كيف خلّصت أولادي من أبيهم

لو استطعتُ ذلك لأنقَذتُ ابني سمعان في الوقت المناسب مِن أبيه، ومكّنتُه مِن العيش كباقي الناس، ولكنّ زوجي كان ولا يزال إنسانًا متسلّطًا لا يقبل الجدال أو التدخّل مِن قِبَل أحد في شؤونه كـ"ربّ الأسرة".

وفهمتُ ذلك منذ اليوم الأوّل، ولو كان أهلي أكثر تفهّمًا لركضتُ إليهم ونسيتُ أمر ذلك الزوج الطاغي.

وهكذا عشتُ مسلوبة الارادة أصبّ اهتمامي على أولادي الثلاثة، وأكبّرهم على أمل أن يرحلوا وبسرعة مِن البيت.

ولكنّ خالد زوجي كان يكنّ لنفسه وللمال حبًّا عظيمًا، فأرسل ولدَينا الكبيرَين إلى العمل باكرًا وكان يأخذ منهما راتبهما فور وصوله. أمّا ابني الثالث سمعان، فكان لا يزال صغيرًا ليكون بعد محطّ جشع إبيه.

ووجدتُ لولَدَيَّ عروستَين وأقنعتهما بالزواج على الفور. وهذا ما حصل بالرّغم مِن ممانعة أبيهم الذي رأى في ذلك خسارة راتبَيهما.

في الفترة الأولى، بقيَ ولدانا يُرسلان لنا بعض المال شهريًّا، ولكنّهما توقّفا عن ذلك بعدما وجدا أنفسهما مقصِّرين مع عائلتهما. وحين انقطَعَ المصروف، فقَدَ زوجي أعصابه مِن كثرة الغضب، وبدأ يشتم ويتأسّف على جلب هذَين "البخيلَين" إلى الدنيا.

وأدارَ خالد اهتمامه على ابننا سمعان، أي الابن الوحيد الذي تبقّى له، آملاً أن يُحسن تربيته.

وبدأَت عمليّة "القَولبة"، أي أنّه زرَعَ في عقل سمعان وقلبه الخوف مِن كلّ ما يُحيط به، وأقنعَه بأنّ البيت هو المكان الوحيد الآمن وأنّ والدَه هو الوحيد الذي يُحبّه.

وكبر سمعان وحيدًا لا أصدقاء له ولا هوايات. كان يجلس طوال الوقت يقرأ ويدرس، لأنّ خالد قال له إنّ الدرس هو ما سيُؤمّن له مستقبلاً آمنًا. ذهابه إلى المدرسة كان بمثابة عذاب له، وكان يجلس على طاولة منفردة ليبتعد قدر المستطاع عن رفاقه.

حاولتُ كثيرًا أخذ ابني إلى أمكنة تروّح عنه أو عند أقارب لدَيهم أولاد بسنّه، ولكنّه كان يخاف منهم ومِن الأمراض التي يُمكنه التقاطها من التواجد معهم. مِن أين جاء بتلك الأفكار؟ مِن أبيه طبعًا. فقد كان زوجي يدفعه بتلك الطريقة على عدم الابتعاد عن البيت وتركه كما فعل أخواه.

 


وحين أصبحَ ابننا في سنّ يسمح له بالعمل، كان قد حان الوقت له ليلتحق بالخدمة العسكريّة، الأمر الذي كان يعني ابتعاده عن البيت واختلاطه بشبّان مِن عمره كانوا سيُقوّونَه بإخباره كيف يعيشون في بيوتهم، ناهيك عن الخدمة بحد ذاتها التي كانت ستجعل منه رجلاً بكلّ معنى الكلمة.

عندها قَصَدَ خالد طبيبًا نفسيًّا يعرفه أحد أصدقائه، وأقنعَه بواسطة بعض المال أن يكتب تقريرًا يفيد بأنّ سمعان غير متوازن عقليًّا، أي بكلمات أخرى غير صالح للخدمة. كان زوجي يعلم أنّ ذلك التقرير مقرونًا بالفحص الطبّي الذي سيُجريه طبيب الجيش، سيُعطي ثماره خاصة أنّ ابننا كان يُعاني فعلاً مِن اضطراب الوسواس القهريّ الذي ولّده تخويف خالد له مِن كلّ ما يُحيط به ومِن عدم شعور المسكين بالأمان. فكان ابني يغسل يدَيه مئة مرّة في اليوم، ويخشى الاختلاط بالناس والامساك بأغراض غيره.

ونجحَت خطّة زوجي، ولم يذهب ابننا إلى الخدمة وبقيَ معنا. عندها فتّشَ خالد له عن عمل، وأقنعَه أنّ الوظيفة بمكتب محاسبة هي آمنة خاصة أنّها لا تلزمه بالتواجد مع الناس بل العمل لوحده في مكتب نظيف.

وبالطبع قَبِلَ سمعان لأّنّه كان يثق كثيرًا بأبيه وقليلاً بي بعدما حرَّضَه خالد ضدّي قائلاً: "أخواكَ هربا منها ولكنّكَ انتَ أقوى منهما... كلّ ما عليكَ فعله هو الاستماع إليَّ... دعكَ منها فهي ليست فالحة سوى للطبخ والتنظيف... خلاصكَ معي أنا".

وهكذا بدأ زوجي يأخذ راتب سمعان الذي لم يكن للحقيقة بحاجة إليه، لأنّه لم يكن يخرج أو يشتري شيئًا سوى الكتب. كان يترك له القليل كي لا يثور يومًا ضدّه، الأمر الذي سمَحَ له بشراء ما يقرأه عندما يعود مِن العمل. وأنا كنتُ أتفرّج عليهما غير قادرة على فعل شيء بعدما أمسيتُ مبعدة ومكروهة.

