كيف صدّقت أكاذيبه؟

كيف وصَلت بي الأمور إلى الوقوع في حبّ هكذا رجل، بالرّغم مِن ذكائي ومستوايَ العلميّ والثقافيّ وشخصيّتي القويّة؟ ربّما لأنّ القلب يُسكت المنطق ويحجب الرؤية، ويحملنا على القيام بما لم نكن لنفعله في ظروف عاديّة.

كان وسام شابًا عاديًّا مِن كلّ النواحي، وأنا فتاة مميّزة بجمالي وشهاداتي وثروتي. وأظنّ أنّه كان على علم منذ البدء بِمَن أكون، وأنّ لقاءَه بي لم يكن صدفة كما بقيَ يدّعي طوال سنين.

أحببتُه ليس على الفور بل على مرّ الأيّام، بعد أن أعجبَتني بساطته، فكنتُ قد سئمتُ مِن محيطي المتعالي والأحاديث اللامتناهية عن المال والأعمال والمشتريات والمقتنيات. لم يكن وسام يملك شيئًا سوى رغبته بالاستمتاع بالحياة كهديّة مِن الخالق، على الأقل هذا ما كان يقوله. معه زرتُ أماكن لم أكن أعلم بوجودها، وتعلّمتُ أن أقدّر جمال الطبيعة التي لم يلمسها إنسان، والجلوس على الأرض لتناول الأكل محاطة بالأنهر والجبال الشامخة. معه ركبتُ سيّارة قديمة الطراز تتعطّل مِن دون إنذار، الأمر الذي كان يُضحكنا ويزيد مِن ذكرياتنا الطريفة والفريدة.

أخَذَني إلى بيته حيث تعرّفتُ إلى ذويه، أناس بسطاء مِن جميع النواحي، وأكلتُ مِن طعامهم اللذيذ وجلستُ مع والدته التي روَت لي عن طفولة ابنها. كنتُ فتاة سعيدة.

لم يكن وسام كسولاً بل كان يُحضّر أطروحة في الأعمال، وينوي الوصول إلى مراكز تمكنّه مِن "الاهتمام بفتاة مثلي" وكنتُ فخورة به. لكنّ قلبي كان مليئًا بالخوف مِن اللحظة التي سيأتي حبيبي ويطلب يدي مِن أهلي، فقد كان مِن شبه المستحيل أن يقبلوا به. لِذا قرّرتُ أن أساعده معنويًّا وخاصّة ماديًّا لتحسين أحواله. رفَضَ وسام بقوّة أن يأخذ المال منّي ولكنّني أقنعتُه أن يفعل، هذا لو كان يُريد حقًّا أن يُمضي باقي حياته معي.

 


وهكذا دفعتُ ما يلزم ليُكمل مسيرته التعليميّة، خاصّة بعد أن علمتُ أنّ المنحة التي حصَلَ عليها كانت على وشك الانتهاء. لم أكتفِ بذلك، بل أخذتُه إلى أفخم المحلات واشترَيتُ له الملابس والأحذية الجميلة. كنتُ أريده أن يكون الأفضل وألا يخجل مِن نفسه وهو برفقتي، بعد أن شعرتُ أنّ تردّده بالخروج معي إلى أماكن عامّة كان سببه عدم تمكنّه مِن الظهور بمظهر لائق.

يوم قدوم وسام إلى بيتنا كان مرعبًا جدًّا. كنتُ قد حضّرتُ أمّي مسبقًا، قائلة لها إنّ ذلك الشاب هو صحيح فقير ولكن ذو مستقبل واعد. إلا أنّها لم تعدني بأن تقنع أبي بالقبول به.

وما كنتُ أخشاه حصل، فبعد أن سألَه أبي بضع أسئلة واكتشَفَ أنّ وسام فقير، ويعيش في ناحية مِن المدينة توصَف بالشعبيّة وأنّه المعيل الوحيد لأمّ وثلاث إخوة، قال له إنّه غير مناسب لي وإنّ عليه البحث عمَّن يليق به. كان كلامه جارحًا وبدأتُ بالبكاء بينما خَرَج حبيبي مكسور الخاطر.

ونتيجة لذلك اللقاء، قرَّرَ وسام أن يتركني وشأني ووعدَني بألا يتّصل بي مجدّدًا، الأمر الذي أثارَ استنكاري وغضبي وحزني العميق. لم أقبل بأن يبتعد عنّي حبيبي وأن يُقرّر والدي بنفسه مسار حياتي. طلبتُ مِن وسام أن نلتقي للتحدّث بالأمر، وحين جلسنا سويًّا قال لي:

 

ـ لن يقبل بي أحد مِن ناحيتكِ ما لم أثبتَ لهم جدارتي... عليّ إنهاء أطروحتي في مكان راقٍ... ولقد بعثتُ طلبًا إلى جامعة معروفة في بريطانيا وقبلوا بي ولكن...

