عندما ولدتُ لم يتوقعّ أحدٌ المصير الذي كان ينتظر عائلتي وينتظرني أنا بالأخصّ. فبعد أن جاء أخي الصغير إلى الدنيا بسنوات قليلة، مات أبي وهو يقطع الطريق وبقينا مع أمّنا نتخبّط دون مدخول حتى أن وجدَت أخيراً عملاً بسيطاً في إحدى المؤسّسات تحضرّ قهوة للزوّار. ولكن بعد فترة بدأت المسكينة تشعر بألم حاد في صدرها وإكتشفنا بأنّه سلّ سريع وفتّاك.
كنتُ آنذاك في الحادية عشر مِن عمري ووجدتُ أنّ الحياة ظالمة لأنّني كنتُ سأضطّر لِترك مدرستي ورفاقي وكل الذي جعلَ منّي فتاة عاديّة. وبدأتُ أعتني بأمّي المريضة وبِعزيز أخي. كنتُ أذهب إلى مستوعبات القمامة الموجودة قرب المطاعم والسوبرماكات وأحاول إيجاد ما يمكننا أكله. أمّا بالنسبة لأدوية والدتي، فكان طبيب المستوصف يدبرّها لها مجّاناً. وأتذكرّ تماماً كيف كنتُ آخذ كيساً كبيراً وأقصد المستوعبات دون أن يراني أحد وأصعد إلى داخلها وأقلّب بيّدي القمامة وأنا أبكي مِن العار والإستنكار. أحياناً كنتُ أجد أشياء يمكنني بيعها أو مقايدتها مقابل مستلزمات منزليّة وأحياناً أخرى كنتُ أعود فارغة اليدَين.
وبالرغم أنّ والدتي وأخي كانا يعلما مِن أين يأتي الطعام، كانا يتصرّفا وكأنّني إشتريتُه كباقي الناس. ولكثرة مكوثي خارج المنزل للبحث عن القوط أصبح لي أصدقاء لا يتعرّف عليهم المرء سوى في الشارع كالمتسوّلين والنشّالين والقوادّين وكان جميعهم يكنّون ليّ محبّة وأحتراماً مميزّاً لأنّهم كانوا يعلمون مدى صعوبة ظروفي وكبر مسؤوليّتي. وكانوا هؤولاء ورغم أوضاعهم الخاصة يحاولون دائماً مساعدتي، فكانوا يآتون ليّ بما وجدوه هنا وهنا كالألبسة لي وألعاب لعزيز. وأسموني"الفتاة الخارقة" ما أشعرَني بالقوّة وأعطاني معنويّات عاليّة.
ومضَت الأيّام والأشهر والسنوات ولم يتغيّر شيء في حياتنا سوى أنّ أمّي أصبحَت على شفير الموت وإحترتُ في أمري لأنّني لم أكن قادرة على فعل أي شيء في هذا الخصوص. أمّا عزيز فكان لا يزال صغيراً ليساعدني ولم أكن أريد له أن يحظى بمصيري بل أن يدخل المدرسة ويحصل على شهادة تؤمّن له مستقبلاً أفضل.
ولكن في ذات يوم عدتُ إلى المنزل ولم أجد سوى أخي. وعندما سألتُه عن أمّنا قال لي:
ـ نامَت ولم تستفيق... حاولتُ أيقاظها وعندما لم أستطع قرعتُ باب الجيران وأتوا لها بالإسعاف... هي بالمستشفى... خذي... دونوّا ليّ الإسم والعنوان...
وركضتُ كالمجنونة إلى المستشفى المذكور وحين وصلتُ وسألت عن والدتي نظروا إليّ بأسف وأخبروني أنّها ماتت.
كنتُ في السادسة عشر مِن عمري وكنتُ قد أصبحتُ يتيمة. وعدتُ كئيبة إلى البيت لأشرح لأخي الصغير أنّنا صرنا لوحدنا لأنّ القدر شاء ذلك. وبكينا سويّاً كثيراً ووعدتُه بأنّ أحوالنا لن تبقى هكذا وأقسمتُ له أنّني سأجد طريقة لتغيير مصيرنا مهما كلفّ الأمر. وعانقَني المسكين وقال لي باكياً:"أصدّقكِ... فأنتِ لم تكذبي عليّ يوماً." وفي تلك اللحظة أدركتُ مدى مسؤوليّتي تجاه هذا الفتى الذي كان يرى فيّ فرصة نجاته الوحيدة. وذهبتُ فوراً إلى الشارع أطلب المساعدة مِن أصدقائي. نظروا إليّ بأسف لأنّ حالتهم لم تكن أفضل مِن حالتي ولكن أحدهم قال لي:
ـ هناك مايك...
ـ أتقصد مايك القوّاد؟
ـ أجل...
ـ هل فقدتَ عقلكَ؟ يجدر بي أن أصفعكَ الآن! مَن تخولني أكون؟ صحيح أنّني فقيرة ولكنّني شريفة!
