأفضل حال وعدتِ إلى عادتكِ السابقة. أُريدُ حياة طبيعيّة ولن تستطيعي تقديمها لي. لقد صدّقتُ لأوّل وهلة أنّني وجدتُ الطمأنينة أخيرًا إلا أنّه كان سرابًا. إذهبي وعشيقكِ بعيدًا، مِن فضلكِ. سأظلّ أُحبُّكِ لكن عليّ أن أهتمّ بنفسي ومُستقبلي.

 

ـ يا لكِ مِن ابنة عقوقة! بعد كُلّ الذي فعلتُه مِن أجلكِ!

 

ـ فعلتِ واجباتكِ كأمّ تجاهي وحسب... لَم تُفكرّي بتوازني النفسيّ الذي تأثّرَ بكلّ هؤلاء الرجال الذين كانوا يأتون ويرحلون... لَم تُفكّري بالمثَل الذي تُعطيه لابنتكِ في ما يخصّ الأخلاق والقيَم واحترام الذات.

 

ـ كلام فارغ! ها أنا بأفضل حال على خلاف ذلك الفاشِل أبيكِ.

 

ـ أبي إنسان مُحترَم أحبَّ امرأة وتزوّجَها شرعًا وأنجَبَ منها ولدًا يعيشُ بسلام وطمأنينة، على خلافكِ وخلافي. أنتِ لا تُفكّرين سوى بنفسكِ وبمُتعتكِ. ألا تشعرين بالعار مِن مسار حياتكِ؟ كيف ستواجهين حكم الله عليكِ؟

 

ـ أين كان الله حين ماتَ أبي وأنا صغيرة وتركَني وأمّي وأخوَتي مِن دون مال أو مكان نعيشُ فيه، لأنّ المرحوم كان مديونًا بسبب لعبه للمَيسَر؟

 

ـ جدّي كان يلعب المَيسَر؟

 

ـ أجل... إنّه سرّي... رحَلَ أبي وغُصنا في الفقر والتعاسة، وعمِلَت أمّي في أماكن حقيرة لجلب القوت لنا، المسكينة. وأبشع ما في الأمر هو أنها بقيَت تبكيه لآخِر أيّامها. أكرهُه وأكرَه كلّ الرجال!

 

عندها فهمتُ أنّ سبب تصرّفات والدتي إنّما هو عقدة نفسيّة عانَت منها بسبب موت أبيها وعَيشها في الخوف والقلّة. فأبرَمتُ معها إتّفاقًا: يُمكنها البقاء معي شرط أنّ ترى طبيبًا نفسيًّا. إلا أنّها عارضَت كثيرًا فأخذتُ أمتعتها ووضعتُها عند الباب. وأمام إصراري، قبِلَت أخيرًا والدتي رؤية أخصائيّ نفسيّ وبانتظام، فالوَيل لها إن لَم تذهب إلى جميع الجلسات!

لاحظتُ تغيّرًا مع مرور الأسابيع، فوالدتي لَم تعُد تخرج كثيرًا أو تجلبُ ذلك الرجل إلى البيت، لكّنني بقيتُ على حذري، فهي إنسانة ذكيّة للغاية. لكن ذات يوم عدتُ مِن عمَلي باكرًا ووجدتُها جالسة في الصالون تتصفّح ألبوم زفافها مِن أبي وكانت الدموع تنهار على خدَّيها. وقفتُ أمامها وهي قالَت لي:

 

ـ ربّما لَم يكن أبوكِ سيّئًا لهذه الدرجة... فقد كانت لنا أيّام جميلة... هو عاملَني جيّدًا لكنّني...

 

ـ أرأيتِ منفعة تفحّص الذات؟ سيرتكِ مع الرجال فيها نمَط يتكرّر، فلا يُعقَل أن يكون كلّ الرجال سيّئين... لا بّد أنّ الخطب منكِ.

 

ـ أجل... على ما يبدو. لكن...

 

ـ دعي الأيّام تُبيّن لكِ ما لا تعرفينَه عن نفسكِ ولا تُقاومي المُعالِج النفسيّ، فعلى ما يبدو هو يقوم بعمله جيّدًا. ماما... لطالما تمنَّيتُكِ أمًّا عادية كباقي الأمّهات، وليس مُراهِقة تركضُ دائمة وراء حبّ لن تجِده لأنّها تَمقتُ صنف الرجال بسبب أبيها. سأظلُّ أُحاوِل وأحاوِل ولن أستسلِم أبدًا.

 

حضَرت أمّي زفافي وكذلك أبي وعائلته الصغيرة، وكان الكلّ فرِحًا لي ولعريسي. وجدتُ لوالدتي عمَلاً في محلّ للألبسة النسائيّة وصارَ لها صديقات عديدات، ولا تزالُ تعيشُ في شقّتي التي تركتُها لأذهب إلى بيت زوجي. وأغرَب ما في الأمر أنّها تزورُ والدي وعائلته بانتظام وكأنّهم أصدقاء قُدامى. هي توقّفَت عن مُعاشرة الرجال بعد ما استوعبَت أنّها ليست بحاجة لحبّهم بل أنّ ما لدَيها يكفي لإسعادها.

كَم أنّ عِلم النفس بإمكانه مُساعدة مَن هم بحاجة لعلاج نفسيّ، وكَمّ مِن ناس ظُلِموا أو ظلَموا بسبب عقدة نفسيّة لا يلزمُها سوى مُعالِج بارع وصبر. فقد اتضَحَ أنّ أمّي ليست إنسانة سيّئة بل امرأة مجروحة كانت لا تزال تُعاني مِن تداعيات طفولتها، الأمر الذي أوقعَها في ضياع كلّفَها مُعظم حياتها. وأستطيع القول إنّ شفاء والدتي أدّى إلى شفائي أيضًا، فكان بإمكاني أن أصبَحَ أنا الأخرى أنظرُ نظرة بشِعة إلى الرجال أو العلاقات عامّة. فكما نربى نكبُر.

 

حاورتها بولا جهشان

 
المزيد
back to top button