وكان زملاء سمعان يُقيمون الحفلات والسفرات، وبالرّغم مِن خوفه مِن الأنضمام إليهم كان يحسدهم ضمنيًّا، وحين قال ذات مرّة لأبيه أنّه يودّ الذهاب معهم في رحلة سياحيّة داخل البلاد، صَرَخ به خالد:

 

ـ هل فقَدتَ عقلكَ؟ تريد أن تموت؟ قد ينقلب الباص بكم أو تقع وأنتَ تمشي في تلك الأماكن الوعرة أو تأكل شيئًا يُسبّب لكَ التسمّم! أيّها المسكين! مِن الجيّد أنّكَ أخبرتَني بالأمر... وإلا لحصَلَت لكَ مصيبة!

 


وكنتُ أرى الحزن في عَينَي ابني، وأحاول إقناعه بالذهاب وبأنّ لا شيء سيحصل له ولكنّه كان يُجيبني: "وما أدراكِ أنتِ؟ أبي على حق ويُريد مصلحتي".

ولكن كان لا بدّ للحياة أن تأخذ مجراها، فقد وقعَ ابني بحبّ زميلته، الأمر الذي لم يكن ليتقبّله أبوه، لأنّ ذلك كان يعني أنّ سمعان سيتزوّج ويُكرّر السيناريو نفسه الذي حصَلَ مع أخوَيه. وكان خالد يُريد ابقاء ابنه إلى جانبه مِن أجل المال ومِن أجل أن يخدمه عندما يشيخ. فقد كان زوجي يعتقد أنّني سأموت قبله وأتركه لوحده وكان لا بدّ له أن يجد لي بديلاً. لِذا بدأ يُخيفه مِن النساء قائلاً إنّهنّ تحملنَ أمراضًا كثيرة وإنّهنّ متطلّبات ومزعجات "تمامًا كأمّكَ".

إلا أنّ عاطفة سمعان وغريزته كانتا أقوى مِن مخاوفه، فبقيَ مصرًّا على الزواج مِن التي أيقظَت فيه رجولته.

وعندما قَبِلَ خالد أن يطلب تلك الصبيّة له، وجدتُ صعوبة في تصديقه وكنتُ على حق. فعندما ذهبنا لزيارة أهل العروس قال لهم خالد:

 

ـ عليّ أن أكون صريحًا معكم، فأنا رجل صادق ونزيه ولا أرضى أن أغشّ أحدًا... إبني غير صالح للزواج وهذه الورقة تثبت أنّني أقول الحقيقة... هذا تقرير طبيب نفسيّ وهذا اعفاء ابني مِن خدمة الجيش بسبب اضطرابات نفسيّة حادّة.

 

نَظَرَ إليه سمعان وبدأ بالصّراخ والبكاء، الأمر الذي أكَّدَ للحاضرين ما قالَه أبوه عنه. حاولتُ الدفاع عن ابني ولكنّ خالد أضافَ: "أخَذَ جنونه مِن أمّه". وتركنا المكان بسرعة ولم نتفوّه بكلمة طيلة طريق العودة. وعندما وصلنا إلى البيت، ركَضَ ابني يختبئ في غرفته وأنا لحقتُ به، وهذا ما قلتُه له:

 

ـ أبوكَ رجل أنانيّ وفاسد... لا يُحبّ سوى نفسه... لن يدعكَ تعيش حياتكَ تمامًا كما فَعَل معي... تكرهني ولكن هل سألتَ نفسكَ لماذا؟ ماذا فعلتُ لكَ؟ كلّ ما لدَيكَ ضدّي هو ما قالَه أبوكَ عنّي. أليس لدَيكَ قراركَ الخاص؟ إسمع... ما فعَلَه بكَ أبوكَ الليلة هو إثبات قاطع على ما أقوله لكَ الآن... إن كنتَ تريد العيش كباقي الناس وتكون سعيدًا يومًا، فعليكَ الرّحيل وبأقرب وقت... سأكلّم أخوَيكَ وستذهب إليهما غدًا... ولا تعد إلى هنا، أفهمتَ؟

 

ـ وأنتِ؟

 

ـ أنا؟ أنا اعتدتُ عليه ولم يعد لدَيَّ مستقبل لأعمل مِن أجله... المهمّ هو أنتَ... إرحل وعِش كما يحلو لكَ... إنسَ الأمراض والفيروسات فالعالم مليء بالمفاجآت السارّة والحبّ والأمل... إذهب إلى طبيب ليُساعدكَ على مواجهة العالم الخارجيّ.

 

ـ أنتِ أيضًا تقولين عنّي إنّني مجنون؟

 

ـ لا يا حبيبي... لستَ مجنونًا بل أنت ضائع بسبب أبيكَ... ستكون بخير، صدّقني.

 

عانقتُه بقوّة وبكى في حضني. وفي صباح اليوم التالي، قبّلتُه وهو ذاهب إلى العمل وهمستُ في أذنه: "أخواكَ بانتظاركَ... إيّاكَ أن تعود". ورحَلَ سمعان ولم يعد إلى البيت. تحمّلتُ غضب زوجي لفترة طويلة ولكنّني كنتُ سعيدة.

اليوم وبعد أن تزوّجَ سمعان مِن فتاة طيّبة أستطيع أن أكمل حياتي. صحيح أنّني أعيش مع وحش كريه، ولكنّني أتحملّه بفرح بعدما أنقذتُ أولادي منه. على كلّ حال، لن يعيش خالد إلى الأبد.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button