ـ أعلم يا نجاة...أعلم... ولكن عليكِ إيجاد المال لأخيكِ... أعذريني.
لم أنم جيّداً تلك الليلة وأنا أفكرّ بما قالَه ذلك الرجل وحاولتُ إيجاد حلاًّ آخراً. صحيح أنّني كنتُ أستطيع إيجاد عملاً بسيطاً مثلما فعلَت أمّي في السابق ولكنّ المال الذي سأجنيه لن يكون كافياً لإرسال أخي إلى المدرسة وشراء الملابس والكتب له وإيجاد مَن يبقى معه في البيت أثناء تواجدي في العمل. لِذا قصدتُ في اليوم التالي المدعو مايك وتكلّمتُ معه مطوّلاً. وهذا ما قالَه لي:
ـ لا أظنّ يا نجاة أنّكِ صالحة لهذا العمل...
- ولِما تقول ذلك؟
ـ لأنّني أعرفكِ منذ ما كنتِ صغيرة... أنتِ فتاة طيبّة... لستِ كفتياتي...
ـ صحيح أنّني طيبّة ولكنّني أقسمتُ لأخي أن أغيّر حياته... هل تعرف طريقة أخرى لأفعل ذلك؟
ـ بوضعكِ؟ لا
ـ حسناً... أريد العمل عندكَ... ولكن أريد أفضل الزبائن... أريد مالاً كثيراً وبِسرعة... أفهمتَ؟
ـ أجل... وإن أردتِ التراجع يوماً...
- ما يهمنّي هو الآن.
لن آتي على ذكر تجربتي الأولى لأنّها كانت صعبة جدّاً ومؤلمة جسديّاً ونفسيّاً وكلّ ما فكرّتُ به في تلك الليلة هو أنّني أفعل ذلك لأجل عزيز وكل شيء آخر لا أهميّة له. بكيتُ كثيراً عند عودتي إلى البيت وركضتُ أقبّل أخي وهو نائم وأمسّد شعره قائلة: "كل شيء سيجري كما يجب." وهكذا بدأتُ أبيع جسدي لِمن يدفع ثمن خدماتي وحظيتُ بزبائن عدد بسبب سنّي اليافع وقدراتي على العمل ساعات طويلة. وبدأ المال يوصل إلى يديّ وأوّل شيء فعلتُه هو تسجيل عزيز بمدرسة جيّدة لأعطيه الفرَص التي لم أنالها.
وتابعتُ عملي رغم أنّني كنتُ أكره نفسي في كلّ مرّة وما جعلَني أصبر على حالي هو يقيني أنّني أفعل ذلك لا لأنّني سيّئة بل لأنّني واجهتُ ظروفاً أقوى مِن مبدأ الشرف والقيَم الحميدة. وكبُرَ عزيز وعلمَ بطبيعة عملي مِن رفيق له في المدرسة الذي قال له:"لماذا كلّ هذا التعالي فأنتَ في النهاية أخ مومس." وبعد أن صفعَه أخي ركض يسألني إن كان هذا الكلام صحيح فلم أجِبه لأنّني خجِلتُ منه ومِن نفسي ولكنّه فهِمَ الحقيقة. ولم يقل شيئاً بل فضّلَ الذهاب إلى الغرفة والبكاء بصمت.
وحين حان الوقت لكي يدخل الجامعة إختار الطب لأنّه وحسب قوله يريد إنقاذ كل أمّهات العالم. وبدأ يعمل في مقهى مجاور لكلّيته وعرضَ عليّ ترك عملي ولكنّني لم أقبل:
ـ لا يا حبيبي... لم يعد لي شيئاً لأخسره... تابع دراستكَ... هذا ما يهمنّي... وأترك الباقي عليّ.
ومع الوقت خفّ عدد زبائني لأنّني كنتُ بدأتُ أفقد محاسني وصحّتي بسبب الحياة التي عشتُها وبدأتُ أمرض بإستمرار.
وفي أحد الأيّام وقعتُ على الرصيف وأُغميَ عليّ فاخذَني الناس إلى المستشفى حيث كان عزيز يتابع دورة تدريبّية. وعندما رآهم يدخلونَني إلى قسم الطوارئ ركضَ ليرى ما حصلَ لي. وفتحتُ عيوني ورأيتُه وإبتسمتُ له قائلة:"أترى؟ لم يذهب شيء سدىً."
وفي تلك اللحظة جاء زميل له وقال:"أعرفُها... أقصد أراها واقفة على الطريق... أنّها مومس!" نظرَ إليه عزيز وأجابَه:"أجل... وهي أيضاً شقيقتي... وأعتزّ بها لأنّها أوصَلتني إلى ما أنا عليه... وأريد أفضل طبيب لها... هيّا!"
حاورتها بولا جهشان