 

ـ لكن ماذا يا حبيبي؟

 

ـ التكاليف باهظة! خاصّة أنّني سأكون مُجبرًا على العيش في حَرَم الجامعة بصورة مستمرّة، ناهيكِ عن عدَم قدرتي على الصّرف على أهلي... وكيف لي أن أتركهم يموتون جوعًا؟ ربمّا مِن الأفضل أن تنسيني وتبحثي عن آخر... لا أستحقّكِ...

 

ـ لا تقل ذلك! أنسيتَ أنّني ثريّة؟

 

ـ مصروفكِ الخاص لن يكفي لتغطية كلّ هذه التكاليف.

 

ـ بلى! ألم أقل لكَ إنّني أملك حسابًا مصرفيًّا يضع فيه أهلي المال بانتظام لتأمين مستقبلي؟

 

ـ أعرف ذلك ولكن هذا الحساب هو، كما قلتِ، لمستقبلكِ.

 

ـ مستقبلي هو معكَ، فهذا المال هو مالكَ أيضًا.

 

ـ وأهلي؟

 

ـ أهلكَ هم أهلي أيضًا.

 

كيف لم أرَ الفخ الذي يُنصَب لي؟ كيف وقعتُ فيه بإرادتي؟ حتى اليوم لم أجد أجوبة على تلك التساؤلات.

سافَرَ وسام بعد أن تكفَّلتُ بجميع المستلزمات، وكان الوداع مؤثّرًا ووعدتُه بأن أهتمّ بذويه أثناء غيابه.

بقينا على تواصل مستمرّ عبر الفيسبوك والسكايب والواتساب، وكنتُ فخورة بحبيبي وبنفسي. فبنظري كنّا نبني مستقبلاً سويًّا ونتحدّى سلطة ذوي المال والنفوذ.

 


بدأتُ أبعث لحبيبي وأهله المال شهريًّا، وكانت المصاريف تتزايد لدرجة أنّني لم أعد قادرة على شراء أيّ شيء لنفسي خوفًا مِن أن أضطرّ لطلب مساعدة مِن أهلي وكشف ما يحصل. ولكنّني لم أكن مستاءة أبدًا، حتى عندما لم يعد وسام قادرًا على المجيء لرؤيتي في فرصة العيد كما كان مُتّفَقًا عليه. صبرتُ لأشهر ومِن ثمّ لسنة ومِن بعدها أخرى وتلَتها الثالثة، ولم يفهم أحد إصراري على عدم الزواج مِن أحد الشبّان الكثر الذين كانوا يتقدّمون لي. كيف لي أن أفعل وقلبي متيّم بوسام؟ الأمر الوحيد الذي كان يُزعجني هو أنّ حبيبي لم يعد يُجيب على اتصالاتي كالسابق، وذلك لكثرة انشغاله بالأطروحة.

كان قد مضى على رحيل حبيبي أكثر مِن ثلاث سنوات، حين قال لي أخوه الأصغر عندما ذهبتُ لزيارة "حماتي المستقبليّة":

 

ـ إسمعي... ليس عليكِ الصّرف علينا فأنا أعمل وأجني المال وكذلك أخي الثاني... وليس عليكِ مساعدة وسام.

 

ـ لماذا تقول ذلك؟ هو على وشك الحصول على الدكتوراه، لم يتبقَّ له سوى القليل.

 

ـ لن أنسى ما فعلتِه مِن أجلنا فأنتِ فتاة طيبّة... لِذا سأقول لكِ ما يجري... وسام تزوّج مِن مواطنة بريطانيّة.

 

وقَعَ الخبر عليّ كالصاعقة ورفضتُ تصديق ذلك الشاب، ولكنّني اتّصَلتُ على الفور بوسام لأسأله عن الأمر. لم يُجب بل اتصل بي في المساء. وعندما قلتُ له إنّني على علم بزواجه قال لي بكلّ هدوء:

 

ـ فعلتُ ذلك مِن أجلنا حبيبتي... إنّه زواج أبيض ولا أرى تلك المرأة إلا عندما تخبرني أنّ هناك تفتيشًا... أرَدتُ نيل الجنسيّة لتسريع الأمور هنا وجلبكِ إليّ عندما أنتهي، فإذا بقيَ أبوكِ يرفض، سنتزوج في بريطانيا حيث أكون قد بدأتُ العمل.... لم أقل لكِ شيئًا كي لا أشغل بالكِ ولكن ثقي بأنّ كلّ ما أفعله هو مِن أجلنا... أريد الأفضل لكِ خاصّة بعد كلّ تضحياتكِ... أنتِ رائعة... أنتِ ملاكي.

 

لم أهدأ إلا بعدما وعَدَني بتطليق زوجته فور نَيله الدكتوراه، وأكَّدَ لي أنّها على علم بأنّه سيفعل.

صحيح أنّني سامحتُه على ما فعَلَه ولكنّني لم أعد مرتاحة البال، فإخفاؤه لزواجه كان كذبة كبيرة هزَّت ولو بعض الشيء ثقَتي القويّة به. ...ومرَّت سنة أخرى لم أتكلّم مع وسام خلالها كثيرًا، لأنّه كان يخشى لفت انتباه الحكومة البريطانيّة فتكتشف أنّه تزوَّجَ صوريًّا، الأمر الذي كان ممنوعًا طبعًا.

وعندما أنتهى أخيرًا وسام مِن أطروحته ونجَحَ بامتياز، توقّعتُ طبعًا أن يأتي إلى البلد، على الأقل ليراني. لكنّه لم يفعل لأنّه وجَدَ عملاً في إحدى الجامعات وكانت الدروس ستبدأ بعد أيّام. بكيتُ بحرارة لأنّني لم أرَ حبيبي لأكثر مِن أربع سنوات، ولكنّني نشّفتُ دموعي عندما أكَّدَ لي أنّه طلّق زوجته وأنّ عمله في الجامعة سيسمح له بأخذي إلى هناك بعد أشهر قليلة.

أظنّ أنّني كنتُ سأصرف القليل المتبقّي لي على وسام لولا تدخّل مِن القدر. فذات يوم، عندما كنتُ أتنقّل بسيّارتي، رأيتُ الرجل الذي سكَنَ قلبي وكياني لسنوات جالسًا في مقهى، هنا في البلد، وبرفقته امرأة وولد صغير. أوقفتُ مركبتي وسط الطريق، وركضتُ كالمجنونة إليه أصرخ:

 

ـ أنتَ هنا ولا تخبرني بالأمر؟

 

ـ جئتُ البارحة في الليل، وكنتُ أودّ ابقاء الأمر مفاجأة لكِ حين التقَيتُ صدفة بصديقة قديمة لي دعَتني لشرب القهوة.

 

نظرتُ إلى المرأة والطفل وكان مِن الواضح أنّهما أوروبّيَان، فسألتُها بالإنكليزيّة مَن تكون وأجابَتني مبتسمة: "أنا زوجة وسام وهذا ابننا وأنتظر مولودًا."

صفَعتُ وسام بكامل قوّتي مفرغة عليه كلّ الكلام الذي أتى إلى رأسي. أمّا هو، فاكتفى بالقول: "لم أجبركِ على شيء... وإن كنتِ فتاة مدلّلة وبلهاء فهذا ليس ذنبي... إذهبي مِن هنا، فأريد أن أجلس بهدوء مع عائلتي."

شعَرتُ بالأرض تدور مِن حولي، وبالكاد إستطعتُ العودة إلى سيّارتي وقيادتها حتى البيت. هناك أخبرتُ أمّي كل شيء وهي واستني بعدما وبّخَتني. سويًّا قرَّرنا عدم اخبار أبي بما حدَث، ولكنّها قالت لي:

 

ـ هذا درس دفعتِ ثمنه غاليًا يا ابنتي... إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الحياة انتهَت بالنسبة لكِ، بل أنّها بدأت للتوّ... الآن صرتِ ناضجة وستختارين بتأنٍّ رفاقكِ... لا تظنّي أنّ كلّ الرجال مثل وسام ولا تحسبي نفسكِ بلهاء، بل قولي إنّه غشّاش وإنّكِ استمَعتِ إلى قلبكِ فقط... ستحزنين لفترة قد تكون طويلة، ولكن اعلمي أنّ حزنكِ لن يكون على وسام أو لأنّكِ اكتشفتِ حقيقته، بل على نفسكِ لأنّكِ وقعتِ في فخّه. لذلك أقول لكِ: لا تشعري بالذنب طويلاً، بل احمدي ربّكِ أنّ المسألة أخَذَت سنوات قليلة مِن حياتكِ وليس عمركِ كلّه.

لم أتزوّج بعد، ولكنّني نسيتُ حزني وأركّز على عملي ومستقبلي، وأنا متأكّدة مِن أنّني سأشفى تمامًا مِن جرحي وأجد الذي سيخطف قلبي مِن جديد.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button